مئوية إمام النهضة محمد عبده /محمد جابر الأنصاري

-

مئوية إمام النهضة محمد عبده /محمد جابر الأنصاري
لا بد من أن نعترف بأن حالة الفكر الإسلامي في اللحظة الراهنة أكثر انغلاقاً وتعصباً من تلك اللحظة المضيئة التي أشعلها عقل الشيخ محمد عبده قبل مئة عام مدعوماً بإيمانه الإسلامي... نعم حالتنا الفكرية اليوم هي كذلك. ولكن لا داعي لشق الجيوب ولطم الخدود. فتاريخ الأمم يسير خطوة إلى الأمام، وخطوات إلى الوراء. هذه سنّة الحياة لمن تجاوزوا مرحلة (البيان الرقم 1) من الإذاعة، وكل ادعاءات الإعلام الرسمي والايديولوجي المضلل ما قبل البيان وما بعده!

وفي الذكرى المئوية لرحيل "الاستاذ الإمام" (1905 – 2005) ثمة مهمات فكرية وبحثية لم تنجز بعد. وبدل إقامة “مأتم التنوير” يجمل بنا أن نحتفل بولادته الجديدة. فالولادة الجديدة وعد قائم لكل أمة حية... والمطلوب المزيد من الأسئلة وإعادة النظر في السائد والمتعارف عليه لاكتشاف أرضية أكثر صلابة. وعندما نقول: “الأستاذ الإمام محمد عبده”، فإن ذلك من أدق ما وصف به الرجل، فهو “أستاذ” بحكم استيعابه للثقافة الحديثة، وهو “إمام” عصره بحكم تعمقه في الفكر والفقه الإسلاميين، وتبحره في شؤون الافتاء ومشيخته التاريخية المستنيرة للأزهر الشريف، التي تركت أثراً علمياً وحضارياً لا ينكر على رغم المحاولات المستميتة لتطويقها ومحوها، ولكن تستحيل عودة عقارب الساعة إلى الوراء... وهي تدق اليوم من جديد وبقوة لإيقاظ كل نائم!

وليس صحيحاً ما شاع لدى دارسي تاريخ الفكر العربي الحديث من أن محمد عبده “تلميذ” جمال الدين الأفغاني. حقاً ثمة أسبقية زمنية للأفغاني بظهوره على مسرح الأحداث في مصر وكان محمد عبده “الشاب” من المشاركين في ندواته في المرحلة الأولى من حياته. إلا أن الأفغاني كان ناشطاً سياسياً أكثر من كونه “مفكراً” بالمعنى الدقيق للكلمة... وإلا فأين “فكر” الأفغاني... عدا خطبه السياسية؟!!

هذا بينما اقتنع محمد عبده – بعد مرحلة “العروة الوثقى” التي شارك الأفغاني في إصدارها في باريـس – بأن طريق العمل السياسي قد أصبح مسدوداً في مصر والعالم العربي والإسلامي، ومن هنا مقولته الشهيرة : “أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة ومن ساس ويسوس... الخ”، وعليه فلا بد من النضال على خـط الدفاع الأعمق وهو التجديد العقلي والإصلاح الديني والتربوي واللغوي، لأن التخلف الحضاري الذي بلغه المسلمون والعرب بخاصة في ظل الدولة التركية العثمانية والدولة الفارسية الصفوية، أخطر من أن يعالج بخطاب سياسي وبتظاهرات جماهيرية، بينما “الجماهير” على حالها من الأمية والبؤس والاغتراب عن العصر وحركة التاريخ الحضاري للإنسان. ومن هنا النظرة السلبية لمحمد عبده حيال الشأن السياسي، بعد اكتمال سيطرة الإنكليز على بلده وإحاطتهم الاستراتيجية بالعالم العربي والإسلامي في معظم أقطاره، وتوجهه للنضال العقلي الثقافي والتربوي وتركيزه على قضية الإصلاح الديني بخاصة، وذلك من خلال الأزهر الشريف والفتاوى المتقدمة التي أقدم على إصدارها للمسلمين في مختلف أقطارهم وكان لها صداها الإيجابي في نضالهم ضد التخلف والاستعمار في الوقت ذاته، حيث التخلف والاستعمار حليفان طبيعيان متلازمان ضد نضال كل أمة تنشد التحرر منهما معـاً، ولا يمكن أن “تتحـرر” من الاسـتعمار إذا كانت تحـت وطـأة التخلف الذي يعود الاسـتعمار من “نافذته”!

ولا بد من القول إن محمد عبده وإن سار في الاتجاه الصحيح نحو تجديد عقلي وإصلاح ديني أولاً كمقدمة للتحرر السـياسـي، من الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي، فإنـه كان “مجتهداً” يحتمل اجتهاده الصواب والخطأ في كثير من الأمور، ومن الإنصاف النظر إليه في السياق التاريخي لعصره والحكم عليه بنظرة تاريخية لا بنظرات اتهامية هي للأسف ما يسود في خطابنا العربي الراهن. وبلا شك، فإن الحركة التقدمية التي ولدها فكره في مصر والوطن العربي قد استفادت كثيراً من تجديده وإصلاحه الديني في تغذية نضالها السياسي، هذا على رغم أن محمد عبده على عقلانيته العميقة اضطرته تجربته السياسية المخفقة إلى مقاربة السياسة في شكل كرس القطيعة السائدة بين العقل العربي والشأن السياسي، تلخصها مقولته المذكورة وغيرها من مقارباته للسياسة وهي نظرة لها ما يبررها في التجارب السياسية للمسلمين ولا يتحمل محمد عبده وزرها... وحده، على رغم كونها غير طبيعية إطلاقاً بمنظار الفلسفة السياسية في الفكر الإنساني منذ أرسطو وبركليس أثينا.

أياً كان الأمر، إذا كان الفضول البحثي لدى الدارسين – وهو فضول علمي مشروع – يبحث عن “أستاذ” لمحمد عبده، فهو رفاعة رافع الطهطاوي الذي أصّل نزعة الانفتاح الحضاري في الفكر المصري والعربي، وكان رائده الأول، وذلك من خلال التعرف الجاد على “الحالة الحضارية الفرنسية” أثناء وجوده في باريس إماماً للمبتعثين المصريين هناك مع تمسكه بثوابت هويته المصرية والعربية الإسلامية من دون غلو، فالغلو أساس التخلف العقلي والحضاري والتحذير الذي أطلقه القرآن الكريم ضد الغلو يبقى شاهد إثبات ضده. كما أن الطهطاوي جدد تقليد الانفتاح الإسلامي على الحضارات الأخرى وهو أمر كان محظوراً في زمنه لدى وعاظ التخلف العثماني والصفوي.

هذه لمحة بحثية لا بد لدارسي فكر النهضة من التوقف أمامها. وإذا أرادوا من ناحية أخرى مواصلة تسلسل خط “التلمذة” على يد محمد عبده، فإن ما شاع عن كون رشيد رضا، ومن بعده حسن البنا من “تلاميذ” الأستاذ الإمام، فهما من تلامذته عمراً واقتباساً جزئياً فحسب، لكنهما ليسا من تلامذة نهجه العقلي المتقدم الذي استنه في الإصلاح الإسلامي، على ما لهما رحمهما الله من سابقة في الاجتهاد الديني المحافظ. وإذا استثنينا المرحلة العقلية المبكرة في حياة رشيد رضا حيث كان احتكاكه بفكر الاستاذ الإمام مباشراً وقوياً، فإنه والمرحـوم الشـهيد حسن البنا اسـتمرار لنهج الأفغاني في العمـل السياسي أكثر مـن كونهما “مفكريـن” بالمعنى الدقيق للكلمة. أمـا “التلامذة” الحقيقيون لمحمد عبده، بهذا المعنى، فهم: عبدالرحمن الكواكبي والعقاد والدكتور هيكل صاحب “حياة محمد” والشيخ مصطفى عبدالرازق صاحب “تمهيد في تاريخ الفلسفة الإسلامية”.

أو كما يقول رضوان السـيد الذي سد الفراغ الذي خلفه إحسان عباس في دراسات التراث، وزاد عليه من خصوصية تجربته الغنية، يقول : “رأيت دائماً أن الإحيائية الأصولية ما كانت أبداً استمراراً لإصلاحية عبده بل هي قطيعة معها”. (الحياة 12/2/2005).

نعم... هي كذلك !... “قطيعة” أعاد تأسيسها سيد قطب عندما أكد التناقض المبدئي بين ما سماه “منهج” العقيدة ومنهج “الفلسفة” ملغياً بذلك “منهج الحكمة” الإسلامي ومفهومها الوارد نصاً، وبتواتر، في القرآن الكريم.

فالمطلوب، إذاً، في يومنا فكر إسلامي شجاع قادر على عبور خندق هذه “القطيعة” وإقامة جسر الصحوة الحقيقية عليه، لا الصحوة المجهضة التي يراد إجهاض الإسلام بها، وصولاً إلى تلك اللحظة المشـرقة من تاريخ الفكر الإسلامي الأصيل الذي لم يخش الغرب الحديث، مثلما لم يخش الشرق القديم في صدر دعوته وفجر صعوده.


من الأسس المهمة التي لم يتمّ تقديرها بدرجة وافية في تفكير الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده تفسيره للتاريخ الإسلامي ولظاهرة ازدهاره وانحطاطه من منطلق عربي يتجاوز المثاليّة الدينية العامة في نظرتها إلى مختلف الأقوام المسلمة، وينزع وجهة الواقعيّة التاريخية التي اكتسبها عبده من إعادة اكتشافه لابن خلدون من ناحية، ومن تأثره بالمفكرين الاجتماعيين الأوروبيين من ناحية أخرى.

يقول في مجال تحديده للمنعطف الذي تحّول عنده الإسلام من الصعود إلى الإنحدار تحت باب جمود المسلمين وأسبابه «كان الإسلام ديناً عربياً، ثم لحقه العلم فصار علماً عربياً، بعد أن كان يونانيا. ثم أخطأ خليفة في السياسة، فاتخذ من سعة الإسلام سبيلاً إلى ما كان يظنّه خيراً له. ظن أن الجيش العربي قد يكون عوناً لخليفة علوي لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي...».

«فأراد أن يتخذ له جيشاً أجنبياً من الترك والديلم وغيرهما من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه... فلا تساعد الخارج عليه وفي سعة أحكام الإسلام وسهولته ما يبيح له ذلك. هناك أستعجم الإسلام وانقلب أعجمياً.

«خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه، وبئس ما صنع بأمته ودينه أكثر من ذلك الجند الأجنبي وأقام عليه الرؤساء منه، فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء، واستبدوا بالسلطان دونهم، وصارت الدولة في قبضتهم ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقـلب الذي هذبه الدين». «بل جاؤوا إلى الإسلام بخـشـونـة الجهل، يحملون ألوية الظلم، لبسوا الإسلام على أبـدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته ويصلّي مع الجماعات لتمكين سلطته». (عبده، الإسلام بين العلم والمدنية: 166 – 167).

من الواضح هنا أن محمد عبده، على استيعابه العميق للروح الدينية الإسلامية يتجاوز النظرة الأممية الشاملة، ليعيد تفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً عربياً صريحاً ذا طابع قومي محدد لا يشاركه فيه مفكرون مسلمون من قوميات أخرى. ولعل موقف محمد عبده يغدو أكثر وضوحاً وتميزاً – من الوجهة العربية – إذا نحن وضعناه بموازاة موقف مغاير لمفكر إيراني مسلم معاصر هو سيد حسين نصر من مسألة الصلة ذاتها بين العروبة والإسلام حيث يقول: ولد الإسلام في الجزيرة العربية، فحـاق به لذلك خطر الإنقلاب إلى دين عربي، بدلاً من أن يبقى عقيدة عالمية». (نصر، دراسات اسلامية: 15).

إن ما يراه هذا المفكر الإيراني خطراً يهدد الإسلام، وجده محمد عبده الحقيقة الجوهرية لدين الإسلام وثقافته: كان الإسلام ديناً عربياً ثم لحقه العلم فصار علماً عربياً. وإذا كان الإسلام، في مستواه المثالي الأشمل، يتجاوز التفسيرين العربي والفارسي، فإن هذه المقارنة توضح لها عمق العنصر العروبي في تفكير محمد عبده، ومدى تغلغل الحس القومي العربي في نزعته الرامية إلى إصلاح الإسلام وتجديده، وتحدد لنا أين يقف بتفكيره الديني من شتى التفسيرات الأخرى الأعجمية والأممية، في وقت كان فيه مثل هذا الوعي العربي مغيباً.

ولا يقتصر عبده على هذا الحكم التاريخي العام، بل تراه يحدد تفصيلاً التأثيرات المتشعبة لفـقـدان الإسلام هويته العربية وخضوعه للعناصر الأجنبية معتبراً ذلك الغياب العربي العلامة الفارقة الكبرى بين اضمحلال الإسلام المتحضر المزدهر وسيادة الأعجمي المتخلف، بحسب نظرته (ومن ناحية الواقع التاريخي فإنه باستثناء الحضارة الفارسية فإن العناصر غير العربية القادمة من أواسط آسيا كانت فعلاً أقل تحضراً).

وقد نجم عن هذا الغياب العربي في نظره نتائج إنحطاطية خطيرة مشوّهة لحقيقة الإسلام:

1- انحطاط في جوهر الفكر الديني، حيث توهّم أولئك الأغراب الدين ناقصاً ليكملوه... ونظروا إلى ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية... فاستعاروا من ذلك للإسلام ما هو براء منه (و) نجحوا في إقناع العامةّ بأنّ في ذلك تعظيم شعائره...

وقرروا أن المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدّم، وجعلوا ذلك عقيدة حتّى يقف الفكر وتجمد العقول... ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم.

2- انحطاط في النتاج الثقافي العام بسبب ركود العامل الفكري المولّد له. فقد: كانت جميع الفنون مسارح للعقول تقتطف ثمارها ما تشاء... فلمّا وقف الدين، وقعد طلاّب اليقين، وقف العلم وسكنت ريحه... (الإسلام بين العلم والمدنية 168 – 169).

3- انحطاط في الحياة السياسية حيث نشرت العناصر الدخيلة فكرة الانفصال بين الحاكم والرعيّة، وضرورة ابتعاد الرعيّة عن « كل ما هو من أمور الجماعة والدولة»، وردّ الفساد لا إلى جور الحكّام، بل إلى القضاء والقدر وصروف الزمان واقتراب نهايته، مما قطع الطريق على أي إصلاح أو تقدّم.

ويجب ألا نمر بهذا الموقف التاريخي – الفكري لمحمد عبده قبل أن نستخلص مدلولاته القوميّة كاملة:

1- إن محمد عبده يرى انحطاط الإسلام – في نطاق الدين والفكر والسياسة – قد بدأ عندما استعجم وأنقلب أعجمياً، وإنّ ازدهاره كان مرتبطاً بإخلاصه لجوهره العربي.

2- إنّه يتحدث في نطاق الإسلام ذاته عن «جند عربي» و «جند أجنبي» من ترك وديلم. والنظر إلى هذه العناصر المسلمة باعتبارها أجنبيّة سيطرت على الإسلام واستعبدته، يتطابق مع موقف الروّاد القومييّن الأوائل في نظرتهم إلى الوجود العثماني في البلاد العربية، بقدر ما يتناقض مع موقف الفقهاء المسلمين التقليديين.

وهذا يعني ان إصلاحه الديني المرتبط بالعودة إلى جوهر الإسلام العربي كان إرهاصاً بظهور الحركة القومية العربية مثلما كان الإصلاح الديني الذي قام به مارتن لوثر إرهاصاً باستيقاظ الروح القومية الألمانية وإن لم يكن التعبير الفكري – السياسي المباشر عنها.

3- إن محمد عبده يشكك في صحة إسلام تلك العناصر الأجنبية غير العربية التي لم يهذب عقولها وقلوبها الدين، والتي دخلت الإسلام بقصد السيطرة وهي تحمل آلهتها معها وتعبدها في خلوتها.

وهذا القول يؤدي إلى استنتاجات خطيرة إذا أوصلناه إلى نهايته المنطقية. فهو يعني أن العرب على بداوتهم وفطرتهم كانوا وحدهم المؤهلين لاستيعاب روح الإسلام والإرتقاء به ومعه، وأن العناصر الأجنبية تبقى أجنبية وإن أشهرت إسلامها، بل وتصبح مبعث خطر يتهدده من داخله.

وعليه فلا مخرج من الانحطاط إلا بعودة الإسلام إلى أصوله العربية وجوهره العربي، وأن يصبح، كما بدأ ديناً عربياً بحسب محمد عبده. ويأتي هذا التفسير القومي للإسلام في فكر محمد عبده ليوفر الشرعية الدينية لحركة التحرر القومي من الترك، وإحياء الخلافة العربية – كما طالب معاصره السوري عبدالرحمن الكواكبي باعتبارها مدخلاً لاستقلال الكيان العربي عن الإمبراطورية العثمانية التي لا بد من الإقرار أن «الانحطاط» سيطر عليها قبل الغزو الأوروبي، وهذا الانحطاط الحضاري الأسبق هو الذي جعلها عاجزة عن رد الغزاة.

وما يجدر ذكره هنا أن محمد عبده كان يشارك برأيه ضمن هذا الاتجاه، وأنه انفصل عن أستاذه الأفغاني عندما تبنى الأخير فكرة الدعاوة للجامعة الإسـلامية خدمة لنفوذ السلطان عبدالحميد ؛ كما أن شعور عبده بالكراهية تجاه الأسرة التركية الحاكمة في مصر، وعميدها محمد علي، لم يكن خافياً في كتاباته ومواقفه.

لقد جرى التأكيد حتى الآن على مصرية محمد عبده، ولم يظهر دارسوه اهتماماً وافياً بالعنصر العروبي في تفكيره. ونحن نرى أن عبده، من منطلق الإصلاحية التوفيقية، قد أعطى تفسيراً عربياً صريحاً للتاريخ الإسلامي ولظاهرة صعوده وانحداره، بما يتفق وبداية انطلاقته على يد النبي العربي، بقرآن عربي مبين، وبصحابة أغلبهم من أخيار العرب وأشرافهم يتقدمهم آل البيت.

وأنه بهذا الموقف قد ميّز نفسه عروبياً عن المفكرين المصريين الآخرين ممن سبقوه أو جاؤوا بعده. فالطهطاوي جمع بين المصرية والإسلامية من دون منزع عربي واضح.

ولطفي السيد رفض الاتحاد العربي والجامعة الإسلامية، أي رفض الاتجاهين القومي والديني، باسم الوطنية المصرية. كما نظر طه حسين إلى العهد العربي في تاريخ مصر باعتباره مرحلة تندرج ضمن التراث المصري الوطني وطابعه العقلاني المتوسطي، أي أنه كان «غزواً» ضمن غزوات خارجية أخرى تعرضت لها مصر عبر تاريخها وهي مقولة خلافية في مصر ذاتها إلى حد كبير. هذا بينما كان العهد العربي في تفكير محمد عبده هو العصر الذهبي والنبع الأصيل الذي عاد إليه في إصلاحه للفكر الديني، وتطويره للأزهر والمؤسسات التعليمية، وإحيائه للتراث العقلي، وبعثه للغة العربية. ويجب أن نضيف هنا إن الاهتمام الجدي الذي أبداه محمد عبده بشأن إصلاح اللغة العربية يكمل الجانب العربي في تفكيره ويمثل إنجازاً آخر من إنجازات دوره الثقافي القومي العربي.

هكذا فإن محمد عبده، في ضوء ذلك، يمكن اعتباره الرائد الفكري الأول للاتجاه العربي في مصر الحديثة. خصوصاً أن صلة مصر بالعروبة تمر عبر الإسلام.

التعليقات