الشعراء "المحلوّيون" لا يتبعهم حتى الغاوون/كاظم كاظم

-

الشعراء
"الشعراء يتبعهم الغاوون" والشعراء "المحلوّيون" لا يتبعهم أحد، لأنهم ليسوا شيئًا ذا بال، لا مسيرة تقتدى ولا ظاهرة تحتذى. أنى للبليد من شعر وشعور؟ دربهم من إسفاف إلى إسفاف، إقدامهم ركود المستنقعات وإبداعهم قاع الوحول. أرضهم للتكاثر المرضي والبكتيري، على أبوابهم ينبت النرجس وتموت الشقائق. فيهم من نعومة الحسان وطراوة الصبيان، لم يعرفوا العمل الشاق، لم يشمروا عن ساعد، لم يحملوا الطوب في برد الشتاء ولا الحديد في حرّ الهجير، متيمون بأنفسهم، كل في شرنقته، متخم بذاته حتى التماهي، ممتلئ بأناه حتى الحَبَل، كل في مملكته غارق في أشيائه، لا يسأل ولا يتحرّى، يتلهى بعاهة كأنها طفلته المدللة، لا يقرأ إلا عن نفسه، لا ينتشي إلا من رائحة عرقه، يعرف من علم الرياضيات كل معادلات الربح، يعرف من علم الفلك أن الأرض في مركز الكون وأنه هو في مركز الأرض.

الشعراء "المحلوّيون" لا يتبعهم الغاوون، أذكياء في امتحان البقاء، يعرفون بفطرتهم كيف يلعبون اللعبة، وتسعفهم السليقة في المواربة والمداراة والتكيّف والمحاباة، ويهللون لألوان الطيف ويتربصون لاقتناص الظرف، حاذقون في المهادنة بما ملكوا من حربائية وذئبية وطفيلية، قادرون على التعاطي مع المرحلة، لا لتخطيها وإنما للاستلقاء في أفيائها، لا لنسخها وإنما لاستنساخها.

الشعراء "المحلويون" لا يتبعهم الغاوون، ويعرفون كيف يصطادون الناقد المليح الإمّعة من رصيف المأجورين والمرتزقة، مواصفاته: يتقن الحلاقة والمكياج، فقيه في المقاسات وذوّاقة في تفصيل الأثواب. وهم يحبونه إذا عظّم وقرّظ، إذا هوّل وفخّم، إذا ملّح واستملح، إذا أشاد بالترهات وسفاسف الكلمات، ونفخ الهزيل واستعذب الغث والرث والركيك، ومدح حيث يجب أن يقدح وسكت حيث يجب أن يبوح وسعى لهم عند مجلة من أجل "العدد الخاص".

الشعراء "المحلويون" لا يتبعهم الغاوون، يظهرون معًا إذا دعت الحاجة كأنهم فرقة من فرق الروك، ويحتملون بصبر ربطات العنق المزعجة، يلتقون في الفنادق الفخمة، يقدمون عروضهم أمام الكاميرات، ويحبون المنابر على أشكالها ومسكات الميكروفون بأنواعها، يقرأون أشعارهم بنبرة أسى من فرط "تأثرهم" وحرقة "وجدهم"، ويتألقون إذا أطلت الظباء ولاحت السمر الملاح، ويعرفون ماذا يجيبون إن سئلوا، أين ينظرون إن وقفوا، ماذا يخلعون إن جلسوا، كيف يضعون الساق على الساق. يتناقشون ويلهثون ويرغون ويزبدون ويتصايحون ويتهارجون ثم يهدأون حول الوليمة ويفترقون، وبعد أسبوع يطالعون الصحف ليقرأوا عن أنفسهم، ويشاهدوا صورهم.

الشعراء "المحلويون" لا يتبعهم الغاوون، ولا يشكلون ظاهرة من أي شكل كانت، ينامون الضحى ثم يذهبون إلى المقهى، يحتسون "الإسبرسو" بقمصانهم الحريرية، يجدون متنفسًا من وسائدهم الفردوسية ومن عذاباتهم ودوخات مكيّفاتهم، ويخوضون في النساء همسًا ولمسًا ويتهتكون علنًا ورمزًا، ثم يخططون لرحلة الشتاء والصيف، بين القاهرة وعمان، ويتحدثون عن مشاق الطريق ووعثاء السفر، والرجوع بزاد من هراء الأخبار وحمولة من ثقيل الأسفار. وهم إلى ذلك متنافرون، يلتذون من نهش أعراض بعضهم، يتنابزون بالألقاب ويسكرون من الاغتياب، تفجّر النميمة قرائحهم، إذا اجتمعوا في صالون فكأنهم أخوة "وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون".

أقول قولي هذا وأستغفر ربي وأتوب إليه.

ملاحظة (1): شكرًا لذلك الشاعر الذي حرّك فيّ هذه الكلمات!
ملاحظة (2): كُتب هذا المقال على وقع أغنية عبد الحليم "حبيبتي من تكون..يفكرون يتساءلون يتهامسون.."!
ملاحظة (3) : "المحلوي" أو "المحلي" إشارة للمكان أو المحل فالشاعر المحلي هو الذي بقي في "المحل"


التعليقات