"الأسمر".. تعلق بفن أم بذاكرة مكبوتة؟../ ناصر السهلي

-

قد يكذب الواحد على الثاني.. ومعظم كذباتنا نسميها "كذبة بيضاء"!.. لكنك تجدني غير مصدق لقضية أن "فنا" من فنون التمثيل الصادق المقلد في شططه ومططه لمسلسلات مكسيكية بالية وفاقدة لأي معنى سوى تكريس صورة نمطية غير جدية ولاهي حقيقة في جوهرها عن المجتمع المكسيكي، إلا من منظار، ربما يكون محقا من يرده إلى كثرة عدد الشقراوات اللواتي تحولهن الكاميرا والمساحيق إلى "سلعة" تُشبع رغبات بعض ما!

قد أكون "جاهلا" بكل ما تحمله الكلمة من معنى عن مسلسل تركي آخر، شغلت فيه شخصية مهند و"نور"، إذا كنت مصيبا، مشاعر الكثيرين وأسرت شخصية الأول مشاعر كثيرة.. بل أدخلتها في مزيد من تزييف الواقع والمشاعر.. ومعذرة إن كنت قد جرحت بعضا من تلك المشاعر.. لأنني وببساطة لم أشاهد شيئا إلا مما كانت "إنشغالات" البعض العاطفية والرومانسية تتناقل في كل مكان..

مرة من المرات قلت لنفسي: أيها الجاهل، كيف لك أن تكون مستهترا بمشاعر "العشاق"؟ ولم يكن عندي من إجابة دقيقة.. بل ربما بعض منها.. فكم أنا مشفق على ذاتي قبل إشفاقي على الآخرين.. أيمكن أن يكون التشيؤ صار جزءا من سلعة عرض البشر على ما غير هي عليه إلا من زاوية إشباع المكبوت؟ ربما.. وربما لا.. لكن هنا يلعب تسليع الجسد دورا في نمو هذا الشعور الممسك بتلابيب الخيال المتحول إلى تجارة سهلة.. وسهلة جدا..

هل من الفن بشيء مثلا لو قال لي أحدهم إنه يتذوق "نهيقا" يسمى " طربا" ( أنا بحبك يا حمار!) ، لا مشكلة مع الحمير.. فهي من الحيوانات التي تتحمل كل رذائل الإنسان وتصبر صبرا.. ثم هي من مخلوقات الله أولا وأخيرا.. لكنني أُصاب بقشعريرة كلما سمعت نهيقا يخرج من نافذة سيارة أو شباك منزل لا يهتم بسماع النهيق على إنفراد..

"الأسمر" مسلسل تركي أيضا.. مدبلج بأصوات لكنة عامية محببة إلى عقولنا وقلوبنا... أيضا لم أشاهد.. بل لأكون صادقا معكم.. أجلس الآن في مقهى راق جدا.. شاشة التلفاز تعرض عند الساعة الثالثة بعد الظهر ما أفهمني النادل أنه مسلسل "الأسمر".. مكتوم الصوت.. الناس مشغولة في أحاديث "بزنس".. وغرام.. على أنغام موسيقى غربية.. على الجدران ثمة صور لفنانين مصريين منهم رشدي أباظة .. حين سألت النادل عن التناقض تغيرت الموسيقى إلى العربية "مين اللي بيداويني .. وعا دربي مشيتو..وناسي شو كنت تقول.." وكلمات أخرى عن النسيان دون أفهم من المغني..

أعود إلى "الأسمر".. كنت معتقدا أنه أسمر بما نفهمه نحن عن اللون الأسمر.. لكنه لم يكن كذلك.. هذا المسلسل أسمع عنه منذ أشهر ثلاث.. انشغال شبه كامل يوميا بهذا الأسمر.. سألت عما يحمله.. فإذا به مسلسل يتحدث عن عنف العالم السفلي.. لكن ومع التوصيفات كانت تأتيني بعض الإضافات التي نسميها "تتبيل" لتصوير قبيح كيما نجعله جميلا على أُذن المتلقي، وخصوصا إذا كان على شاكلتي.. جاهلا بمستويات مثل هذا الفن..

لماذا سألت سؤالي عما إذا كان تعلق بفن أم بذاكرة مكبوتة؟
ببساطة لأنني ومنذ سنوات ليست قليلة ألحظ التحول الذي فرضته علينا عقلية العولمة في النفور من الذات وهضم كل ما يلقى علينا بأسماء وعناوين "لا تعقدها".. أو على طريقة "ضع الرأس بين الرؤوس وقل يا..".. لا شيء يمنع الانفتاح.. بل مطلوب أن نفتح أدمغتنا.. لكن ليس مثل بطوننا.. بل أن نفتحها لتفكر وتعمل.. والفرق شاسع بين الأمرين..

هل "الأسمر" و"مهند".. وقبلهما المسلسلات المكسيكية التي لا تنتهي حلقاتها.. وربما الآتي غير معروف بعد.. تمثل حالات ما لدينا؟

شخصيا أعتقد أنها تعكس كما دفينا.. من المتخيلات التي يعشق إنساننا شرنقته ليعيشها في البعد عن الاعتراف بكل كوارث الكبت.. ومنها التناقض بين العنف والرومانسية الحالمة.. رومانسية أن ترى الأنثى العربية الرجل العربي صديقا صادقا لا جارية ومملوكة في قوائم أملاكه.. إنه الكبت الذي يدفع قهرا أن نعيش في الهامش بين طفولة مكبوتة وبين بلوغ طفولي حالم أو هارب.. وربما الأهم من ذلك كله بالنسبة لي.. أنا الذي أعيش حالة الجهل الفني إذا ما تعلق الأمر بما هو مقصود من إغراقنا بالعولمة من بوابات الترجمة وتقديم الجسد شبه العاري، هو تعريتنا أكثر.. فأكثر.. لنتحول إلى تروس في طحن العقل وقولبته كيفما أُريد له أن يكون..

لا أريد لأحد أن يشعر بغضب عليَ/ مني.. أُلقي بسؤالي على علماء النفس والاجتماع علهم يفسرون لي سر هذا الإدمان الذي يسري فينا ونحن ندمع ونتفاعل مع "أبطال" وهميين.. ونذرف دمعة مؤقتة على واقعنا التراجيدي الذي فيه ألف أسمر.. بل والأنكى أن نصير إلى إضاءة شمعة للتضامن مع الضحايا في فلسطين.. مؤقتا.. لنستعجل الحلقة القادمة.. بينما حلقات القدس لا تنتهي تحت بند " السياسة وجع رأس"... ولأن رأسي حقا بات لا يقبل أن يضع نفسه تحت بند "قطاع الرؤوس" أطرح سؤالي في أثير هذا الشغف المبهم.. تارة بذاك المسلسل وتارة أخرى بهذا "الأسمر"!

التعليقات