علاء الاسواني في " عمارة يعقوبيان "، من إختراق المُحرّمات الى تحدي الواقع/د. جوني منصور*

علاء الاسواني في
هذه الرواية جندت التاريخ والواقع في الحياة المصرية في موقع واحد وبنجاح. فالعمارة تربط بين الماضي (المحمول بالنوستالجيا ) وبين الحاضر المتقلب والمحير وغير المستقر والفاقد لنكهة ذاته.

استطاع علاء الاسواني إختراق المحرمات ثم خروجه عن المسلمات، وبالتالي بناء خطاب جيد يطرح من خلاله القضايا، كل القضايا، ويبعثرها على طاولة التشريح والبحث والفحص والمراقبة والنقد.

ويشير الأسواني الى رفض الرقابة السلطوية لكل ما هو محرك للحرية الفكرية والتعبير عن الرأي ، مما دفع كثيرين من الأدباء وحملة الأقلام الى التراجع الخطير والتقوقع، وبالتالي الى حصول الجمود الإبداعي. هذا الوضع أفسح المجال أمام أدباء القصور للظهور والإنتشار كالفطريات.

ويوجه نقداً لاذعًا لجوانب معينة في ثورة يوليو ـ تموز 1952، مثلاً استيلاء ضباط القوات المسلحة على شقق عمارة يعقوبيان بعد خروج اليهود والأجانب منها ومن سواها من البنايات والدور.
ويشير الاسواني في روايته الى التحولات الكبيرة والعميقة التي حصلت في استعمالات المكان، حيث ان شرائح فقيرة استبدلت الشريحة الغنية في السكن في عدد من الشقق وفي الغرف الصغيرة فوق السطوح.

ومما لا شك فيه ان عمارة يعقوبيان تمثل بكل الحوادث التي تدور من حولها وتنطلق منها ، تمثل القاهرة كمدينة وكمجتمع مدني مركب من شرائح مجتمعية معقدة للغاية. ويقدم الاسواني وصفا تاريخيا وواقعيا لحالة القاهرة والتغييرات التي حصلت فيها على مر التاريخ ، وبصورة أدق خلال قرن من الزمن. فعلى طول الصفحات من 47 وحتى 51 يستعرض ما جرى للقاهرة :"... ظلت وسط البلد ـ لمائة عام على الأقل المركز التجاري والاجتماعي للقاهرة حيث تقع أكبر البنوك والشركات الأجنبية والمحال التجارية وعيادات ومكاتب مشاهير الأطباء والمحامين ودور السينما والمطاعم الفاخرة، ولقد شيدت النخبة القديمة في مصر وسط البلد لتكون الحي الاوروبي للقاهرة حتى انك في كل العواصم الاوروبية ستجد شوارع تشبهها.... وظل وسط البلد حتى مطلع الستينات محتفظا بطابعه الاوروبي الخالص والمخضرمون لا شك يذكرون تلك الاناقة... فلم يكن من اللائق ابداً أن يتجول ابناء البلد بجلابيبهم في وسط البلد ويستحيل قبولهم بهيئتهم الشعبية تلك في مطاعم مثل جروبي والامريكيين والاونيون .... وكانت المحلات جميعا تغلق ابوابها يوم الاحد وفي الاعياد المسيحية الكاثوليكية مثل الكريسماس ورأس السنة ....وحتى نهاية الستينات كان في شارع سليمان باشا وحده ما يقرب من عشرة بارات صغيرة ثم جاءت السبعينيات فبدأت وسط البلد تفقد اهميتها شيئا فشيئا وانتقل قلب القاهرة الى حيث تعيش النخبة الجديدة في المهندسين ومدينة نصر، واجتاحت المجتمع المصري موجة كاسحة من التدين فلم يعد من المقبول اجتماعيا ان تشرب الخمر واستجابت الحكومات المصرية المتعاقبة الى الضغط الديني ... وهكذا، بحلول الثمانينيات، لم يتبق في وسط البلد كلها سوى بضعة بارات صغيرة متناثرة استطاع اصحابها الصمود في وجد المد الديني والاضطهاد الحكومي وتم ذلك بطريقتين: التخفي والرشوة..." هذا التصوير الواضح للتغيرات التي حصلت على وسط البلد عبر السنين شاركت فيه الحكومات المصرية الواحدة تلو الأخرى فكانت هذه الحكومات هي المسؤولة الرئيسية في تحمل ما جرى لمنطقة هامة بالنسبة لتركيبة المجتمع المدني في القاهرة. بمعنى اخر انه يوجه انتقادا شديدا مبني على وقائع تاريخية استطاع الاسواني تجنيدها لخدمة مشروعه الروائي حول ما جرى لمدينة شرق اوسطية كالقاهرة. القاهرة التي كانت تشبه الى حد كبير المدينة الاوروبية لم تعد هكذا بفعل المد الديني والدعم الحكومي، بل التراخي الحكومي تجاه التحركات الدينية للحركات الدينية في القاهرة.

ولا يتأخر الاسواني من التعرض للمحرمات كظاهرة الشذوذ الجنسي اذ انه يخصص اقساما طويلة واحداثا مركزية لهذا الموضوع الذي يحاول المجتمع المصري خاصة والعربي عامة التهرب منه وعدم التطرق اليه لا كلاما ولا علاجا. اذ ما زال الشاذ جنسيا مرفوضا على كافة شرائح المجتمع وان اضطر البعض الى التعامل مع من هو شاذ جنسيا فيكون ذلك لمكانته او لسطوته او التغاضي عنه كجزء من عادة التغليف المتبعة في اوساط المجتمعات الشرقية. ويبدو بوضوح ان الاسواني قد تعرف على شريحة الشواذ جنسيا والمنبوذين اجتماعيا كالمتعاطين للمخدرات والزانيات وغيرهم من الشواذ. والتعامل بين السلطات المسؤولة كالشرطة وبين مشغلي أمكنة لقاءات الشواذ مبنية على قاعدة احتساب الرشاوى والربح والخسارة :" وصرامة الإنجليزي هنا لا ترجع بطبيعة الحال إلى حرصه على الفضيلة لكنها حسابات الربح والخسارة، فضباط المباحث كثيراً ما يزورون البار... صحيح أنهم يكتفون بإلقاء نظرة سريعة من بعيد ولا يزعجون الرواد ابداً (والفضل في ذلك للرشاوى الكبيرة التي يقبضونها) لكنهم لو رأوا فعلا فاضحًا في البار لأقاموا الدنيا وأقعدوها إذ تكون هذه فرصتهم لابتزاز الانجليزي حتى يدفع اكثر.(ص 54).

فالاسواني يبحث عن إجابات لاسئلة أو تساؤلات ما زالت عالقة من فترة طويلة في ذهن المصريين ومسجلة في صفحات ايام خلت من اجندة القاهريين.

ويلاحظ القارئ النبه الى ان الاسواني ينزل في عرضه لحقائق الحياة وواقعيتها من أعلى درجات المجتمع إلى أسفله. من الثري إلى البائس والتعس. صراعات الحياة بين المستميتين وبين المكافحين من أجل مبدأ أو حق في العمل. وظهور المبتزين والمستفيدين...

ويعمق تحليله لواقع المجتمع المصري في نقده لظاهرة تشغيل العمال والموظفين والاكاديميين وفق محسوبيات تنطوي على تراجع في المعايير الاخلاقية ، فهذا طه يحاول الالتحاق بالشرطة ولكنه يواجه عقبات ،ابرزها انه ليس ابن فلان صاحب منصب كذا " إن مناصب الشرطة والقضاء والمناصب الحساسة عمومًا ينبغي أن تقتصر على أولاد الناس لأن أولاد البوابين والكوائين وأمثالهم لو أخذوا أية سلطة سوف يستعملونها في تعويض مركبات النقص والعقد النفيبة التي أصابتهم في نشأتهم الأولى ثم ينهي حديثه بلعن عبد الناصر الذي أستحدث مجانية التعليم أو يستشهد بحديث رسول الله (ص)"... " لا تعلموا أولاد السفلة".." هذا التناقض الظاهر بين نشر التعليم الذي حققه عبد الناصر بكونه انجازا فيه نعمة ، وبين الرؤية التمييزية السائدة تجاه عامة الناس وتفضيل ابناء الناس ـ أي ابناء الذوات والمتنفذين، وهذا الوضع بكونه نقمة، وذلك لأن طه تعلم ومن المفروض ان مساحة التعليم المجانية التي حصل عليها ستمنحه الفرصة لنيل وظيفة محترمة يحصل بواسطتها رزقه بكرامة واحترام.

ويوجه انتقادا ادبيا حسن فيه بعض وجوهه من خلال " تنعيم" الكلمات والتعابير ،خاصة ما له علاقة بظاهرة البقشيش والتعالي من قبل الاثرياء نحو الفقراء :" الفقر والعمل المضني وعجرفة السكان وتلك الورقة بخمسة جنيهات المطوية دائما التي يمنحها له ابوه يوم السبت والتي يحتال بألف طريقة حتى تكفيه طوال الاسبوع، منظر يد أحد السكان الدافئة الناعمة تمتد بكسل وتفضل من نافذة السيارة لتمنحه البقشيش ولا بد حينئذ من ان يرفع يده بتعظيم وسلام ويشكر المحسن اليه بحرارة وصوت مسموع، تلك النظرة الوقحة الناطقة بالتشفي او المتسامحة المتعاطفة المتوارية خجلا من الموضوع..."(ص 31).

ويدمج في روايته بين الوصف التاريخي الأقرب الى الوثائقية او التوثيقية بصورة أدق وبين الواقع المعاش على ارض الواقع وبالفعل يوميا .

الهروب من الواقع الاليم متمثلا في شخصيتي بثينة وطه.

الرواية عبارة عن محاولة لقراءة التاريخ الاجتماعي الصارخ للشعب المصري في مراحل حاسمة وفاصلة عبر محطات زمنية هامة لعبت دورا مركزيا في صقل شخصية مصر والمصريين. وهناك من النقاد والباحثين في الادب وبشكل أصح المؤرخين الذين يعتبرون هذا النوع من الكتابة يميل الى ما يعرف بـ " التاريخ اليومي الجاري" بما فيه وصف صراعات المجتمع من أصغر افراده وصولا الى اعلى رتبة يتبوأها زعيم البلد.
فتاجر السياسة وتاجر المخدرات والفاسدون في الادارة ومتلقي الرشوة كلهم في بوتقة واحدة.

وتظهر الرواية فقدان الاخلاق، بل يصور لنا الاسواني صورة واضحة للغاية حول تغليف المجتمع لتصرفاته غير الاخلاقية من خلال القيام بالفروض الدينية. هذه الفروض الدينية تكسو التردي والتراجع في الاخلاق.

والحاج عزام الذي ركبته رغبة ،بل شهوة، كرسي النيابة دفع مقدما مليون جنيه للفولي ليسهل عليه الوصول الى مجلس الشعب وقام الاثنان مع ولديهما بإغماض عيونهم " ... وبسطوا ايديهم امامهم في تضرع وجعلوا يرددون الفاتحة بصوت هامس..."(ص 121) . هذه الصورة الغريبة والمتناقضة تعكس التغطية الدينية لكل ما هو غير اخلاقي فيصبح اخلاقيا.

والجامعة التي من المفروض ان تكون مكانا يوحد بين طبقات وشرائح الشعب دون تمييز بين الاغنياء والفقراء ماليا نرى ان الجامعات في مصر قد انضمت الى كوكبة العناصر التمييزية والفاصلة بين شرائح الشعب الواحد :".... وتكونت شلل متعددة ومغلقة من خريجي مدارس اللغات وأصحاب السيارات الخاصة والملابس المستوردة والسجائر الاجنبية وقد انجذب لهؤلاء اجمل البنات وأكثرهن أناقة. أما الطلاب الفقراء فأخذوا يتلاصقون كالفئران المذعورة ويتهامسون على استحياء وفي اقل من شهر كان طه قد صاحب مجموعة المسجد ..."(ص 128). وهنا نرى تعليلا اخر لميل ابناء الطبقات الفقيرة المسحوقين اقتصاديا من الطلبة الجامعيين الى النشاطات الدينية لانهم يجدون فيها مساحة من العمل ومتنفسا انتقاميا معينا.

ولا توجد تخفيضات لدى الاسواني في نقده اللاذع للسلطات الحاكمة في مصر فها هو الشيخ شاكر يخاطب الشباب فيقول:"... والدولة الديموقراطية المزعومة تقوم بتزوير الانتخابات واعتقال الابرياء وتعذيبهم لتستمر الزمرة الحاكمة في سدة العرش الى الابد..."(ص 134). انه يوجه نقدا الى ابدية الحاكم او سلطته من خلال استعمال اللعبة الديموقراطية التي تتيح له الوصول بإسمها الى سدة العرش والبقاء فيها الى الابد. والسلطة الحاكمة تملك من القوة والنفوذ ما يؤهلها لتجنيد الصحف ووسائل الاعلام لتزييف الريبورتاجات وتضخيم احداث بصورة اعلامية كاذبة للغاية.

ويصل الاسواني الى طرح حالة من السلوكيات السائدة في المجتمع المصري من خلال علاقات جنسية سرية وخفية بين عاملات محل شنن وبين صاحب المحل طلال ، وكل عاملة على ما يبدو مرت بتجربة في هذه العلاقة مقابل مبالغ من المال نالتها كجزء مقابل الخدمات ،ويبدو ايضا ان تناقل امر هذه العلاقات المشبوهة يتم من الواحدة الى الاخرى دون حاجة صاحب المحل الى طلب ذلك ": ... أكدّت لها فيفي أن مسايرة صاحب العمل "في حدود" تعتبر شطارة وأن الدنيا شيء وما تراه في الافلام المصرية شيء أخر وأكدت انها تعرف بنات كثيرات عملن سنوات في محل شنن وكن يستجبن لما يطلبه الاستاذ طلال صاحب المحل" في حدود" وقد صرن الآن زوجات سعيدات عندهن أولاد وبيوت وأزواج محترمون يحبوهن جداً...هكذا سألت فيفي وضربت مثلاً بنفسها فهي تعمل في المحل من عامين ومرتبها مائة جنيه لكنها تكسب ثلاثة اضعاف هذا المبلغ من "شطارتها" بخلاف الهدايا ومع ذلك لا زالت محافظة على نفسها وبنت بيوت والذي يتكلم عن سمعتها تضع أصابعها في عينيه والف رجل يتمنى الزواج منها...صافح طلال بثينة (واعتصر يدها) ولم يرفع عينه عن صدرها وجسدها وهو يحدثها وبعد دقائق تسلمت عملها الجديد ولم تمض بضعة اسابيع حتى علمتها فيفي ما يجب عليها عمله: كيف تعتني بمظهرها وتطلي أظافر يديها وقدميها وتفتح صدرها قليلا وتضيق خصر الفساتين لتحدد مؤخرتها وردفيها..."(ص 63 وص 64).

وطبعا لا يترك الاسواني بثينة في حالتها الفرحة هذه بل انه يدخلها في صراع داخلي توجهه بنفسها اذ ان " ... لقاءاتها مع طلال في المخزن تترك في نفسها آثارا لم تتخيلها، لم تعد قادرة على أداء صلاة الصبح (الفريضة الوحيدة التي تؤديها) لأنها في داخلها تخجل من مواجهة ربنا وتشعر بأنها نجسة مهما توضأت وأخذت تنتابها كوابيس ...."(ص 67). انها تمثل وضع الشباب المصري سواء الذكور ام الاناث في الرغبة الجامحة في الحصول على المال بأرخص الاثمان وبكل الطرق التي تصبح ـ كلها ـ مشروعة للغاية. فهي تبيع جسدها مقابل المال ولتنل حظوة لدى صاحب المحل وغيره من الرجال فاتحي الأفواه كسمك القرش لاصطياد فريسة تشبع غريزتهم وشهوتهم الجسدية.

ويبلغ انحلال الاخلاق في المجتمع المصري الذي يصوره الاسواني في روايته الى درجة ان الحاج محمد عزام "...لم يشرب الخمر قط اما الحشيش الذي يدخنه فقد أكد فقهاء كثيرون انه مكروه فقط وليس نجسا او محرما كما انه لا يذهب بالعقل ولا يدفع الانسان الى ارتكاب فاحشة او جريمة كما تفعل الخمور، بل على العكس فإن الحشيش يجعل المرء اهدأ اعصاباًَ وأكثر اتزانا وأحد ذهناً...(ص73).

النقد اعلاه موجه الى رجال الدين الذين يغلفون تصرفات المتنفذين ويكسبونها شرعية بكلام منمق يجعل القارئ او الانسان البسيط متعجبا من مصداقيتهم.

شخصية ابسخرون تظهر شكلا من اشكال الاستعطاف والرحمة بالميل الى استخدام الجانب الديني كوسيلة لتحقيق مأرب ما :" أنا عاجز يا بك ورجلي مقطوعة... عاجز وفي رقبتي كوم لحم وملاك بيصرف على أربعة عيال وأمهم... لو بتحب السيد المسيح يا بك ما ترجعني مكسور الخاطر..."(ص 47).

ويعكس صورة قاتمة لأصعب وأشد نزيف يعاني منه المجتمع المصري المتعلم في الاساس الا وهو نزيف الهجرة الذي تملك على شرائح واسعة من ابناء المجتمع المصري المتعلم ، خاصة من ابناء الفقراء والمقهورين:".... لكن الطبيب الشاب (كمعظم ابناء جيله) كان كارها للاوضاع في مصر لدرجة اليأس فصمم على الهجرة وعرض على امه ان يصطحبها فرفضت وبقيت وحدها ..."(ص 94).

ويسلط الاسواني سهامه نحو رعيل المفكرين الاوائل امثال الدكتور حسن رشيد الذي "...كان من أعلام القانون في مصر والعالم العربي، وهو مثل طه حسين وعلي بدوي وزكي نجيب محمود وغيرهم، واحد من مثقفي الاربعينيات الكبار الذين اتموا دراساتهم العليا في الغرب وعادوا الى بلادهم ليطبقوا ما تعلموه هناك بحذافيره في الجامعة المصرية، وبالنسبة لهؤلاء كان " التقدم" و " الغرب" كلمتين بمعنى واحد تقريبا، بكل ما يعني ذلك من سلوك ايجابي وسلبي، كان لديهم جميعا ذلك التقديس للقيم الغربية العظيمة: الديموقراطية والحرية والعدل والعمل الجاد والمساواة، وكان لديهم، ايضًا ذلك التجاهل لتراث الامة والاحتقار لعاداتها وتقاليدها باعتبارها قيودا تشدنا الى التخلف وواجبنا ان نتخلص منها حتى تتحقق النهضة..."(ص 104 – 105).


والحالة السياسية في مصر لا تفلت من سهام النقد واللوم في الوقت ذاته وفي مرات كثيرة على طول مسيرة تطور وتقدم الرواية حيث يركز على موضوع الفساد الاداري والتزييف في الانتخابات(ص 115) وكيفية ادارة الحزب الحاكم في مصر. كلها صور تبقى ماثلة امام القارئ لحالة السياسة في مصر وخارجها ، خاصة في مدار الدول العربية التي تعاني من حالة شبيهة بالحالة المصرية . ويستطرد الاسواني الى حالة اخرى من الفساد الاداري والسياسي من خلال الاشارة الى الابتزاز السياسي حتى من وزراء الاوقاف الذين من المفروض ان يكونوا صادقين وامينين في مهامهم ، حتى هؤلاء تورطوا في عالم الفاسد والابتزاز.

ولا يفوت الاسواني فرصة توجيه انتقاداته اللاذعة نحو قيام الحكومة المصرية بترويض علماء الازهر واستخدامهم اداة طيعة بيدها لتحقيق مآرب سياسية خاصة بقيادة الحكومة والسلطة، وبالتالي ارضاء للولايات المتحدة الامريكية والغرب كما حصل في الحرب على العراق، حيث اكد علماء الازهر ":... أن موقف الحكومة المصرية صحيح شرعا ويزعمون ان الاسلام يقر بالتحالف مع امريكا لضرب العراق "(ص 170). ويقدم الاسواني الجواب الذي يريد الشعب المصري والعربي تقديمه من خلال حديث الشيخ شاكر الى طه بقوله:"... هؤلاء مشايخ منافقون وفاسقون، فقهاء السلاطين وذنبهم عند الله عظيم... الاسلام لا يجيز اطلاقا ان نشترك مع الكفار في قتل المسلمين مهما كانت الاسباب ... والاسانيد الشرعية لذلك يعرفها أي تلميذ في سنة اولى شريعة..."(170). هذه الصورة تعكس عدم رضا وعدم موافقة الشارع المصري العام لتجنيد الحكومة المصرية لرجال الازهر الى جانبها، وهكذا ابتعد علماء الازهر عن المصداقية . وبالتالي مهما حاول الازهريون تغليف وتجميل وقوف الحكومة المصرية الى جانب الولايات المتحدة في حربها ضد العراق فإن ابسط الامور في دراسة الشريعة تؤكد عدم شرعية ذلك الموقف، ومما لا يحتاج الى مزيد من الدراسة بعد السنة الاولى في تعلم الشريعة.


ويبدو ان الطغمة الحاكمة في مصر قد تمكنت من دراسة نفسية الشعب المصري وفهم سلوكياته الحياتية والانتخابية فيورد الاسواني على لسان الفولي :" كل الحكاية اننا دارسين نفسية الشعب المصري كويس... المصريين ربنا خلقهم في ظل حكومة... لا يمكن لأي مصري يخالف حكومته... فيه شعوب طبعها تثور وتتمرد إنما المصري طول عمره يطأطي لأجل يأكل عيش ... الكلام ده مكتوب في التاريخ، الشعب المصري أسهل شعب ينحكم في الدنيا... أول ما تاخذ السلطة المصريين يخضعوا لك ويتذللوا لك وتعمل فيهم على مزاجك... وأي حزب في مصر لما يعمل انتخابات وهو في السلطة لازم يكسبها لأن المصري لازم يؤيد الحكومة... ربنا خلقه كده..."(ص 120).

هذه الصورة واقعية لكنها ليست حقيقة الشعب المصري ، فالاسواني يطرحها كما هي دون ان يقدم تفسيرات او تحليلات اذ انه يتركها للقارئ النجيب واللبيب يدركها بنفسه ويقلبها في كل جوانبها.


يطرح الاسواني خفايا الاساليب والطرق المتبناة في تكوين نخبة جديدة من الاثرياء وكيف انتقال هؤلاء من خانة المليونير الى خانة الملياردير والطريق من بعد هذه المرحلة تصبح قصيرة الى وزارة من وزارات الحكومة المصرية. بل اكثر من ذلك قد يصبح بفعل ملايينه رئيسا للوزراء (ص 173).

هذه هي حالة البلاد العامة وكأن الكل يعرف عنها بالرضا او شبه الرضا انما الصمت المكبوت هو سيد المواقف كلها، بمعنى ان كل شيء هو بالعكس في مصر ، أي بعكس التيار الحقيقي والواقعي والمنطقي في تكون الاثرياء وفي وصول من يتوجب وصولهم الى المناصب الهامة. " عندنا الكبير يكبر والصغير يموت.. الفلوس تجيب فلوس والفقر يجيب فقر.."(ص 177).


صورة مصر الحالية مطروحة على جدول المناقشة في هذه الرواية بحكمة واقعية لما حصل عليها من تغييرات وتحولات اساسية. فمصر لم تعد ام الدنيا بالنسبة للمصري في عالم منفتح وواسع للغاية ، ومصر لم تعد توفر الجواب الكامل والكافي لما يحتاج اليه المصري. ويقوى النقاش عندما يتم توجيهه الى الشأن السياسي فحب مصر غير مرتبط بشخص ما . ولكن ما يلمسه المصري في حياته اليومية ،وهذا ما يريد طرحه الاسواني بكل وضوح، اذ ان الهم المعيشي هو محور تفكير وقلق ومستقبل الانسان المصري اكثر من مجرد حب الوطن الذي اصبح موضوعا هامشيا في هذه المشهدية. وهنا مجددا يوجه الاسواني نقدا شديدا لتصرفات وسلوكيات الحكومة المصرية تجاه مواطنيها في ساعات الازمات والمشاكل اليومية من تقاعس وتردد واهمال ولامبالاة من طرف السلطات الحكومية في توفير حلول لحياة المواطنين(ص193).


يقدم لنا الاسواني صورة ساتيرية للغاية حول مواقع اتخاذ القرارات في تاريخ مصر. ففي العهد السابق ـ عهد ثورة يوليو 1952 كانت نخبة الحكم تجتمع في قاعة المطعم الشرقي في فندق الشيراتون الجزيرة في القاهرة في حضرة كبابجي الشيراتون الذي تجمعت بيده قوة القرارات والتأثير على صانعيها، كما كانت القرارات تؤخذ في العهد الملكي في نادي السيارات. التغيير هو شكلي للغاية بينما القرارات الصادرة عن هذا المطعم تعبر عن سخرية القدر في مواقع القرار في مصر. فخلال الاكل والشرب والتدخين تصنع قرارات مصيرية تترك اثارها على ملايين المصريين.(ص 203-204).


يكشف الاسواني عن وجود سلسلة من الابتزاز السياسي المرافق بالابتزاز المالي الشديد والقاسي، فمن يرغب في الوصول الى مجلس الشعب عليه ان يُطعم "الكبير ". والكبير هنا هو صاحب القرار وصاحب تكوين شكل المجلس ليتلاءم مع ما تحتاج اليه السياسة المصرية التي يمسك بها بتلابيبه. وهذا الكبير يفرض شراكة مع كل من يرغب في الوصول الى مجلس الشعب او أي وظيفة مفتاح.

صراحة الاسواني واضحة للغاية فالابتزاز الساسي والمالي اصبحا سمة اساسية من سمات النشاط والحراك السياسي في مصر. وهذا ما يرفضه المجتمع المصري المتطلع الى نسمات الحرية والديموقراطية الحقيقية في عصر تعصف فيه رياح الديموقراطية .


تدرك الحكومات شبه الديموقراطية ان غضب الشارع لا يوازيه غضب ويجب اخذه بعين الاعتبار بكل صوره، لهذا نرى هذه الحكومات تعرف كيف تتصرف في مثل هذه الحالات بواسطة انزال سياسيين واعلاميين وشخصيات تعمل على تهدئة وطرح كميات كبيرة من الوعود الرنانة ثم تأتي مرحلة التمييع والمشاجرات الشكلية والوهمية لاظهار اهمية الامر، ولكن الحقيقة هي ان الهدف الاساسي ابطال الموضوع والقاءه في نفايات التاريخ.(ص 221).


حصلت تغييرات في شخصية بثينة . انتقلت من عالم القيم والمثاليات والتحليق في الهواء الى الواقع الحياتي وان كان الانحلال هو المسيطر عليه، فظاهرة الابتزاز الجنسي موجودة منذ فجر التاريخ وكانت المجتمعات تخفيها بالاتفاق والتراضي، اما الآن فلم يعد هذا الامر هو الاهم، فالمتغيرات جعلت من " الطيبين" مهمشين ولا دور لهم، وها هي تريد اختراق حاجز الطيبة هذا، " فقدت إشفاقها على الناس وتكونت حول مشاعرها قشرة سميكة من اللامبالاة، ذلك الزهق الذي يصيب المراهقين والمحبطين والمنحرفين فيمنعهم من التعاطف مع الاخرين، وقد نجحت بعد محاولات متكررة في التخلص من شعورها بتأنيب الضمير، دفنت الى الابد الاحساس بالاثم الذي كان ينتابها وهي تتعرى امام طلال وتغسل عن ثيابها نجاسته ثم تمد يدها اليه لتقبض عشرة جنيهات"(ص 225).
تعيش بثينة حياة الفتاة المعاصرة المتخبطة بين عالمين: المثاليات والواقع. فهي تريد المال من جهة وتريد حياتها متطورة ومتقدمة من جهة اخرى. والحقيقة انها حسمت موقفها في نهاية الامر فالمال كان سيد الموقف بالنسبة لها.(ص 227).


يبدو ان شخصية عبد الناصر ما زالت تستحوذ على حيز لا بأس به من الصراع النفسي الداخلي في مصر. ومحاولات واسعة لتوجيه تهم اليه بكونه المسؤول الاول والمباشر عن هزائم مصر والعرب عسكريا وسياسيا واقتصاديا. روح النقمة مستولية على عقول ونفوس قطاعات واسعة من الشعب المصري وهذه تم تغذيتها على يد جهات رسمية بعد وفاته، حتى بلغ الامر بطرح مشاريع لاعادة كتابة تاريخ مصر بعد الثورة من جديد برؤية اخرى تتعارض مع ما طرحته الثورة من مبادئ ومع ما قام به عبد الناصر من مشاريع واصلاحات وخطوات على الصعيدين المصري والعالمي (العربي والافريقي والعالمي).

التهم الموجهة الى عبد الناصر تتجلى في محادثة بين بثينة (ابنة الجيل الجديد بعد عبد الناصر) وبين زكي ابن العهد الملكي والثورة. فزكي ناقم على عبد الناصر لانه ـ أي زكي ـ عاش فترة ما قبل الثورة في عز ونعيم وهناء، ولما جاء عبد الناصر طرد اناس كثيرين كاليهود والاجانب مثلا. ولكن زكي لم يقدم تفسيرا لعملية الطرد هذه بل يسأل بثينة عن رأيها في عبد الناصر. وهي بدورها لا تملك جوابا او موقفا بل تقول هناك من احبه وهناك من ابغضه. وهنا يبدأ زكي بتعليم بثينة درسا في السياسة ضد عبد الناصر بقوله: عبد الناصر اسوأ حاكم في تاريخ مصر كله...ضيع البلد وجاب لنا الهزيمة والفقر... والتخريب اللي عمله في الشخصية المصرية محتاج الى سنين طويلة لاصلاحه... عبد الناصر علم المصريين الجبن والانتهازية والنفاق..." وتقاطعه بثينة بسؤال عن سبب حب الناس لعبد الناصر، فيثور للغاية مكيلا تهما جديدة على عبد الناصر وجماعة الضباط الاحرار " مجموعة عيال من حثالة المجتمع... معدمين اولاد معدمين... والنحاس باشا كان رجل طيب وقلبه على الفقراء فسمح لهم بدخول الكلية الحربية وكانت النتيجة انهم عملوا انقلاب سنة 52 ... حكموا مصر وسرقوها ونهبوها وعملوا ملايين... طبعا لازم يحبوا عبد الناصر لأنه رئيس عصابة..""(ص229).

يعكس هذا الكلام موقف من خسر مكانته السابقة للثورة بطبيعة الحال، ولكن دون شك فإن رياحا مسمومة موجهة الى عبد الناصر والضباط الاحرار ، وهم الذين افقروا مصر وشعبها بما قاموا به من خطوات. ولكن واقع الامر ان نقاشا وجدالا حول مكانة ودور عبد الناصر هو امر شرعي وصحيح ولكن فات الاسواني وغيره ان يتناقشوا حول مواقف زكي وسواه من الفترة التي اعقبت عبد الناصر. ماذا فعل المصريون بعد رحيل عبد الناصر ؟ مرت اكثر من ثلاثة عقود والشأن السياسي تراجع والنشاط الفكري في جمود ، ليس في مصر فحسب بل في ارجاء العالم العربي. محاولات الاسواني لمعالجة حقبة عبد الناصر ليست ناجحة الى هذا الحد الا اذا قيست بموازاة معالجته للحقب التي تلت، والتي ما تزال تتفاعل بكل زخمها على الساحة المصرية وان كان الاعلام يخفيها عن اعين العالم.
يطرح الاسواني وبتوفيق ما احدى اهم القضايا الاجتماعية بل الانسانية في روايته هذه، نعني بها قضية الشاذ جنسيا او الشواذ في السلوكيات التي تعتبر من "التابوـ المحرمات). فحاتم رشيد الشاذ جنسيا هو مثقف ومتعلم واجتماعي وله مواقف سياسية وله حياته الخاصة ويحاول رشيد ان يفسر لجوء شخصيات كثيرة الى التعامل الشاذ جنسيا، فيقول الاسواني:" ان معظم الرجال في الدنيا لهم مزاج معين يتخففون به من ضغوط الحياة وقد عرف شخصيات في ارفع المناصب: اطباء ومستشارين واساتذة جامعة، مولعين بالخمر أو الحشيش او النساء او القمار ولم يقلل من نجاحهم او احترامهم لانفسهم، وهو يقنع نفسه بأن شذوذه شيء من هذا القبيل، مجرد مزاج مختلف"(ص255).

محاولة الاسواني معالجة ظاهرة الشاذ جنسيا عبارة عن منعطف جديد في طرح قضايا انسانية واجتماعية من الدرجة الاولى، اذ اصبح لزاما على المجتمع المصري والعربي قبول من هو ليس في نطاق الوفاق العام المتفق عليه مسبقا وتاريخيا. بمعنى اخر يدعو الاسواني الى تقبل الشاذ والتصالح معه لأنه ليس المسؤول المباشر عن حالته ووضعيته هذه. بل خطأ كبير نبذ هؤلاء لحالتهم التي هم فيها، فوالدي حاتم يتحملان مسؤولية ما آل اليه وضعه.

كذلك يبرز الاسواني جرأته في طرح موضوع الاجهاض فمن حق سعاد جابر الدفاع عن جنينها وتحرير ذاتها من الذل والعار،ولكن آن لهذه الحالة ان تكون سيدة الموقف وتحقق انتصارها في عالم تسوده قوة رجال همهم قناع الكرامة والشرف والجشع، فنهايتها الموت لانها ارادت الحياة لجنينها الشرعي الذي طالما انتظرته وتاقت الى ضمه (ص 248-251).


يبدو بوضوح ان الاسواني قد جهز قلمه جيدا قبل ولوجه في معالجة قضايا المجتمع المصري من خلال روايته هذه. فلم يترك النظام القائم جانبا وحماه بهالة قدسية، انما يكشف عليه بكونه يحتاج الى علاج من نوع الديمقراطية التي تنقص جسده وتعطل مسيرته الى الامام: "السبب في تدهور البلد انعدام الديموقراطية...لو فيه نظام ديموقراطي حقيقي في مصر تبقى قوة عظمى...مصر بلوتها الديكتاتورية والديكتاتورية نهايتها المحتومة فقر وفساد وفشل في كل المجالات"(ص 282).
ولا يفوته ان يوجه انتقاده اللاذع الى قوانين الطوارئ التي ما زال معمولا بها في مصر في مطلع القرن العشرين والتي تشكل عائقا مركزيا في تقدم وتطور مصر ومجتمعها(ص 305). ويرى الاسواني تعامل السلطات المصرية مع الاسلاميين خطوة غير سليمة ومؤذية للغاية: "التعليمات الجديدة ان يقتلوا اكبر قدر من الاسلاميين... يسمونها سياسة الضرب في سويداء القلب... لو تعامل النظام الكافر بهذه الوحشية مع اليهود لكانت القدس تحررت من زمان.."(ص 307).

هذا نقد لاذع ومرير للغاية في مقارنته بين تعاملين، الى حد انه يدعو الى توجيه السياسة المصرية نحو شدة وقسوة في التعامل مع اليهود وليس مع الاسلاميين. وهو يعلن ان هناك تعليمات جديدة وهذه قادمة من خارج مصر بعد عملية 11 سبتمبر في نيويورك والتي تركت بصماتها على تعامل الانظمة الموالية مع الحركات الاسلامية المنتشرة في العالم العربي خاصة. ولنلاحظ ان الاسواني لا يستخدم مصطلح " الاصوليين" وهو مصطلح غربي موجه الى حركات اسلامية تطالب بحقوق وامتيازات معينة في مساحات نشاطاتها.


ان هذه الرواية بإعتباراتنا عبارة عن نقلة نوعية في طرح القضايا اليومية والمصيرية للعالم العربي عامة، وان كانت تعبر عن حالة مصر الحالية من خلال ما يدور في عمارة يعقوبيان. فعمارة يعقوبيان هي مساحة من التاريخ المصري اليومي عبر سنوات طويلة وتعكس تقلبات نظام الحكم والحياة العامة في مصر.

المشهدية الرائعة التي يقدمها الاسواني تعكس نجاحه في كشف الامراض المزمنة التي يعاني منها المجتمع المصري سياسيا وماليا واجتماعيا وثقافيا واسلاميا وان الحاجة ماسة جدا الى احداث تغيير في منظومة الحياة اليومية في مصر والا فإن مصر ستكون في طرف العالم ولا دور لها.

يدعو الاسواني الى تحرير المجتمع المصري من القيود المفروضة عليه ليعيد بناء ذاته وفق اسس حديثة ومتطورة مبتعدا عن التقوقع في الماضي.

رواية " عمارة يعقوبيان" تعكس بكل جدارة جرأة حقيقية طالما انتظرها المصري والعربي على حد سواء في طرح قضايانا الحياتية والمصيرية بعيدا عن التغليف والمواربة.

اعتقد ان هذه الرواية تشكل منعطفا مركزيا وجوهريا في شق الطريق امام عشرات من الروائيين العرب لمواهجة القضايا الكثيرة التي طرحتها هذه الرواية على وجه التحدي.

-------------------------------
* مؤرخ وكاتب من حيفا.

التعليقات