المسرح في فلسطين... حكاية بلا نهاية

-

المسرح في فلسطين... حكاية بلا نهاية
واحد من أرقى وأروع الفنون التي عرفها التاريخ, جسد الإنسان من خلاله طموحاته وآماله وأحلامه في حياة أفضل ومجتمع أرقى, كتب له العديد من اشهر الكتاب العالميين, ومثلت على خشبته روائع الأعمال الإبداعية الخالدة, ولأنه من الأهمية بمكان, كان لا بد من الوقوف لحظة لإلقاء نظرة على واقعه وتاريخه في فلسطين.

ارتبطت نشأة المسرح في فلسطين بنشأته في الوطن العربي ككل خاصة في مصر وسوريا ولبنان, إلا انه تميز عن غيره من المسارح العربية بعدم اهتمام المؤرخين والباحثين به الاهتمام الكافي الذي يسلط عليه الأضواء ويساعد في رقيه وتطوره لأسباب قد يكون من أهمها ضعف الحركة المسرحية في فلسطين عموما وتعثر معظم التجارب الفردية وعدم تواصل التأليف المسرحي الفلسطيني, وقد ظلت الأحداث والثورات والانتداب ثم الاحتلال من ابرز العوامل التي أدت إلى ذلك وأضاعت الكثير من الجهود في هذا المجال.

عرفت فلسطين الفن المسرحي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر من خلال عدة محاولات لها قيمتها التاريخية برزت وارتقت في مطلع القرن العشرين خصوصا بعد الحرب العالمية الأولى حين نشطت المدارس في تقديم المسرحيات خاصة المسرحيات الوطنية و التاريخية, وقد جاءت محاولات إنشاء مسرح فلسطيني واضح الرؤية في زمن الانتداب البريطاني في فلسطين وتحديدا عام 1918 واستمرت هذه المحاولات نشطة

حتى نكبة 1948 بتأثير عدة عوامل منها:

- دور المدارس الوطنية والأجنبية في إحياء الفنون والآداب بين الطلاب.

- وفود الفرق المسرحية المصرية والشامية إلى فلسطين.

- تأسيس الإذاعة الفلسطينية في القدس سنة 1936 بإدارة إبراهيم طوقان ونشاط عائلة الجوزي التمثيلي البارز في هذه الإذاعة.

- الصحف والمطابع التي وجدت في فلسطين والتي ساهمت إسهاما كبيرا في نشر الوعي والحس الفني لدى الجمهور.


أصابت صدمة النكبة العنيفة من قبل الصهيونية المسرح الفلسطيني بخيبة أمل كبيرة بعد النشاط البارز والمحطات الهامة التي حققها زمن الانتداب البريطاني, وقد أدت هذه الانتكاسة إلى تشتت شمل فناني المسرح الفلسطيني فعاش المسرح ما بعد 1948 مرحلة انعدام وزن وكساد فني مسرحي وسكون تام للحركة حتى عام 1965 عام انطلاقة الثورة الفلسطينية.

بعد انطلاقة الثورة تشكلت الكثير من الفرق المسرحية الفلسطينية في بعض الأقطار العربية وفي داخل الأراضي المحتلة رغم كل الحواجز والقيود, وفي الشتات خارج فلسطين وبمبادرة من حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح تشكلت جمعية المسرح الفلسطيني سنة 1966 في دمشق وقدمت أعمالا في عدة عواصم عربية وقد حملت هذه الجمعية فيما بعد اسم فرقة \" فتح المسرحية \" واستطاعت أن تقدم خلال عامين من نشؤها عملين مسرحيين هما: شعب لن يموت من تأليف فتى الثورة وإخراج صبري سندس ومسرحية \" الطريق \" من تأليف وإخراج نصر شما وقد حققت هذه الفرقة سمعة حسنة ورواجا جماهيريا كبيرا واستقطبت عددا كبيرا من الأكاديميين المسرحيين الدارسين والمتخصصين في المسرح مثل خليل طافش وحسن عويني وحسين الأسمر فتوسعت قاعدتها الوطنية وأخذت صفة الشمولية وتغير اسمها ليصبح فرقة المسرح الوطني الفلسطيني تحت إدارة الفنان خليل طافش الذي يعتبر مؤسس المسرح الوطني الفلسطيني في الشتات.

يعتبر خليل طافش مؤسس المسرح الوطني الفلسطيني في المهجر كما انه أول من دعا إلى تشكيل فرقة قومية عربية تضم فنانين من أنحاء الوطن العربي خلال مؤتمر صحفي أثناء مهرجان المسرح العربي في الرباط عام 1974, هذه الدعوة التي لم يلتفت إليها احد في حينه إلى أن جاء الفنان المغربي \" الطيب الصديقي \" وأقام هذه الفرقة في أوائل الثمانينات, وقد درس طافش المسرح في القاهرة وتخرج من المعهد العالمي للفنون المسرحية في القاهرة عام 1969، وقد كانت بدايته مع فرقة فتح المسرحية منذ عام 69.


في عام 70 ومع بداية مذابح أيلول توقف نشاط فرقة فتح المسرحية فترة من الوقت إلا أنها استطاعت وبفضل مجهودات شبابها أن تعيد نشاطها من جديد وكان ذلك خلال عام 71 أي بعد سنة من التوقف، وكانت العودة أكثر موضوعية وأكثر فعالية حيث كانت هناك مجموعة من الشباب الذين يملكون الرغبة والخبرة ولديهم مؤهلات علمية أكاديمية في فن المسرح, وهنا قام خليل طافش بتطوير فرقة فتح المسرحية لتصبح فرقة المسرح الوطني الفلسطيني كي تكون أكثر شمولية للفلسطينيين فتم استقطاب عدد اكبر من الفنانين الأكاديميين الفلسطينيين, و قد تم خلال هذه الفترة تقديم عملاً مسرحياً للشاعر العربي السوري ممدوح عدوان في الجزائر وتونس وفي دمشق ضمن عروض المهرجان المسرحي بسوريا.

وكان الإنتاج المسرحي الأول للمسرح الوطني الفلسطيني مسرحية \" محاكمة الرجل الذي لا يحارب \" تأليف ممدوح عدوان وإخراج حسن عويني وبعدها قدمت الفرقة مسرحية \" العصافير تبنى أعشاشها بين الأصابع \" تحت عنوان \" الكرسي \" من تأليف الشاعر معين بسيسو ومن إخراج خليل طافش, وقد حققت هذه المسرحية شهرة كبيرة وصدى واسعا ليس في الوطن العربي فحسب بل في كثير من البلاد الأوروبية أيضا وذلك عندما مثلت فلسطين في مهرجان المسرح العربي في الرباط سنة 1974 يقول خليل طافش: \"

من وجهة نظري اعتبر أن مسرحية \"محاكمة الرجل\" للشاعر الفلسطيني ممدوح عدوان كانت بداية لخلق مسرح فلسطيني بالمعنى الكامل وجاءت بعدها مسرحية \"الكرسي\" لتكون قفزة للمسرح الفلسطيني بل قفزة للمسرح العربي عامة وقد قدمت المسرحية \"الكرسي\" في مهرجان المسرح بالرباط \" حققت مسرحية الكرسي أصداء واسعة في العالم وقد صفت صحيفة الليموند الفرنسية في عددها الصادر 21/2/1974 المسرحية بأنها: \" أهم المسرحيات التي عالجت قضية فلسطين\" والتي قدمها المخرج خليل طافش للشاعر معين بسيسو, وقد أشادت الصحيفة بالمسرحية فقالت \" في النص جمال شعري والإخراج في إشارة للمخرج طافش رائع جداً.



أدى انعدام التقاليد المسرحية التي تجعل من المسرح أداة من أدوات المقاومة الثقافية الجادة والمجدية وفراغ الساحة الثقافية الفنية الداخلية من المسرحيين والأكاديميين الفلسطينيين القادرين على الخلق والإدارة الفنية إلى تأخير ظهور المحاولات المسرحية في الأرض المحتلة ذات القيمة فقد ظهر أول تجمع مسرحي في الضفة الغربية في شباط 1975 تحت اسم تجمع العمل والتطوير الفني كعلامة مسرحية بارزة في الأراضي المحتلة سبقها وتلاها العديد من الفرق المسرحية الهامة التي ظهرت في مختلف المدن الفلسطينية منها على سبيل المثال لا الحصر:



- فرقة عائلة المسرح التي تحولت إلى فرقة بلالين و قامت سنة 1970 في رام الله.

- فرقة دبابيس التي تأسست سنة 1972 في رام الله.

- فرقة الحكواتي في القدس التي تمتلك قاعة عرض مسرحي افتتحت سنة 1983 ولا تزال إلى اليوم.

- فرقة مسرح القصبة في القدس وقد تحولت إلى رام الله في عهد السلطة الوطنية الفلسطينية.

- فرقة عشتار لتعليم وتدريب المسرح في رام الله.



الحركة المسرحية في قطاع غزة حركة نشطة ولها امتداد تاريخي ليس بالقصير ويقوم عليها مجموعة كبيرة من الشباب تجمعت على شكل فرق مسرحية وقدمت مختلف ألوان الفن المسرحي خلال السنوات الماضية وبجهود ذاتية على المستويين المادي والفني. وقد كانت أولى المحاولات الجادة لعمل مسرحي في قطاع غزة هي مسرحية \" ليلة صيد \" التي عرضت في نادي مخيم الشاطيء للأديب عبد الفتاح مقداد ومن إخراج ديب الهربيتي, ثم تلتها مسرحية \" أسياد وعبيد \" من تأليف رفيق العالول ومن إخراج محمد أبو سمرة, ثم مسرحية \" مقهى الخريجين \" من تأليف رمضان شلح وإخراج محمد أبو سمرة.

وقد تأسس في قطاع غزة عدة فرق مسرحية منها فرقة الشموع المسرحية التي قدمت مسرحية \" وجوه ملونة \" و \" أطرش في الزفة \" و \" بدها صبر \", وفرقة الأمل للفن والمسرح التي أسسها الفنانان صائب السقا ونبيل ساق الله وقدمت عدة أعمال منها \" العالم في جيبي \" و \" المحسوم \" و \" حوار مع دكتور \" التي أوقف الحاكم العسكري الإسرائيلي عرضها في نادي غزة الرياضي, وفرقة \" حناضل \" التي تأسست عام 1989 وقدمت عدة مسرحيات منها \" اغتيال حنضلة \" للشاعر المصري الكبير عبد الرحمن الابنودي, و \" عرس عروة \" للشاعر الراحل عبد الحميد طقش, و \" خفافيش الظلام وسوق فراس والأستاذ خصوصي \", ثم فرقة مجمع الكرامة التي تأسست عام 1992 و مؤسسة يوم المسرح و فرقة مؤسسة الجنوب و فرقة مؤسسة بسمة و فرقة مسرح للجميع و فرقة جمعية فكرة, إضافة إلى فرقة هيئة مجمع الكرامة في رفح وغيرها العديد من الفرق المسرحية التي منها ما غاب ومنها مازال يعمل إلى يومنا هذا.

من الناحية الفنية لم تستطع تلك التجارب رغم كثرتها ورغم المحاولات الجادة في تحقيقها أن تشكل حركة مسرحية واعية تسير باتجاه النضج الفني وبالتالي نحو التطور بل ظلت تدور في فلك الهواية ولا تخرج عن إطار الاجتهادات الإبداعية المحدودة, أما من الناحية الفنية فلم يكن هناك في يوم من الأيام ما يمكن أن نسميه إمكانيات مادية تتيح للمسرحي القدرة على إعطاء أي عمل مسرحي ولو الحد الادني من احتياجاته بدءً من أجرة فنان أو فني مرورا بالاحتياجات الفنية من ملابس وديكور واتصالات وأجهزة صوت وإضاءة وموسيقى أو أي احتياج آخر, ونستطيع الزعم أن كل ذلك كان وما زال معدوما بالنسبة لأي نشاط مسرحي وبالتالي كل ما قدم حتى الآن في قطاع غزة قدم بجهد ذاتي وما كان له أن يرى النور لولا صدق توجه مجموعة من الشباب وصدق هوايتهم وإيمانهم بدور المسرح.

يقول الفنان المسرحي والمخرج الفلسطيني \" سعيد البيطار\": \" رغم كل هذه الكثافة في العطاء والجهد المسرحي إلا أن الحركة المسرحية الفلسطينية في قطاع غزة عجزت عن إنتاج أعمال كبيرة وهامة بسبب غياب المؤسسة الثقافية عن هذا الجانب الحياتي المهم في معانقة الحياة اليومية, وقد قامت بعض الجهات الخارجية بتمويل بعض الأعمال وتبني بعض المجموعات المسرحية, وللأسف كان الهدف هو تهويد الثقافة الفلسطينية وتخريب التراث والمسرح وحرفه إلى طريق تبتعد عن ملامح الهوية الفلسطينية, ويعتبر هذا ناقوس خطر على الثقافة وعلى المعنيين الانتباه لضرورة الحد من هذا التمويل الخارجي ومساعدة المسرحيين فلسطينيا بالمال والكلمة \". ويعود ضعف الأعمال المسرحية التي قدمت في قطاع غزة وركود الحركة
المسرحية عموما فيها إلى عدة أسباب منها:

- عدم وجود دارسين أكاديميين لفنون المسرح فعدد الفنانين المسرحيين الأكاديميين مع الذين عادوا إلى غزة مع قدوم السلطة الفلسطينية لا يصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة, هذا في ظل عدم وجود معهد أو أكاديمية لتدريس المسرح حسب الأصول الفنية العلمية المتبعة عالميا.

- انعدام وجود الكتاب المسرحي في المجلة الغزية وكذلك المجلة المتخصصة أو الدراسات المسرحية أو غيرهما مما من شانه أن يعيد تقدم وتطور المواهب المسرحية ويغنيهم بالثقافة عن وجود معاهد أو مدارس مسرحية.

- انعدام زيارة فرق مسرحية من خارج القطاع مما يوفر للجمهور والمسرحيين فرصة للمشاهدة وكسب التجربة والخبرة, ومما يضيف للفنان إضافة نوعية تسهم في تطوير أدواته الإبداعية, هذا بالإضافة إلى العزلة التامة التي عاشها ويعيشها القطاع والحيلولة دون إمكانية سفر الشباب المسرحي للخارج للمشاهدة وللقاءات المسرحية والإطلاع على عالم المسرح وإثراء التجربة ومواكبة التطورات العالمية.

- عدم وجود أي دار للعرض المسرحي في القطاع مجهزة تجهيزا فنيا من كافة النواحي لتعطي للمسرحية إمكانية التجريب والإبداع أو حتى التدريب أو تقديم العروض.

- هذا بالإضافة إلى مشكلة المشاكل وهي انعدام الإنتاج الذي يشجع الفنان والفني المسرحي على العطاء والتفرغ للمسرح بعيدا عن معاناة العيش والبحث عن قوته وقوت أسرته على حساب موهبته وفنه وإبداعه.


على ضوء المتغيرات السياسة التي شهدتها المنطقة والتي تمثلت في عملية السلام وجلاء قوات الاحتلال عن بعض المدن الفلسطينية وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية تشجع المثقفون والفنانون والأدباء للنهوض نهضة جديدة وترميم ما تم تدميره من قبل الاحتلال على صعيد الإنسان _ تربيته وفكره ومعتقداته بل وترفيهه أيضا.

فعلى الصعيد الرسمي انشات السلطة الفلسطينية عددا من المؤسسات التي تعنى بالفن والمسرح كوزارة الثقافة التي أنتجت عددا من الأعمال المسرحية المحترفة في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى جانب دعم الفرق والمساهمة في تأهيل الهواة والموهوبين كما و انشات أيضا مسرح الطفل الفلسطيني, إضافة إلى وزارة الإعلام التي ضمت قسما للمسرح وإعلامه واهتمت الجامعات أيضا بهذا المجال وافتتحت أقساما خاصة للمسرح.

وعلى الصعيد الخاص نشطت الكثير من الفرق والمؤسسات الأهلية العاملة في مجال الفن المسرحي وعملت على إنتاج العديد من الأعمال المسرحية الهادفة والجادة كمسرحية \" العنب الحامض \" ومسرحية \" الجسر \" من المسرح العالمي ومن إنتاج مؤسسة بسمة للثقافة والفنون وكلاهما من إخراج خليل طافش ومسرحية \" حارسة النبع \" من إخراج حسين الأسمر ومسرحية \" في شي عم بصير \" من إخراج إبراهيم المزين, هذا بالإضافة للنشاط الكبير والحركة المسرحية التربوية في الضفة الغربية كمسرح القصبة ومسرح السنابل والحكواتى وغيرهما, ورغم كل هذا الجهد إلا أن المسرح الفلسطيني ما زال يعاني كثيرا فهو إلى هذه اللحظة يعاني من فقدان الجمهور إضافة إلى فقدان المؤسسة الوطنية القادرة على وضع خطة وطنية تهدف إلى تطوير المسرح الفلسطيني ورعايته.

لذا لا بد من وقفة جادة إلى جانب هذا الفن في فلسطين وفي قطاع غزة على وجه الخصوص من قبل المؤسسات الرسمية والأهلية والفرق والجمعيات الداعمة, وقفة داعمة تعيد للمسرح توازنه ونشاطه في قطاع غزة, هذا القطاع الذي عرف المسرح مبكرا وأنجب العديد من الفنانين المسرحيين ممثلين ومخرجين وكتاب ومنهم من احترف وأسس وأبدع في عدة عواصم عربية أمثال خليل طافش وحسين الأسمر وعبد الوهاب الهندي ومحمود أبو غريب وصلاح الدين الحسيني ومعين بسيسو وغيرهم الكثير الكثير.

لذا لا بد من تحريك العجلة باتجاه شد الانتباه والالتفاف نحو هذا الجهاز الثقافي الهام, نحو المسرح الذي ما كان يوما مظهرا حضاريا وحسب بل ضرورة إنسانية مثل الهواء والغذاء.



"سما"

التعليقات