محمّد حمزة غنايم: أجمل غريق في العالم!

محمّد حمزة غنايم: أجمل غريق في العالم!

((عن البدايات، وعن النهايات... وما بينها من حكايات...))


(أو)
"صورة الفنّان في شبابه"


بقلم: ألطّيّب غنايم

"...قَدَمٌ في الموتِ ونافذةٌ تَحْجِبُ دفلى العينِ وبطنٌ تَلِدُ رُؤوسًا مقطوعة. (قَدَّرْتُ لهذا الكون ثلاث ملاعق قهوة. الأولى تربطني بالسحت وتربطني بالشمس – بذيل ثعالبها – والأخرى خارقة كالفأر الأبيض راوده البحر على رأسه. قَدَّرْتُ لثالث قهوة هذا العصرِ دمي!)
قبرٌ قبرٌ قبرٌ قبرٌ قبرٌ قبرٌ قبرٌ قبرٌ قبرٌ قبرٌ قبرٌ أسطوريٌّ يحميني من عتمةِ هذا العصرِ وبردِ مفاصله، قبرٌ للخامسة مساءً. قبرٌ للساني الحجريّ أمام العتبة."


(من ديوان "نون وما يسطرون"، "قبر للخامسة مساءً"، ص 84)


عن خطّ النّار وعن كنه الشعلة وما يَكْمُنُ في الأنفس، وعن وَعْيٍ طَالَ في التَّفَكّر، وعن الأفق الذي تَطَاوَلَ على رَائِيه، وعن أَمَانٍ حَقَّقَت رَسْمَ المشاهد القصوى، وعن حياةٍ حالةٍ حَفلَت بالطقوس اليوميّة الزّاخرة بالتفرّد في الكتابة، وعن رِسالة أشغلت كلّ الحياة – بِقِصَرِهَا – وعن طول المسيرة، وعن جمال المشاريع، وعن الثقافة التي بثّها، وعن رجلٍ مؤسّسةٍ، وعن حماسٍ متقّدٍ، وعن التزامٍ لا مثيلَ له، وَعَمَّا يخالجنا من ذُهُولٍ أمام النَّهْبِ القَدَرِيِّ السَّحِيق... عن والدٍ شاعرٍ وكاتبٍ وأديبٍ، أَكْتُبُ، ما لا يوفي الحقّ، لكن أحاول...


سؤالات وطروحات ومشاريع وبرامج دفعها شخص واحد، وَفَعَّلَ الكثير الكثير من الخطط والبرامج والأشخاص... مساحات أوسع من المساحات، تداخلت فيها الكلمة المجنونة لتصرخ في الأوجه: "أنا / نحن هنا، وثَمَّتَ ما يُقَال". وحتى بعد السّواد الناصع الذي مرّ به، وَلَفَّ معه العائلة جمعاء، في سنة ليست بِخَيِّرَة، سنة كان المرض فيها بطلاً، حتى في هذه السنّة (السابعة والأربعين) راهن محمّد حمزة غنايم على كلّ ما تبقّى، وكان على استعداد تامّ للتضحية، حتى حينما "تَآكَلَ"... هكذا هو، لم يستطع أن يحرص على "الذات"، بل ظلّ يذهب نحو "المجموعة" ويبكي لأنه لم يعد قادرًا على "المساهمة" بطريقته، فكتب في وصيّته – التي شرح بها عن البدايات، وعن النهايات، وما بينهما من حكايات – قال: "لا أحد بحاجة لمأساة يونانيّة أخرى أيها السفهاء، اتركوا الزرع يمتدّ والحقل يخصب والوادي يجري في موعده، ولا تؤخّروا المواسم في أغلال أزمنة غابرة لا فكاك منها ولا حتى بشقّ الأنفس وطول النفس وحساب السبيل؛ لو وجدتم واحدًا كهذا سأكون مستعدًا لأعطي ما تبقّى عندي من وقت، ولو كان قصيرًا، ليأتيني حاملاً برهانه... ولكن لا بأس لو حمل معه بعض العزا وبعض المواساة والقليل القليل من الأسباب لكي نفرح..."


ما هو "المكان"؟ سؤال يراودنا حين الحديث عن مجملِ سيرورة وصيرورة والدي الرّاحل، محمّد حمزة غنايم، رحمه الله. وماذا تبقّى من تلك "القطعة الصغيرة من الرّبّ" التي نَجَحَ الفقيد بامتلاكها عندما مشى في درب الأدب والإبداع / درب الهلاك؟! ...إنه "النّاس"، فقد صَدَقَ من قال إنّ الوَطَنَ إِنْسَانٌ، وليس ترابًا وصخورًا وأنهارًا وجداول! كان هذا السّرّ المهنيّ المنهجيّ الذي اتّبعه محمّد حمزة غنايم - الذي أَثْقَلَ نفسه بمنظومته التي استحضرت الغائب - فصار يحاول استعادة الأفقِ اللغزِ وفكّ شفرتِهِ، ليساهم في تطوير "الوطن / الناس".


تَكْمُنُ "المشكلة" في الوعي الذّاتيّ، أو "وعي الذّات"، ولأن وعيه الذاتيّ بلغ آمادًا هائلة، تَفَجَّرَ الشّبابُ وَتَسَارَعَ نحوَ البلورة المبكّرة جدًا. فقد خَرَجَ من قريتنا باقة الغربيّة، ومن بيت جدّي حمزة – الذي يحمل في ثنايا أحجاره الطّينيّة كلّ البدايات - شابًا يانعًا ملؤه الحرارة والتّوق إلى المعرفة بِكُنْهِ الأشياء. هذا الولع الكبير شكّل مكتبة ضخمة في بيت الجدّ، ومعها تشكّلت الانطلاقة... فكان أن أصدر أثناء تعليمه في المدرسة الثّانويّة ديوانه الأوّل: "وثائق من كرّاسة الدّمّ"، عام 1975. وبالدّم ابتدأ المشوار، وازداد الوهج احمرارًا. بَشَّرَت هذه الأوراق الأولى نشأة حالة متفرّدة، وَثَّقَت منذ الصّغر رؤيا ثاقبة لبعد ثقافيّ مستقبليّ كبير.


كلّ من راهن على هذه الكرّاسة الصغيرة، وعلى من كَتَبَهَا، كسب الرهان من أوّل مرّة. فقد جاء الدّيوان الثّاني ("ألف لام ميم"، 1979) حاملاً معه قفزة نوعيّة، أثبتت دأب الكاتب على التّثقيف الذّاتيّ الملتزم. وصار أن استمرّت العجلة بالدوران لتأتي في كلّ دورة بإنتاج جديد، مغاير ومختلف في مضماره.


"لَمْلَمَ" موادّ كثيرة، وغريبة، وجميلة، فَحَبَكَهَا بأناقة فوضويّة محسوبة بدقّة، فكان نتاج هذا كلّه خمسة دواوين شعريّة ابتدأت بوثيقة دموية وانتهت بحالة غرائبيّة... وتحت الصفصافة في بيتنا، في السنة الأخيرة، كتب بطقس يوميّ كرنفالي هادئ، ديوانًا غزيرًا بالمعاني والرسائل، أسماه "السائرون في الضّباب"، وحاول أن يخرجه إلى النور، لكن العقدة الزمنيّة أقعدتنا واستلبته في عزّ اليوم والقصيدة... (عمّا قريب سنصدر هذا الديوان، والعديد من الأعمال الأخرى التي أُنْجِزَت ولم تَرَ النور).


محمّد حمزة غنايم، تأبّى الوقوف على سطحٍ ساخنٍ واحدٍ، وإنما اختار اللعب على أسطح ثقافية مختلفة وقرّر منذ البداية أن يخدش السماء وأن يُعْلِنَهَا ثَوْرَةً. الصّوت خال من التّكلّف، والكلمة تنبض صدقًا، والحرارة تعلو كلّما أوغلت في قراءته / قراءة الحقيقة.


التَحَمَ غنايم شيئًا فشيئًا بأقطاب التناغم الثقافيّ الشامل، وخرج عن نطاق "المحدوديّة والتخصّص"، متّجهًا نحو معالم المكان بجميع تفاصيله. فبعد أن شقّ الطّريق و"أمسك" باللغة و"ثناها" كما شاء، وصنع لغة خاصّة، تتّسم بـ"السورياليّة المُحِبَّة"، اتّجه ليتعرّف على "الوعي الضدّ"، وعي الآخر الساكن في نفس الوطن. فكانت مرحلة مهمّة أخرى من مراحل محمّد حمزة غنايم في حياته الأدبيّة، إذ خاض غمار التعامل مع الموادّ القادمة من "هناك" وراح يصنّفها ويقرؤها وفقًا للمفاهيم الخاصّة بنا وبهم، جاعلاً من ذلك "مساهمة" مهمّة لكل مُرِيد يبغي أن يفهم القطبين الموجودين في على نفس المِرْجَل.


ترجم الأشعار والقصص والروايات والمقالات، حاور وساجل، ودرس وأسهب في التحليل، قدّم فرصة لفهم أعمق، وقام بمنح الفرصة للجميع بالوقوف برهة والاستماع، فَثَمَّتَ صوتٌ مغايرٌ.
هو شريط فيلم طويل / قصير جدًا، يمكنني استلال مقاطع كثيرة منه، لا حصر لها، لكن الرواية أطول من أن تُحْكَى، والراوي مُنهكٌ بترتيب الأوراق، لكي "يمشي في الطريق بدون حفر"...
محمّد حمزة غنايم، أبٌ صديقٌ حبيبٌ وَمُحِبٌّ، أَنِيقٌ وَجَدِيٌّ حّدَّ الفكاهة وفكاهيّ حَدَّ الجدّ، رتَّب الأضداد في تناغم انسيابيّ، ورحل عنّا ليعلّمنا درسًا في....


أبا الطّيّب، أذكرك / نذكرك دائمًا، كما تفعل الغريزة بالإنسان...

التعليقات