ملاحظات حول "مسرحيد 2005"/ أنطوان شلحت

ملاحظات حول
أنهى "مسرحيد" (المهرجان العربي لمسرحيات الممثل الواحد) في 2005 دورته السنوية الرابعة، إنما دون أن يجتاز مرحلة الطفولة المبكرة، كما شفّت عن ذلك وقائع المهرجان الأخير التي جرت في عكا القديمة في الفترة ما بين 9 و11 آب الجاري.

ولكوني واحدًا ممن ينبغي بهم أن يتحملوا قدرًا كبيرًا من المسؤولية عن النتيجة التي آل إليها المهرجان حتى الآن، والتي لا يمكن اعتبارها حتى بمثابة مجرّد مراوحة في المكان، أرى من الأجدى أن يخرج النقاش حول "مسرحيد"، فكرته وصيرورته، وما هو معوّل عليه من ناحية غاياته المخصوصة، إلى الشأن العام لا أن يبقى حبيس اجتماعات الهيئة الإدارية أو اللجنة الفنية، وكلتاهما لا تخصّص الوقت الكافي، كي لا أقول لا قبل لها باستحصال القضايا التي تستدعي التحديد (من الحدّة) ولم يعد من المبرّر تأجيلها.

وعلّ هذه الملاحظات السريعة أن تشكّل حافزًا لاستحصال كهذا يأتي لاحقًا:

أولاً- هوية المهرجان

وأعني على وجه الدقة هويته الثقافية- الفنية.
يتجسّد الجانب المحدّد لهذا المهرجان من ناحية هويته، إلى الآن، في معادلة غاية في العمومية، ينصّ طرفها الأول على تشجيع الإبداع المسرحي المحلي، ويدعو طرفها الثاني إلى تحفيز الحوار بين الثقافات. وهي معادلة إن سلمنا بكونها حمّالة أوجه، فإنه لا يمكن تشييد هوية ثقافية- فنية بالانطلاق منها فقط.

ففي المهرجان الأخير، مثلاً، جرّت هذه المعادلة في موازاة غياب الهوية الصافية والصريحة إلى فتح المجال أمام مطالبة بعض القيمين على المهرجان، من "مركز المسرح- عكا"، بتخصيص جائزة لما يسمى بـ"المسرح الآخر"، وكأن هذا الصنف من المسرح، الذي يفتقر بطبيعة الحال إلى تعريف عيني له، يشكّل غاية في هوية "مسرحيد". وحتى لا يساء فهمي أضيف أنه لا تثريب على غاية كهذه، شريطة أن يكون السجال حولها قد استنفد نفسه. أما وأنه لم يطرح البتة فإن اعتماده عشوائيًا يثير أسئلة من نوع: هل نحن نسعى حقًّا إلى "مسرح آخر"؟ ألا يحيل مسعى كهذا، في حالة اعتماده، إلى منجز مهرجان ثان يعقد في عكا القديمة أيضًا لكنه يفارقه كإطار ومحتوى؟ ما هو "المسرح الآخر" أصلاً؟ وهو "آخر" من أية وجهة نظر ومقايسة مع أي ضرب من الإبداع المسرحي، هنا والآن؟. إنها أسئلة قد تبدو بسيطة، لكن فيها كل تعقيدات وأبجديات النقاش المستحّق حول واقع حركتنا المسرحية وحول آفاق مستقبلها، ارتباطًا بحيثيات المهرجان نفسه.

ثانيًا- مأسسة المهرجان

ألم نبلغ المرحلة التي تتطلب مأسسة "مسرحيد"؟. أقصد طبعًا تحويله إلى مؤسسة دائمة تعمل على مدار أيام السنة، بديلاً عن هيئته الموسمية التي تتداعى إلى الانعقاد عشية المهرجان بأشهر معدودة وينفرط عقدها بعد انتهائه مباشرة.
إن دواعي المأسسة عديدة ومتعددة، لكن من أهمها قيام المؤسسة الدائمة بأعباء "الما قبل" الكثيرة والمتشعبة... وهي أعباء جدية وخطيرة، وعليها يترتب أولاً ودائمًا شكل المهرجان ومضمونه ومستواه. وكل ذلك لا يزال موضع جدل ونقاش، بسبب وهن الاكتراث بهذا الأمر الذي يستحيل الهروب منه إلى الأمام.

ثالثًا- تركيبة اللجنة الفنية والإدارة الفنية

لا تزال هذه التركيبة تعكس بالأساس البعد الشعبي للمهرجان، كما تعكس إلى حدّ ما بعده "الإقليمي"، في حين أن هذين البعدين لا ينبغي أن يتعديا تركيبة الهيئة الإدارية الموسعة. بينما يتعيّن أن يكون البعد المهني الصرف، المتنائي بإصرار مسبق البرمجة عن أية اعتبارات شعبية أو "إقليمية" أو "مخترية"، هو الهادي والموجّه والدليل في تركيبة اللجنة الفنية، وأكثر فأكثر في تركيبة الإدارة الفنية.

بأخذ البعد المهني في الاعتبار لا تنتهي مسؤولية اللجنة الفنية والإدارة الفنية في مرحلة اختيار المسرحيات أو "غربلتها"، كما يحلو للبعض أن يتباهى، بل يمكن القول إن المسؤولية تبدأ في هذه المرحلة، التي تؤذن بانطلاق العمل على إنتاج المسرحيات. وتتمثل هذه المسؤولية، بالبنط العريض، في توفير المرافقة الفنية لمختلف طواقم العمل في إعداد المسرحيات للعرض الأخير.

في اعتقادي أن مرافقة فنية جيدة وجديرة من طرف أشخاص مهنيين كان مقدّرًا لها، في مهرجان هذا العام كما في المهرجانات السابقة، أن تحول دون وصول بعض المسرحيات إلى عروض المهرجان بالشكل البائس الذي وصلت به، وأن تدرأ القروح العديدة التي خلفتها هذه العروض وراءها في نفوس المشاهدين وفي جسد المهرجان.

رابعًا- نحو المهرجان الخامس

سنة 2006 ستشهد انعقاد مهرجان "مسرحيد" الخامس.
فما الذي سيكون في انتظارنا؟.
يصعب الإجابة على هذا السؤال من نقطتنا الزمنية الراهنة. مع ذلك أمام المهرجان متسع كاف من الوقت لكي يداري القيمون عليه ما تم الامتناع عن القيام به حتى الآن، مما ورد ذكره في الملاحظات السالفة.
فضلاً عن ذلك ثمة حاجة وضرورة لأن يستثمر المهرجان الخامس، إضافة إلى كل ما تقدّم، جزءًا من مجهوده ووقته في عقد مائدة- مستديرة أو مستطيلة، لا يهم- تنكبّ على مناقشة مسرح الممثل الواحد من جوانبه المختلفة، تكون خلاصاتها معينًا في صقل هوية المهرجان على أكثر من صعيد.

مثل هذا النشاط بات مطلوبًا بإلحاح، نظرًا لما ينطوي عليه من مؤشر إلى المزيد من تجوهر "مسرحيد" في الإبداع المسرحي بموازاة التحرّر قليلاً من مهرجانيته الفاقعة، لأنه في الأحوال جميعًا ليس في هذا ما يعوّض عن ذاك.

خامسًا- على ماذا يمكن التأسيس؟

رغم ما قيل فقد سجّل مهرجان "مسرحيد" أكثر من نقطة ضوء يمكن التأسيس عليها للانطلاق قدمًا. ومهما تكن هذه النقاط فإن اثنتين منها تستحقان الإشارة التفصيلية:

(*) الأولى تتمثل في إصراره على أن يكرّس نفسه لصنف من فن التمثيل المسرحي، إسهامًا منه ليس فقط في أن يكون سندًا له وإنما أيضًا في أن يساعد على انتشاره الواسع. وكان من شأن توسيع إطار المهرجان الرابع ليشمل مسرحيديات للأطفال أن يوضح الدور الطليعي لهذا الحدث في تعريض الجمهور لمسرح الممثل الواحد ضمن حقل خصب ومتنوع من التطبيق العملي (كلمة كان هنا استدعاها عدم خروج هذه الفكرة بحذافيرها إلى حيّز التنفيذ).

(*) الثانية أنه يرسّخ في الأذهان ضرورة الحوار بين الفنانين العرب المحليين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم من الفنانين. وإن تطوير هذا الجانب، الشديد الأهمية، للمهرجان ينبغي أن يبقى مطروحًا في الدورات اللاحقة.

وإذا كانت عكا بمركزها المسرحي قد أصبحت الحاضنة الحقيقية للمهرجان فإن مراهنة القيمين يجب ألا تظل منحصرة فقط في خلفيته العكية، ذلك أن فائدته غير مقتصرة على المدينة فحسب وإنما تنسحب أيضًا على الحركة المسرحية والفنية العربية عمومًا.

أخيرًا، لدى النظر إلى ما تحقّق منذ المهرجان الأول نستطيع القول دون خشية الوقوع في المبالغة إن "مسرحيد" تجاوز مرحلة الـ"بروفة"، التي جاءت الدورة الأولى إيذانًا بها بالنسبة للدورات اللاحقة. مع ذلك لم تنتف الحاجة إلى أن نصرّ على المسؤولين عنه أن يدرسوا تدرّجه من سنة لأخرى. يعني هذا تعميق عناصر المراعاة لعدم وجود بون شاسع بين "المشروع" وبين النتاج الناجز، بقدر ما يعني التصميم على الاستفادة من الدروس والعبر لتجاوز الشوائب وتقديم ما هو صاف ورائق من فن، شكلا ومضمونًا.

التعليقات