شميت متسلّلًا إلى موسكو: من كتاب التسلّطيّة في روسيا

في الوقت الذي دفع فيه المحافظون فلاديمير بوتين إلى الواجهة منذ مطلع الألفيّة الثالثة، كان هذا الأخير يعتبر نفسه "ليبراليًّا محافظًا، يجمع بين سياسة ليبراليّة اقتصاديّة جديدة، مع السعي في الوقت نفسه إلى ترسيخ السيادة والدولة القويّة"...

شميت متسلّلًا إلى موسكو: من كتاب التسلّطيّة في روسيا

الرئيس الروسيّ، بوتين (Getty Images)

"في القرن الماضي، اقتربت روسيا مرّتين من حافة الخسارة الكاملة لهويّتها الحضاريّة، عامي 1917 و1991..."، يقول ديفيد ج. لويس مقتبسًا عن أحد المؤرّخين في كتابه "التسلطية الجديدة في روسيا: بوتين وسياسة ضبط النظام"، المُترجم والصادر مؤخرًا عن المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

يتّصل كتاب لويس بالتحوّلات التي طرأت على النظام السياسي في روسيا ما بعد السوفيتية، في ظل حكم الرئيس الحالي فلاديمير بوتين. ولو قُدّر لنا إعادة عنونة هذا الكتاب، لقلنا إن "كارل شميت في التسلطية الجديدة في روسيا..."؛ إذ لم يفتتح الكاتب فصلًا من فصول كتابه التسعة، ولا حتى عنوانًا فرعيًّا منها، إلا وكان شميت حاضرًا في السطر الأول فيها، فثنائيّة "الفوضى" و"ضبط النظام"، التي ظلّت تحكم إيقاع الكتاب في فصوله عن شكل بناء التسلطية البوتينية على مدار عقدين ونصف العقد في روسيا منذ أواخر التسعينيات، استندت إلى أفكار المفكر الألماني كارل شميت في أعماله المختلفة عن ألمانيا عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.

كان انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 حدثًا هزّ العالم كلّه، فما بالك بروسيا وشعبها؟ وعليه، يقول ديفيد ج. لويس: لم يكن الخوف من الفوضى في روسيا، والسعي وراء ضبط النظام فيها، ناتجًا من مجرّد حالة مرضيّة في الاستخبارات الروسيّة، بل عكس ذلك الخوف إجماعًا أوسع وأجمع على ضرورة ضبط النظام في المجتمع الروسيّ.

فقد استشرفت قوى روسيّة محافظة فوضى تلوح في أفق بلادها بتحوّلها إلى الديمقراطيّة – الليبراليّة مع مطلع تسعينيّات القرن الماضي، وذلك استنادًا إلى كارل شميت، الذي وجد في الليبراليّة محاولة دائمة لإبطال "ما هو سياسي"، وكذلك لأنّها "وضعت التعدديّة في غير محلها"، بينما يرى شميت بالتعدديّة مفهومًا يجب أن يكون بين الدول لا داخل الدولة نفسها.

تطوّر الفكر المحافظ في روسيا بالتزامن مع ولادة الليبراليّة السياسيّة فيها منذ أواسط التسعينيات، وبعد أقل من عقدٍ على ولادة هذه الأخيرة، كان المحافظون يهيلون التراب على أحزابها (الليبراليّة) التي انهارت مع نتائج الانتخابات البرلمانيّة في كانون الأول/ديسمبر 2003، حيث سيطر حزب روسي محافظ جديد على البرلمان، هو حزب روسيا الموحّدة (Edinaya Rossiya)، بينما اقتصرت الليبراليّة على ما أطلق عليه ديفيد ج. لويس "الليبراليين النظاميين" داخل المؤسّسة الروسيّة المحافظة نفسها، حيث كانت ليبراليتهم من نوع ليبراليّة الشركات التجاريّة الجديدة، لا علاقة لها بالتحوّل الديمقراطي السياسي أو بالحقوق المدنيّة.

وفي الوقت الذي دفع فيه المحافظون فلاديمير بوتين إلى الواجهة منذ مطلع الألفيّة الثالثة، كان هذا الأخير يعتبر نفسه "ليبراليًّا محافظًا، يجمع بين سياسة ليبراليّة اقتصاديّة جديدة، مع السعي في الوقت نفسه إلى ترسيخ السيادة والدولة القويّة". لا يعني الاتجاه المحافظ بالنسبة إلى بوتين "الركود"، بحسب لويس، إنّما يعني "الاعتماد على القيم التراثيّة، مع عنصر إضافي لازم موجّه نحو التطوّر"، وعلى هذا سار بوتين ببركة الألماني كارل شميت المبعوث مجددًا في موسكو.

كانت الأوساط الأكاديميّة الروسيّة هي أوّل من استعان بكارل شميت منذ ثمانينيّات القرن الماضي، ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، ويشير صاحب كتاب التسلطية الجديدة... إلى دور مفكّرين ومثقّفين روس في بعث شميت في الحياة السياسيّة عبر الدوائر الأكاديميّة في موسكو. وعلى رأسهم ألكسندر فيليبوف، الذي شغل منصب رئيس "مركز علم الاجتماع الأساسي في المعهد العالي للاقتصاد" في موسكو، والذي كان أوّل من ترجم كتاب كارل شميت مفهوم السياسي إلى الروسيّة.

وقد جادل فيليبوف في أهميّة شميت لروسيا لخمسة أسباب متّصلة بسلطة القانون وضعف نظامه في روسيا، والعلاقة بين الليبراليّة والديمقراطيّة باعتبار شميت أنّ هذه الأخيرة قد تكون إقصائيّة، وعدم الثقة بالإجراءات الرسميّة التي قد تكون في غير محلّها في ظل نظام ليبرالي ضعيف، ووحدة الأمّة التي تحتاج إلى مواجهة أمم أخرى، لطالما تمثّل الحرب "التوتّر الوجودي الأعلى بالنسبة إلى البشر" على حدّ تعبير شميت، وأخيرًا في كون "الرسمي والعقلاني" لا يمكن أن يشكّلا أساسًا للتضامن السياسي، الذي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال "الأوهام الجبّارة".

لم يتبنَّ فيليبوف شميت كاملًا، غير أنّ ألكسندر دوغين، المعروف اليوم في الغرب أكثر بكثير من أي مفكّر سياسي معاصر في روسيا، كان أكثر اشتباكًا مع شميت من فيليبوف، وذلك عبر دروسه الخمسة التي وجد فيها دوغين كارل شميت ضرورة لروسيا ما بعد السوفيتية.

ففي درسه الأول بعنوان "السياسة، السياسة فوق كل شيء"، يناقش دوغين معارضته، استنادًا إلى شميت، للنماذج العالميّة المصطنعة للمجتمع، التي روّجتها كلّ من الماركسيّة والليبراليّة، ليظل اهتمامه منصبًّا على مفهوم العامّة لأمّة صلبة موحّدة في التاريخ. بينما في درسه الثاني، يسترجع دوغين تمييز شميت بين الصديق والعدو، وبالتالي على روسيا ما بعد السوفيتية تبنّي هذه الثنائيّة لتحدّد بسرعة من هم أعداؤها ومن هم أصدقاؤها، ثنائيّة ظلّ دوغين ينظر لها كضرورة سياسيّة خارجيّة وداخليّة لتطوّر الروس سياسيًّا.

وفي الدرس الثالث، يستعين دوغين بشميت وفكرة هذا الأخير في مسألة "اتّخاذ القرار" في "ظروف استثنائيّة"، وعلى ذلك ناقش دوغين: إمّا أن يتّخذ القرار الشعب والدولة الروسيّان بأنفسهما، ما سيضمن، بقوله، "أنّ مستقبلنا سيكون روسيًّا"، وإمّا أن القرار سيتخذه آخرون "مؤيّدون للعالميّة وللمساواة بشكل رئيسيّ"، ما سيجعل مستقبل روسيا غير روسيّ.

يعتمد دوغين في درسه الرابع على نظريّة شميت الجيوسياسيّة المتّصلة بالفضاءات والمجالات الكبيرة والعظمى، وتقسيمه القوى العالميّة بين قوى بحريّة (حلف شمال الأطلسي) وقوى بريّة (روسيا والصين)، وقد ألّف دوغين كتابًا في هذه النظريّة تُرجم إلى العربيّة في السنوات الأخيرة بعنوان الخلاص من الغرب: الأوراسيّة.

أمّا درس دوغين الأخير، فكان مشتقًّا من تنظير كارل شميت لفكرة "النصير" (partisan)، وهو شخصيّة تقاوم النظام الشموليّ العالمي، وتدافع عن الفهم التقليدي للأرض، والأمّة، والمجتمع بكلّ وسيلة ممكنة. فبالنسبة إلى دوغين، فإنّ روسيا هي "إمبراطوريّة ضخمة من الأنصار الذين يعملون خارج القانون، إنّما ينظّمهم نوع من الإلهام العظيم المنبثق من الأرض والقارّة والفضاء العظيم الذي يشكّل المنطقة التاريخيّة للأمّة الروسيّة".

كانت أعمال دوغين المستندة إلى شميت فجّة وجدليّة للغاية على الساحة الروسيّة، يقول ديفيد ج. لويس، خصوصًا وأنّه كان وما زال ميّالًا إلى الشهرة والنجوميّة، وصار فعلاً من أشهر منظّري روسيا البوتينيّة – التسلّطيّة. غير أنّ لويس يشير إلى ظهور جماعة من المفكّرين المحافظين الأكثر منهجيّة في التفكير على الساحة الروسيّة، أطلق عليهم "المحافظون الشباب"، أو "المحافظون الجدد أو اليساريّون"، وبرز من بينهم "ميخائيل رميزوف"، خريج كلية الفلسفة بجامعة موسكو، والذي، بالنسبة له، لم يتسنّ لأحد أن يفهم السياسة في القرن العشرين سوى لينين وشميت.

اعتبر رميزوف أعمال شميت "ميراثًا لا يغيب"، خاصّة في زعم هذا الأخير بأنّ "الليبراليّة تُمثّل غيابًا للكيان السياسي"، ما يجعل شميت بالنسبة لرميزوف "المحافظ الحقيقيّ الوحيد"، أي محافظ يدعو إلى المحافظة على "البعد الزمكاني، ويبقي المحتوى الروحي في المكان الذي نشأ فيه المرء اجتماعيًّا ووراثيًّا وجيوسياسيًّا"، وهذا ما يناقض الليبراليّة السياسيّة.

يرفض رميزوف التوجّه المحافظ في قبول "الأمر الواقع"، بما يشبه توجّه صامويل هنتنغتون في الاتجاه المحافظ "الظرفي"، والذي، بحسب ديفيد ج. لويس، يعارض الراديكاليّة من دون أن تكون لديه رؤية عالميّة أوسع. بل يدعو رميزوف إلى رؤية أخرى للاتجاه المحافظ كأيديولوجيا تتحدّى "جميع عائلات الأيديولوجيّات التي تستند إلى مبادئ التنوير"، ويعتبر رميزوف ذلك أساسيًّا لخلق "توجّه محافظ كأيديولوجيا مستقلّة في مواجهة الليبراليّة والاشتراكيّة معًا".

يشير لويس إلى مقالة كتبها رميزوف بعنوان يوم الملل القومي، حيث انتقد فيها العطلة المملّة (يوم الوفاق والمصالحة) التي حلّت محلّ ثورة أكتوبر السوفياتي في عام 1996. وأشار رميزوف إلى أنّ الفراغ الأيديولوجي في هذه العطلة الرسميّة يرمز تمامًا إلى غياب ما هو سياسي في روسيا ما بعد السوفياتيّة في تسعينيّات القرن الماضي، ويطالب بالعودة إلى ما هو سياسي، في سياسة تعكس لحظة مصيريّة مبدئيّة تؤكّد "شرعيّة الوجود وأصالته".

يقول ديفيد ج. لويس إنّه مع تطبيع شميت روسيًّا، عبر نخبة ذهنيّة روسيّة، أصبح التباعد بين الليبراليّة والاتجاه المحافظ الراديكالي ملحوظًا بشكل خاصّ في السنوات الأولى من الفترة البوتينيّة الثالثة.

وفي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أصبحت رؤية كارل شميت جزءًا أساسيًّا من الخطاب المحافظ المهيمن في روسيا، إلى أن استرخى شميت في مواقع مختلفة من الفكر السياسي الروسيّ ما بعد سوفياتي، مثل: مركزيّة السيادة، واللحظة المصيريّة في الاستثناء، والأشكال غير الليبراليّة في الديمقراطيّة، وتحديد الأعداء، والنظريّة المكانيّة للجيوسياسة.

التعليقات