14/02/2012 - 19:40

"هنا القدس".. كواليس أول دار إذاعة فلسطينية في زمن الانتداب

في اليوم الذي أٌحتلت فيه مدينة القدس، أصر العاملون بالإذاعة مواصلة بثهم من رام الله كي ينجحوا بإيصال رسالة أن "هنا القدس" ما زالت مستمرة وتبث نشرتها الإخبارية الساعة الثانية ظهرا كالمعتاد.

 

- جانب من الحضور -

"هنا القدس".. هنا الثقافة، هنا الأدب، هنا برامج الأطفال، هنا المسرح، هنا الموسيقى، هنا الزجل، هنا الشعر، هنا التراث، هنا المحاضرات، هنا التراتيل الدينية، هنا الرياضة، هنا السياسة، هنا البث المباشر، هنا ما يطلبه المستمعون..هنا فلسطين ما بين عام 1936 – 1948 تبث نهضة وحداثة في زمن الانتداب البريطاني "الذي أسس دار الاذاعة الفلسطينية عام 1936 بهدف إرسال رسائل الحكومة البريطانية من خلال الإذاعة" كما يأتي في مقدمة الفيلم "هنا القدس" للمخرج رائد دزدار والذي عُرض مساء يوم الثلاثاء في نادي "بلدنا" في مدينة حيفا، وحضره عشرات الشباب والشابات العرب.
 
يحكي الفيلم قصة أول دار إذاعة في فلسطين مظهرًا التاريخ العميق الذي تمتعت به الإذاعة التي كانت محجًا للمثقفين والكتاب والشعراء والفنانين من كل الوطن العربي، فبعد أن بدأت دار الإذاعة البث انتشر المذياع في كل البيوت شغفًا للاستماع للأحداث السياسية والأخبار الجارية في فلسطين في تلك الفترة.
 
تولى الشاعر إبراهيم طوقان مهمة المراقب العام للقسم العربي في الإذاعة المتواجدة في بناية الأوقاف في فندق "بالاس" بشارع مأمن الله، مكلّفا من قبل الحكومة البريطانية، إذ كانت الإذاعة مقسمة على ثلاث أقسام: القسم العربي الفلسطيني، والقسم العبري، والقسم الإنكليزي.
 
بعد أربعة أشهر من افتتاح الإذاعة اندلعت الثورة الفلسطينية، حيث كان للإذاعة دورًا مهما في نقل الأخبار والأحداث الجارية وبروح وطنية بغير رغبة الانتداب، من خلال برنامج "يوميات ثورة 36"، مما جعل الحركة الصهيونية تشتكي للمندوب السامي أكثر من مرة، وتحرض على القسم العربي في الإذاعة بسبب النفس القومي المتحدي لوجود الاستعمار وممارسات الحركة الصهيونية، مما جعل البريطانيين بالتفكير في التخلص من إبراهيم طوقان واستبداله بشخص آخر، في الوقت نفسه كانت القسم العبري في بعض الأحيان يبدأ برامجه بالقول "هنا أرض اسرائيل" مما أدى لاستياء عارم لدى الفلسطينيين.
 
ما ميز دار الإذاعة أنها عبرت عن هوية الشعب الفلسطيني ووحدته الجغرافية، فكنت تستمع خلال فترة الإعلانات مثلا إلى إعلان لإحدى الشركات عن فروعها المختلفة في حيفا وغزة ونابلس، وعن العاملين فيها من محررين ومنتجين ومذيعين وتقنين من مختلف المناطق.
 
فسحت دار الإذاعة المجال وأعطت الفرص للكثير من المبدعين لتقديم مواهبهم من خلال الإذاعة، من فرق تمثيل التي كانت تقدم مسرحياتها عبر الإذاعة، مطربين شباب صاعدين، شعراء وكتاب ومثقفين.
 
وكان للمرأة الفلسطينية دور هام أضفى لون مميز على الاذاعة، حيث كان هنالك برامج خاصة للنساء وعن المرأة بالتعاون مع جمعية السيدات العربيات، كما كانت المرأة الفلسطينية تعمل جنبا إلى جنب مع الرجل في الإذاعة من مقدمات نشرات أخبار ومحررات، ومقدمات برامج خاصة، وتقديم الأغاني.
 
كذلك كان للأطفال حصتهم في برامج الإذاعة مع برنامج "حيث الأطفال"، كل سبت مع الآنسة سعاد والتي تميزت ليس فقط بقراءة القصص بل بوجود الموسيقى والأغاني المخصصة لكل قصة، وكان أيضا هناك مراسلين للشؤون الرياضية.
 
أصبحت مدينة القدس عاصمة الثقافة العربية بسبب تزايد الحراك الثقافي فيها بفضل دار الإذاعة، وزيارة ممثلين وفنانين عرب مشهورين لها وكتاب وشعراء، فرق زجلية من لبنان تحيي أمسيات زجلية، مطربون من مصر وأغاني فريد الأطرش وأم كلثوم، مسابقات أدبية وشعرية، حتى أن أمير البحرين قام يزيارتها، وكان ملك الأردن من متابعيها بشكل دائم.
 
تميزت الإذاعة أيضًا بسياسة التحرير المهنية والمتقنة، والتشديد على أهمية استعمال اللغة العربية بشكل صحيح ودقيق من قبل المذيعين، حيث كان هنالك موظف مهمته مراقبة لغة المذيعين من خلال استماعه الدائم للإذاعة من بيته وإرسال التقارير في ما لو حصلت أخطاء.
 
تطورت تقنيات الإذاعة بعد انتقالها الى مبنى جديد خارج الأسوار في ما عرف ببناية الحبشة، وأصبحت تقدم بث مباشر من خارج الإذاعة نفسها من خلال نقلها لخطب يوم الجمعة من مسجد الأقصى ببث مباشر و الاحتفالات الدينية من الكنائس، وتغطية الأمسيات الفنية في بعض مقاهي القدس بشكل أسبوعي ومنها أمسيات موسيقى جاز، كما غطت احتفالات استقلال شرقي الأردن عام 1946.
 
في أيار 1939 تعرضت الإذاعة إلى هجوم من قبل العصابات الصهيونية راح ضحيته أكرم حسيني أول شهيد إعلامي فلسطيني.
 
استمرت الإذاعة بالتطور والنهوض حتى بعد فصل ابراهيم طوقان منها وتنصيب عجاج نويهض الذي استمر في نفس الطريق وطورها، والذي استقال فيما بعد محتجا على عدم تلبية طلبات الإذاعة ليصبح عزمي النشاشيبي آخر مراقب في الإذاعة بعد أن حلت النكبة عام 1948 حيث تم نقل الإذاعة إلى رام الله على أكتاف العاملين كون المبنى كان متواجدا في القسم الغربي لمدينة القدس والذي وقع تحت الصهيوني.
 
في اليوم الذي أٌحتلت فيه مدينة القدس، أصر العاملون بالإذاعة مواصلة بثهم من رام الله كي ينجحوا بإيصال رسالة أن "هنا القدس" ما زالت مستمرة وتبث نشرتها الإخبارية الساعة الثانية ظهرا كالمعتاد.

التعليقات