31/10/2010 - 11:02

"سقوط الامام" - قراءة في رواية لنوال السعداوي منعها الازهر

"سقوط الإمام" رواية للكاتبة المصرية نوال السعداوي أوصى قبل ايام, مجلس البحوث العلمية في جامعة الأزهر بمنعها, بعد سبعة عشر عاماً على صدورها في القاهرة. هنا قراءة في الرواية:

كتبت نوال السعداوي في مقدمة الطبعة الأولى لروايتها المثيرة "سقوط الإمام"، عام 1987 تقول: "حاولت ان أكتب هذه الرواية وأنا تلميذة في المدرسة, لكن لم أعرف كيف أكتبها. الفكرة في رأسي والأحاسيس والشخصيات, لكن اللغة لا تساعدني. وعاشت معي هذه الرواية تطاردني, وزاد إلحاحها عليّ في السنين العشر الأخيرة, ترمقني عيون أشخاصها في اليقظة وفي النور". ليس هذا شأن الأعمال الابداعية التي تختمر في فترة طبيعية, مهما ولدت بعد مخاض عسير, ولكنه شأن الرسائل الايديولوجية التي تستولى على كيان أصحابها, وتستغرق حيواتهم بأكملها وتصبح همهم المقيم ليلاً نهاراً.

على أننا لا ينبغي أن نأخذ كلام "الزعيمة" النسوية على علاّته, فليست الرواية تحديداً هي التي ملكت عليها اقطار روحها, وليست الشخوص ولا الاحاسيس هي التي صحبتها طيلة هذا العمر المديد, ولكنها تشكلت بالتأكيد في وجدانها, وتواترت على ذاكرتها, بعد ان احترفت الكتابة, وتمركزت حول قضية استقطبت جهدها, وحاولت تجريب التعبير عنها بأشكال مختلفة, وهي النظام البطركي الأبوي في الثقافة العربية, وما يعنيه في بنيتها السياسية والاجتماعية كما حلله العالم العربي الفذ هشام شرابي في كتابه الشهير. ولعل نوال السعداوي أن تكون أقرب إلى الدقة وهي تؤرخ لتبلور هذا الشكل الإبداعي لديها, للتعبير عن وعيها الشقي بهذه القضية المحورية في السنوات العشر السابقة على كتابتها. فهي التي قدمت لها الرمز المركزي الذي يمثل أطراف النظام البطركي, وهو الإمام, باعتباره حاكماً مطلقاً يتلفع بعباءة الدين, ويخترق "تابوهات" السياسة ومحرمات المجتمع, ليصدم ضميره القومي, وينقض ثوابته المستقرة في الوجدان, حتى يلقى نهايته المحتومة. ومع أن نجيب محفوظ سجل هذا الحدث ببراعة فائقة في روايته المكثفة "يوم قتل الزعيم" حيث انتصرت رؤيته السلبية عن السادات على رأيه الايجابي في سياسته, غير أنه لم يكن مهموماً بالنظام البطركي في أبعاده الكثيرة, بل كان معنياً بمفارقة السياسة وعبثية المأساة.

أما نوال السعداوي فجمعت كل أهدافها في بؤرة واحدة, أخذت تصب فيها حميم صراعها المحتدم مع المجتمع العربي, وهي شخصية الطاغية التي تحكم باسم الله, وتمثل بحسب تصورها الأب القاهر والزوج العاهر, فتجمع رموز السلطة كلها في قبضة واحدة تضرب بها وجه الأنثى, المضطهدة المقهورة والفاقدة الشرعية. وهذا تكثيف دلالي يدفعنا الى أن نتساءل: هل تساعد عليه تقنيات السرد الفنية, وهل تسعفه وسائل التمثيل الحيوي للمشاهد النامية المتوالدة في أحداث متراكمة, ونماذج إنسانية مكتملة؟ وهل يجد البنية المحكمة التي تعبر عنه بقوة, لو اقتصر على حزمة واحدة من القضايا, مثلما تفعل سحر خليفة مثلاً في صراعها لتحرير المرأة الفلسطينية؟ أم أنه في إصراره على أن يقول كل شيء عن سياسة السادات وتاريخه ومعاونيه, وعن رجال التبرير من معارضة شرعية وكتّاب مأجورين, مما يجعل النص يكتفي بالانهمار في عدد من الصور المركزية الرامزة والمكررة؟ ومن هذه الصور صورة مطاردة الفتاة من ممثلي السلطة وكلابهم التي تنهشها من الخلف, وصورة المنصة التي لقي عليها الزعيم مصرعه وهي تدور مثل الدوامة على مدار النص عشرات المرات لتشفي الغليل الايديولوجي للكاتبة, من دون أن تقوى على بناء عالم مكتمل من مفارقات الحياة وتناقضات السلطة وفتات التاريخ. كذلك تتكرر صور المعارض المستأنس والكاتب الناطق بلسان سيّده ورئيس الأمن المذعور, وصور الزوجات القدامى والجدد وتخالفات السواد والبياض في بشرتهن. واذا كانت الصور, كما يبوح بذلك بعض كبار المبدعين, ومنهم غارثيا ماركيث مثلاً, تمثل منطلقات سردية اصيلة, لا تقتصر على الابنية الشعرية, فإن عمل الروائيين بعد ذلك, يتمثل في تمديدها وتنميتها, ونسج شبكة من العلاقات الغنية بينها, تعتمد على خط زمني مهما كان متقطعاً, وتبني - وهذا هو المهم - كيانا كلياً متحركاً, لا يعتمد على التكرارات, ولا الاستطرادات, ولا الإلحاح على المضمون الايديولوجي في شكل مباشر. وهذا على وجه التحديد ما يجعل رواية "سقوط الإمام" تدور في حلقة مصمتة, ليس لها مسار تتقدم فيه, بل هي مجموعة من اللحظات المحتدمة في وعي الرواة المتعددين في الظاهر, بينما تنفجر كلها من وعي محركتهم من دون أن تسمح لهم بالتمايز والتخالف عن الصورة الضدّية لهم, المتراوحة بين الجناة والضحايا بطريقة نمطية, لا تقدم خبرة جمالية بالحياة, بل آراء مسبقة لتوصيفها. انها تنطق مرة بصوت الإمام ومرة أخرى بصوت الأنثى المتمردة "بنت الله" التي تطرح اسئلتها البريئة حيناً, والآثمة حيناً آخر. وتحكي أحلامها وكوابيسها المختلطة, وأصوات الرموز الموالية والمناوئة, من دون أن تصنع نماذج بشرية أو تنسج أحداثاً ممكنة, بل يغلب عليها الطابع التجريبي, الذي يمزج بطريقة عبثية بين الهواجس والحوادث, واليقظة والنوم, والموت والحياة في غير نظام متسق, ولا ترتيب يمكن إدراكه. هذا التجريب لا يحافظ إلا على الدالة المركزية في هجاء النظام البطركي المتحالف مع السلطة والدين لامتهان الأنثى, وهي دلالة لم تكفّ نوال السعداوي عن بثها بحرارة متفاوتة في أعمالها الفكرية والفنية.

تعتمد الكاتبة عدداً من تقنيات السرد لبناء متخيلها الروائي بقدر من البعثرة والفوضى في الظاهر, وبتدبير مقصود في حقيقة الأمر. فهي تعرف أنها لا بد من أن تتذرع بكثير من الدهاء لتخوض في منطقة المحرمات الاجتماعية الشائكة. واذا كانت عثرت على بغيتها في تسمية الشخصية الذكورية وهي "الإمام" الذي يجمع بين ظلال المقدس والمدنّس, فهي تتردد في تسمية قرينته الانثى "بنت الله" وتخشى عواقب ذلك كما تبوح في الرواية "فهو اسم ينتهك المحرمات في حد ذاته, فكيف تجرؤ فتاة أن تحمل اسما محرماً, الى جانب حملها جنيناً غير شرعي, وقد يباح في المسيحية أن نسمع ابن الله - وهو المسيح - لكن أن نسمع بنت الله فهذا غير وارد تماماً. ومع ذلك تمضي الكاتبة متمادية في غيها الادبي لتثبت الاسم, كي يكون لها قدر من الحرية والسلطة كما تقول. ثم تراوغ في بعض المشاهد, فتصوغها على صورة حلم, مستثمرة التوافق الشديد بين طبيعة الحلم والأدب, فكلاهما متخيل ولا مسؤولية عليه في عرف النقد والشرائع. هكذا تترك لراويتها ان تحكي أضغاث أحلامها قائلة: "في الحلم يتراءى لي على شكل رجل واقف في الظلمة, ويده اليمنى خلف ظهره. رأسه يلمع تحت الضوء بغير شعر, ووجه يغطيه الشعر. يرتعد جسمي تحت الغطاء وعيناي مغلقتان. يحرك يده اليمنى خلف ظهره, يرفعها أمامي ويفتح أصابعه.. أتحسس كفّه الكبير الحاني, أضع رأسه على صدري وأغمض عيني.. أصحو من النوم وجسمي مبلل بالعرق والرجفة والقشعريرة". وفي مرات أخرى يصبح الحلم كابوساً, وعندما تحكيه لأمها بما يتضمنه من تجديف غير لائق تقول لها إن ذلك من تلبيس الشيطان عليها. لكنها تكرر تلك الصور في طريقة تثير حفيظة رجال الدين عليها, من دون ضرورة فنية تبرر تجسيد تواطؤ السلطات الذي تقصده. لكننا لا ينبغي أن نغفل اهمية المشهد التالي مباشرة للحلم السابق والمختلط به, وهو مشهد المنصة الذي سيتكرر مرات عدة في هلاوس مختلفة, إذ تقول الراوية: "سمعت الطلقات بأذني, ورأيت الإمام يسقط, وجهه كان معلقاً في السماء يعكس شعاع الشمس, دوى الصوت كالرعد, وتحول الضوء الى شعاع نووي, أصبح وجهه ناحية الأرض بلون التراب. فوق المنصة كان وجهه مضيئاً كوجه الله. انقلب عند السقوط وأصبح داكن اللون كوجه الشيطان. لم أكن رأيت الشيطان من قبل, لكنني رأيته في الحلم وحكايات الجدة العجوز. نتجمع حولها في الليل قبل جرس النوم تحكي لنا عن الشياطين وأرواح الجان, كنت لا أزال في بيت الاطفال, لا أعرف وجه أمي ولا أبي". هذا هو لب المشكلة عند نوال السعداوي, ليست قضيتها دينية ميتافيزيقية تتعلق بالمقدسات في ذاتها, لكنها "نسوية" ترى في الرجل تجسيداً لهيمنة الحكام باسم الدين, وتترك العنان لشخصيات روايتها - خصوصاً النساء - كي تكشف عن المضمر في البنيان الاجتماعي, وتشعل ثورتها ضد سلطة الرجل برمزيتها المركزة.

لكن الرواية في حميّا الرغبة في التشفي من الحاكم الإمام لا تكف عن التعريض بما كان يشاع عن حياته الشخصية, وما عرف بعد ذلك من تفاصيل احداث المنصة. تورد مثلاً حواراً بينه وبين زوجته, مع الاصرار على تلقيبها بالثانية "قالت اعداؤك كثيرون, وكلما رفعك الله زاد اعداؤك, ولا تخرج الى الشارع من دون قميص الوقاية. قلت: الواقي هو الله. قالت: الله وحده لا يكفي اذا انطلق الرصاص. قلت: استغفر الله العظيم, يا لك من كافرة, لم تنزعي الصليب عن صدرك, ألا تثقين في قدرة الله على حمايتي؟ ألا تؤمنين بالله والنبي محمد؟ قالت: منذ ليلة زفافنا أخرجت من قلبي المسيح, وامنت وبالله والرسول. ولكني أخاف عليك من أعدائك قلت لست ذاهباً للقاء الأعداء. سألتقي بشعبي الحبيب وجنودي الأعزاء".

ثم تصف الرواية في مشهد آخر خديعة الصلاة على حماته المسيحية في مسجد عمر مكرم تمويهاً على الشعب, الى غير ذلك من الاشارات من اشكال التعريض بشخصية الرئيس الإمام, مما لا بد من أن يثير عليها حفيظة أنصاره السياسيين. واذا كانت الرواية توظف الاحلام وتجاور الاصوات فإنها تستعين بفلذات مهمة من التراث, تدرجها في سياقات مختلفة. كأن تعمد الى تحريك قصة شهريار مع خيانة الزوجة والعبد الاسود لتعيد انتاج شخصية شهرزاد في مستويات مختلفة, وتوظف كذلك طرفاً من "رسالة الغفران" للمعري في مشاهد القيامة وعبور الإمام على الصراط المستقيم بصحبة زوجته الأولى. لكنّ أطرف العناصر التي توظفها من التراث ما يشير الى موقف الرجل العربي من جسد المرأة, اذ ينادي الرئيس الإمام مسؤول الأمن ويأمره أن يحضر له جارية عذراء يحدد له أوصافها, فهي لا بد من أن تكون "رشيقة القدّ, قاعدة النهد, كحيل الطرف, رأسها صغير, وردفها ثقيل. تمتاز ببياض أربعة: وجهها وفرقها وثغرها وبياض عينيها, وسواد أربعة: أهدابها وحاجبها وعيناها وشعرها. وحمرة أربعة: لسانها وخدها وشفتاها مع لَعَس. وغلظ أربعة: ساقها ومعصمها وعجيزتها, وسعة أربعة, جبهتها وجبينها وعيناها وصدرها. وضيق أربعة: فمها ومنخرها ومنفذ أذنيها, والمنفذ الآخر وهو المقصود الأعظم من المرأة".

واذا كانت الرواية مزدحمة بالاصوات والشذرات التراثية والرؤى السوداوية فإنها تختم بالمحاكمة التي يتصارع فيها عالم الرجل والانثى وتعلق بعدها المرأة: "كل شيء يموت فيّ قبل العقل, مهما نلتم من جسدي ظل عقلي بعيد المنال, كعين الشمس في النهار, كعين السماء في الليل", كأنها تعلن بذلك انتصارها الوهمي على الآخرين. ومهما كانت شطحات نوال السعداوي في هذه الرواية مسرفة على نفسها وعلى القراء, فإن مبدأ احترام حرية الابداع يجعلنا دائماً نؤكد أن الكتب تناقش ولا تصادر, وأن الابداع الأدبي يستحق الحفاوة النقدية لا القمع الذي أصبح عاراً على الثقافات الحية.

(عن "الحياة")

لكن الرواية في حميّا الرغبة في التشفي من الحاكم الإمام لا تكف عن التعريض بما كان يشاع عن حياته الشخصية, وما عرف بعد ذلك من تفاصيل احداث المنصة. تورد مثلاً حواراً بينه وبين زوجته, مع الاصرار على تلقيبها بالثانية "قالت اعداؤك كثيرون, وكلما رفعك الله زاد اعداؤك, ولا تخرج الى الشارع من دون قميص الوقاية. قلت: الواقي هو الله. قالت: الله وحده لا يكفي اذا انطلق الرصاص. قلت: استغفر الله العظيم, يا لك من كافرة, لم تنزعي الصليب عن صدرك, ألا تثقين في قدرة الله على حمايتي؟ ألا تؤمنين بالله والنبي محمد؟ قالت: منذ ليلة زفافنا أخرجت من قلبي المسيح, وامنت وبالله والرسول. ولكني أخاف عليك من أعدائك قلت لست ذاهباً للقاء الأعداء. سألتقي بشعبي الحبيب وجنودي الأعزاء".

ثم تصف الرواية في مشهد آخر خديعة الصلاة على حماته المسيحية في مسجد عمر مكرم تمويهاً على الشعب, الى غير ذلك من الاشارات من اشكال التعريض بشخصية الرئيس الإمام, مما لا بد من أن يثير عليها حفيظة أنصاره السياسيين. واذا كانت الرواية توظف الاحلام وتجاور الاصوات فإنها تستعين بفلذات مهمة من التراث, تدرجها في سياقات مختلفة. كأن تعمد الى تحريك قصة شهريار مع خيانة الزوجة والعبد الاسود لتعيد انتاج شخصية شهرزاد في مستويات مختلفة, وتوظف كذلك طرفاً من "رسالة الغفران" للمعري في مشاهد القيامة وعبور الإمام على الصراط المستقيم بصحبة زوجته الأولى. لكنّ أطرف العناصر التي توظفها من التراث ما يشير الى موقف الرجل العربي من جسد المرأة, اذ ينادي الرئيس الإمام مسؤول الأمن ويأمره أن يحضر له جارية عذراء يحدد له أوصافها, فهي لا بد من أن تكون "رشيقة القدّ, قاعدة النهد, كحيل الطرف, رأسها صغير, وردفها ثقيل. تمتاز ببياض أربعة: وجهها وفرقها وثغرها وبياض عينيها, وسواد أربعة: أهدابها وحاجبها وعيناها وشعرها. وحمرة أربعة: لسانها وخدها وشفتاها مع لَعَس. وغلظ أربعة: ساقها ومعصمها وعجيزتها, وسعة أربعة, جبهتها وجبينها وعيناها وصدرها. وضيق أربعة: فمها ومنخرها ومنفذ أذنيها, والمنفذ الآخر وهو المقصود الأعظم من المرأة".

واذا كانت الرواية مزدحمة بالاصوات والشذرات التراثية والرؤى السوداوية فإنها تختم بالمحاكمة التي يتصارع فيها عالم الرجل والانثى وتعلق بعدها المرأة: "كل شيء يموت فيّ قبل العقل, مهما نلتم من جسدي ظل عقلي بعيد المنال, كعين الشمس في النهار, كعين السماء في الليل", كأنها تعلن بذلك انتصارها الوهمي على الآخرين. ومهما كانت شطحات نوال السعداوي في هذه الرواية مسرفة على نفسها وعلى القراء, فإن مبدأ احترام حرية الابداع يجعلنا دائماً نؤكد أن الكتب تناقش ولا تصادر, وأن الابداع الأدبي يستحق الحفاوة النقدية لا القمع الذي أصبح عاراً على الثقافات الحية.

(عن "الحياة")

التعليقات