قضايا لغويّة (5)/د.إلياس عطا الله

-

قضايا لغويّة (5)/د.إلياس عطا الله

تَخْنِيثُ اللّغة، بين التّذكير والتّأنيث -5-


 


- ط –


كثيرة هي اللّغات غير المُجَنْسِنَة(non sexist /de-genderized languages )، وهي كذا بأصل وضعها، وطبيعتها، وليست نتاجَ نشاط نسويّ ومعارك قصيرة أو طويلة الأمد، خاضتها الحركات النّسويّة، أو المنظّمات الأهليّة أو القوانين الدّوليّة، فغيّرت شكل اللّغة إلى ما هي عليه الآن، فاللّغات ليست مُنْتَجًا نتحكّم به متى شئنا، أو نطوّعه لمآربنا وأهوائنا أو مصالحنا، اللّغات تنمو وتتبدّل وتتغيّر بتلقائيّة، والزّمن، بمتغيّراته، كفيل بأن يجري هذه التّغييرات في بنى اللّغات وقواعدها بعيدا عن القسريّة، وإن ظننّا أنّنا قادرون على التّغيير قسرا بإيماءةٍ أو بأمرٍ، فلن نجني إلا  الخيبة.


شتّان ما بين الدّالّ المفردة، والمدلول: الرجل/ المرأة، فالدّالّ اللّغويّ يشير فقط إلى الهيكل الذّكوريّ/ الإناثيّ بسماته البيولوجيّة الخَلْقيّة لا الخُلُقيّة، ولا علاقة له بسمات المدلول، فعدوّ المرأة وقامعُها، والمستعلي عليها، أو المؤمن بأنّه نِدٌّ لها، ونصيرها، والمدافع عن حقوقها... كلّهم في عُرف اللّغة وقواعدها: " رجل"، وإذا أردنا خوضًا في سماته، تفترض قواعدُ اللّغة إضافةَ أوصافٍ ممّا ذُكر، لأنّ الدّالّ    " رجل" لا يحمل، مجرّدا، أيّا من هذه الدّلالات، وتحميل كلمة "رجل" هذه الدّلالات وكأنّها سماتٌ طبيعيّة مشتقّة من المفردة المذكورة قضيّة كذب، ولا علاقة لها باللّغة، فقد تكون مفردة " امرأة" حاملةً لهذه الصّفات التي افترضنا ملازمتَها للرّجل.


كونُ بعض اللّغات مُجَنْسِنَةً لا يعني بالضّرورة أنّ أهلها مُجَنْسِنون، وكونُ غيرها غيرَ مجنسِنَةٍ لا يعني أنّ أهلَها غيرُ مجنسنين، ولو كان الأمر كذا، لرأينا رحيلا نَسَوِيّا نحو المجتمعات الفارسيّة أو الإسكيمويّة، أو الصّينيّة أو عدد من المجتمعات الشّرق آسيويّة، فكلّ هذه اللّغات محايدة على صعيد الجندر، ومجتمعات اللّغات الحياديّة هذه، قد تجعل من المرأة في الممارسة المجتمعيّة بكلّ ما يتبعها، تابعةً مقموعةً، ولا تشي اللاجنسنة اللغويّة إذًا بشيء من حقيقة الأحوال الشّخصيّة للمرأة في هذه المجتمعات، فالمتحكّم في مثل هذه الأمور هو الأعراف الاجتماعيّة مستعينة بشرع أو قانون في بعض الأحيان، أو متجاوزة للشّرع وللقانون أحيانا.


في الفارسيّة، للمذكّر علامةٌ، تماما كما خُصّ المؤنّث بعلامة، فإن كان وجودُ العلامة مجنسنا سلبا، فالأمر لا يستقيم في هذه اللّغةِ، فالألفاظ في الفارسيّة إن كانت أوصافًا أو أسماءً تدلّ على الإنسان، تسبقها أو تلحق بها علامة المذكّر      " نرد" إذا أردتَِ التّذكير، وعلامة المؤنث " زَن" إذا أردتَِ التّأنيث، وتتغيّر علامتا التّذكير والتّأنيث إن كان الحديث عن حيوان، فتكون " نَر" للمذكّر، و " مادِه" للمؤنّث. أمّا الضّمائر، فشاملةٌ للمذكّر وللمؤنّث بلفظها وذلك وفقا للسّياق، وكذا الأمر في أسماء الإشارة والأسماء الموصولة، وإن وجدنا فصلا في هذا المضمار فهو بين العاقل وغير العاقل لا بين المؤنّث والمذكّر... فهل من ضرورة، بعدُ، إلى أن أقترح على بعض النّسويّات العيش في إيران أو في بلاد الإسكيمو أو في الصّين، حيث     " العدل اللّغويّ"، حتى يعدن بحنين جارف إلى لغتهنّ ببنيتها وأسلوبيّتها؟


- ي –


وبعد، ماذا مع العربيّة؟ وهل من حاجة إلى التّخنيث؟


فلنقل بدءًا إنّه لا حاجة لإجراء عمليّات تجميليّة على اللّغة العربيّة وأضرابها، فالإنصافُ أو غيابُه، والمساواة أو غيابُها، قضايا لا شأن للّغة بالتّأسيس لها، فاللّغة ما ولّدَتِ الغُبنَ بطبيعتها، ولا أسّستْ للامساواة بأصل وضعها، وقضيّة الخطاب في العربيّة تعتمد على جنس المخاطب، وعلى التّغليب اللّغويّ لصيغة المذكّر لا للذّكر نفسه، وعليه، ليست لغتُنا مجالَ صراع لمطلبٍ نسويّ، وإن كانت ثمّة مواضعُ قد ترى بعض النّسويّات ضرورة لإجراء عمليّات تصحيحيّة فيها، ومن باب الاقتراح أشير إلى ما يلي، مذكِّرا المنادياتِ بلاجنسنة اللّغة بأن يطبّقْنَها أوّلا، وأن يقمْنَ بهذا بمنهجيّةٍ خالية من الثّغرات:


1.              الانتباه إلى أنّ بَوْنًا شاسعا، على صعيد إجراء اللاجنسنة يفصل بين اللّغة المكتوبة واللّغة المنطوقة، ففي الأولى ثمّة سهولةٌ لممارسة تقنيّات الشّموليّة الجنسيّة أو حياديّة المفردة.


2.              لا يَضيرُ العربيّةَ في شيء أن يُلجَأ إلى أسلوب الخطّ المائل متبوعا بعلامة التّأنيث، أو بالمفردة من الجنس الآخر، وفي قولي المفردة، لا يهمّني إن كان الاسم المتقدّم مؤنّثا أم مذكّرا، ولكنّني أنبّه إلى ما يترتّب عن هذا التّقديم والتّأخير في الأسلوبيّة التي يجب أن نحافظ فيها على السّلامة القواعديّة.


3.              هـربًا من الضّمائر المجنسنة للخطاب والغَـيْـبَة، لا بأس في التّعـويـل على


" نحن"، ففي حديثكَِ مع مجموعة شاملة للجنسين، وبعيدا عن قضيّة التّغليب، قد تقوم" نحن" بالمهمّة أحيانا، و "نحن" هذه ليست، كما تكتب بعض كتب التّدريس الغبيّة المعاصرة، ضميرًا " للمتكلّمين"، هي ضميرُ المتكلّم، ذكَرًا أو أنثى، ومعه/ا غيرُه/ا: فـ" نحن" = أنا+ هو+ هي+ أنتَ+ أنتِ، أو= أنا+ أنتَ+ أنتِ، أو ...، واللّجوء إلى هذا الضّمير المحايد يُعين في اللّغة المنطوقة والمكتوبة.


4.              لا بأسَ في اللّغة المكتوبة، والإمكانيّة التّنفيذيّة هيّنة، أن نلجأ إلى حركَتَي التّأنيث والتّذكير في الخِطاب الإفراديّ؛ الكسرة والفتحة، نحو: أودُّ أن أعْلِمَكَِ أنّ عليكَِ مراجعةَ أستاذِكَِ. أمّا في ضمائر الغيبة المفردة والمجموعة، والخطاب المجموع، فيُلجأ إلى الخطّ المائل.


5.              تظلّ الأفعال أكثرَ المركّبات اللّغويّة صعوبةً بسب ما يتّصل بها من سوابق(حروف المضارَعَة)، ولواحق( الضّمائر)، ففي السّوابق واللّواحق تبيانٌ لجنس المسنَدِ إليه المخاطبِ أو المخبَرِ عنه أو الموصوفِ، ولذا علينا أن نجنح إلى أسْمَنَةِ   (  nominalization) الجُمَلِ بالتّخلّص من الأفعال وما يتّصل بها، وذلك  بأن نورِدَ المصادرَ الصّريحةَ بدلا من الأفعال، والأمر يحتاج إلى شيء من الممارسة والقدرة التّعبيريّة، فبدلا من أن أقول: " على الطّالب/ ة أن يُعِدَّ/ تُعِدَّ واجبَهُ/ ا البيتيّ، وأن يُسلِّمَهُ/ تُسلِّمَهُ في نهاية هذا الشّهر"، أقول: " المطلوبُ إعدادُ الواجب البيتيّ وتسليمُهُ..."، وحبّذا لو كان خطابنا في أوراق الامتحانات مكتوبا بهذا الأسلوب الحياديّ المُزيحِ لألفاظ الجنسنة بأفعالها، والأمر يَسيرٌ على ما أرى، فإن كان الصّفّ مختلَطا جنسيّا، أبدأ المطلوبَ بنحو: أرجو قراءةَ الأسئلةِ التّالية والإجابة عن... مع المحافظة على وضوح الخطّ وسلامة اللّغة... وأُنهي- إن شئتُ- بـ: مع صادق أمنياتي بالنّجاح.


6.              وفي باب الأفعال أيضا، قد يُجْدِينا اللّجوءُ إلى صيغة ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ( المبنيّ  للمجهول) حيث نُسقِطُ الفاعلَ النَّحْويَّ إن كان خاصّا بجنس واحد، فبدلا من: عليْكُمْ أن تُراعُوا.../ عَلَيْكُنَّ أن تُراعِينَ...، أو أن تُعيدوا استماراتِكم.../ تُعِدْنَ استماراتِكُنَّ... نكتبُ: يُراعى كذا وكذا... وتُعادُ الاستماراتُ... إن لم نشأ أن نكتب بالأسلوب السّابق: تجبُ مراعاةُ... وإعادةُ الاستمارات...


جليٌّ أنّني لم أذكر جنسَ المخاطب، وأنّني تجنّبت الأحرفَ المصدريّة وأفعالها، وليس بالعسير أيضا أن أجد كلمات عامّة حياديّة بدلا من الخاصّة بهذا الجنس أو ذاك، وأن أرتاح من الخطوط المائلة والتكرار المملّ، بأن أتحدّث إلى "الجميع" متبوعا بـ " المصدر"، بدلا من الطالبات والطلبة، او المستمعين والمستمعات وأفعالها.


7.              لا تُدْرِجُ قواعدُ العربيّة الفصيحة أسماءَ الإشارة في المسألة الجندريّة التي   تطالب الحركة النّسويّة بتعديلها، فالمؤنّث والمذكّر لهما اسمان/ كنايتان خاصّان بهما، بما ينضاف إليهما من حرف تنبيه متصدِّر (ها)، وبما يتميّز به المؤنّث من بدائل. وفي حالة زيادة حرف الخطاب، تقضي القاعدة بملاءمة اسم الإشارة وحرف الخطاب للمشار إليه/ ا، وللمخاطب/ة، إفرادا وتثنية وجمعا، ونحن الذين ننتهك القاعدة ونلجأ إلى التّذكير، اللّغة تعدِلُ ونحنُ نتجنّى، تقضي اللّغة بأن أقولَ للأنثى: أتَرَيْنَ تِلْكِ الشّجرةَ؟ مستعملا إشارةً مؤنّثةً مطابقةً للمشار إليها، وحرفَ خطابِ مؤنّثا مطابقا للمخاطبة، فإن أشرتُ إلى مذكّر مفرد، مخاطِبًا جماعةَ الإناث أقولُ: ذٰلِكُنَّ، كما جاء في سورة يوسف، وكذا تجري قضيّة المطابقة الجنسيّة والعدديّة محافظةً على عدلٍ لغويّ بين الجنسين... أمّا القول للأنثى     " أتَرَيْنَ تِلْكَ الشّجرةَ؟" فهو من ملاحِنِنَا وسَقَطَاتِنا.


8.              لا إشكاليّة في حالة خطاب من تَعْرِفُ، وما عليك إلاّ أن تخاطبه/ا وفق قوانين اللّغة، والرّسائل مجالٌ حسنٌ لهذا، أما في حالة عدم معرفتك للمسؤول/ ة الموجّهة إليه/ ا الرّسالة، فاللّجوء إلى التّعميم حسنٌ، وذِكرُ الجنسين حسنٌ؛ فلو افترضنا أنّنا نقدّم طلبا للالتحاق بسلك التّعليم في مدرسة ما، فجميل أن نكتب: إلى إدارة... المحترمة، أو : إلى السيّد/ ة ــــــــــ مدير/ ة المدرسة المحترم/ ة. ويُستحسَنُ أن نتوجّه إلى البالغات من الإناث جميعا بكلمة " سيّدة"، متزوّجة كانت أم عزبة، فالأمر ليس من شأننا، وحسنا نفعل إن نزلنا عن استعمال مفردة   " آنسة"، فالإناث كلّهنّ سيّدات، تماما كما وهبنا السّيادة للذّكور بلا قيدٍ أو شرط.


9.              تؤنََّثُ عند الحاجة كلُّ الكلمات الدّالّة على منصب أو مهنة: وزيرة، سفيرة، مديرة عامّة، وكيلة، وصيّة، قاضية، محامية، رئيسة...( أقرّ مجمع اللّغة العربيّة في القاهرة وجوب التّأنيث للتّفرقة بين المذكّر والمؤنّث، وذلك في دورته الرّابعة والأربعين عام 1978). ولنا أن نعتمد على القياس في الأمر، متنبّهين إلى أنّ بعض الصّيغ المؤنّثة لم ترد في الاستعمال لغياب من يشغلها من الإناث لأسباب لا تعنيني هنا، أو لحصرها تاريخيّا ودينيّا بالذّكورة، نحو: ملاكة، إلاهة( في الدّيانات الموحّدة)، كاهنة، خوريّة ( في الكنيسة)، ( لا تستعمل في المشرق العربيّ لغياب أنثى تشغل هذا المنصب الكَنَسيّ، وكذا المناصب الدّينيّة العليا، ونستعمل الثّانية في محكيّتنا للدّلالة على زوجة الخوري)... وما إلى هذا، والقياس اللّغويّ يبيح هذا كلّه، ولكنّ موضوعة القياس قد تسقط أمام الاستعمال، وإن كانت بعض النّسويّات من النّساء، ولو مزاحًا، يَرَيْنَ أنّ " الله" مذكّر، فنذكّرهنّ بأنّ الشّيطان وإبليس ( في المعجم الدّيني) مذكّران أيضا، وفي السّياقات غير الدّينيّة الموحّدة، لنا أن نفعل ما نشاء، عدا التّغيير في اسم الجلالة.


10.        آن الأوان لتغيير بعض المسمَّيات الذّكوريّة لمؤسّسات تجمع الجنسين حينا، أو كلّها من الإناث حينا، نحو: نقابة/ منظّمة/ رابطة المعلمين( نقابة الهيئات/ القوى التّدريسيّة)، مسار/ صفّ المتميّزين( مسار التّميّز...)، لجان الآباء/ أولياء أمور الطّلبة( لجان ولاية أمور الطّلبة)، دار المعلّمين ( دار إعداد الطّواقم/ الهيئات التّعليميّة)، غرفة المعلّمين( غرفة الهيئة التّدريسيّة)، قائمة المرشَّحين للبرلمان عن الحزب...( القائمة البرلمانيّة المرشّحة...)، وعلى هذا فلْنَقِسْ، أمّا " بيت المسنّين"، فلْنُبْقِهِ- وأمدّ الله في أعماركم جميعًا- على ذكورته، فالنّساء، يَبْقَيْنَ عرائسَ مهما طَوَيْنَ من سنين.


11.         الإبداع ليس وقفا على الكاتب! فلنبدع جميعا... رغم يقيني بأنّ اللّغة بريئةٌ منّا ومن كبائرنا وصغائرنا... وإبداعاتنا، هو اعوجاجٌ اعتدنا إسقاطَه على الآخر.


- انتهى-

التعليقات