وإذا الموؤودة سئلت...(17) /د. إلياس عطا الله

-

وإذا الموؤودة سئلت...(17) /د. إلياس عطا الله

رَدّانِ... ما بعدَ التّنبلة


 


مارستُ، ولثمانية أيّام، مهنة التّنبلة عمدًا، وشمّعْتُ بالأحمر بابَ مكتبي، لئلاّ أرى حاسوبًا أو كتابًا أو قلمًا أو أيّا من المنغِّصات، والتّنبلةُ ترفٌ أشتهيه، أو هي هِبَةٌ ربّانيّة أحيانا، ينزلها الله على عباده الصّالحين من أمثالي، ليعيشوا مع مقولة المتنبّي: " ...  وأخو الجهالة في الشّقاوةِ ينعمُ" بشكل انتقائيّ يفرضه الهرب من صدر البيت، طلبا للرّاحة أو الصّفنة أو الخمول أو الانسلاخ والانقطاع... ولم أجد خيرًا من التّنبلة مصطلحا جامعا مانعا لهذه الحالات.


وعدت- وما أتعسَ الرجوعَ إليه!- لممارسة عادتي العلنيّة في شقاء الكتابة الْمُحْيِي،  ووجدتُ تعقيبين على ما أوردته في الحلقة الماضية، واحدًا من الأخطل "الكبير" الذي نزلَتْ " إذا" على أذنه كبعض أغاني هذه الأيّام، فما أطاقتْ نشازًا، ولا أطاق هو هتْكًا لعرض عَروض " البسيط"، الذي لا تستقيم انسيابيّة موسيقاه إلاّ بـ " إنْ" بدلا من        " إذا"- ولم أرَ "بسيطا" من قبلُ تطير منه "مستفعلن" الأولى بهذه البساطة- ورغم " تحيّاته العابرة للمسافات" لم أطّلِعْ على تعقيبه بسبب التّنبلة المشار إليها، وثانيةً، وثالثةً... وألفًا، لا  يخرُمُ-1- الأخطل، وأظلّ لطلاّبي وزملائي تلميذًا.


أمّا ديانا، والتي أرجو لها أن تستمرّ في متعة القراءة، فإنّها، وبعد أن أعطتْ رأيها في حالة التّردّي لبعض أغانينا العصريّة العامّيّة التي لا تلتفت إلى الكلمات والمعاني، فقد استشهدت بأغنية لنجوى كرم، تقول فيها: " بحبّك ولع، يللي هواك بقلبي انطبع"، غيرَ معجبةٍ بهذه الـ " بحبّك ولع" لأنّها جملة غير مفيدة، وغير صحيحة من حيث المبنى، طالبةً رأيي " المهنيّ" فيها، وللإجابة أقول: الحقيقة أنّني لا أعرف هذه الأغنية ولا أخواتها من أغاني هذه الأيّام، وأرجو ألاّ تُخدعي إنْ ذكرْتُ مرّة بعضَ الأسماء ممّن يظهرْنَ في الفضائيّات العربيّة، فالأمر لا يعدو، كما قلتُ مرّة، محاولةً منّي للتّثقيف الذّاتيّ ومواكبة العصر، وما حفظتُ هذه الأسماءَ إلاّ كما حفظْتُ جدولَ الضّرب أيّام الدّراسة الابتدائيّة، بشيء من الضّرب والإكراه، وفي نهاية المطاف، يحنّ كلّ منّا إلى عصره، أو يحبّ كلّ جميل وإن كان وليدَ هذه الأيّام! ولكنّ القضيّة أنّني لا أجيد قراءة الشّفتين كما يقول المتحضّرون من الغربيّين: read my lips، فما قولُكِ والغناءُ ما عاد من وظيفة الشّفتين؟ وكي أتمّم نقدي الذّاتيّ في عدم الإجادة أقول إنّني لا أعرف أيضا: read my hips.


على الصّعيد المهنيّ- والعامّيّة فوق المهنة والقيود- يجوز في قواعد لغتنا الفصحى حذفُ المضاف وإقامةُ المضاف إليه مقامَه، أو حذفُ الموصوف، وحلول الصّفة محلّه، وعليه يقدَّرُ قولُها بـِ: بحبّك حبّ ولعٍ... تماما كما يقول أهلنا في مصر: بحبّك موت، على الأسلوبيّة نفسها، وفي الأمر تخريجات أخرى ليس هذا مقامها. وباب الحذف في الفصحى واسع، ومنه في باب حذف المضاف، قوله تعالى: ﴿ واسألِ القريةَ...﴾ أي اسألْ أهلَ القريةِ، في تفسير بعضهم، وقول الشّاعر:


أكُلُّ امرِئٍ تحسبين امرَأً        ونارٍ تَوَقَّدُ باللّيلِ نارا


مقدِّرينَ " كلّ" قبل "نارٍ" المجرورة المنوّنة.                                                ومن باب حذف الموصوف، قول سُحَيمِ بن وثيل الرّياحيّ:


أنا ابنُ جلا وطلاّعُ الثّنايا...


مقدّرين كلمة " رجلٍ" قبل الفعل "جلا"، والمعنى: أنا ابنُ رجلٍ جلا الأمورَ... وللتّوسّع، لكِ أن ترجعي إلى كتب النّحو، ولعلّ المفصّل للزّمخشريّ أيسرُها في هذا الباب. أرجو أن أكون قد أفدت، معتذرًا من إقحام سيبويه والزّمخشريّ ومَنْ بينهما في أسلوبيّة أغاني نجوى كرم. 


 


هَالله هَالله يا جَمْلُو


 


هكذا تبدأ هذه الأغنية الشّاميّة الشّهيرة، والتي كانت تُردَّدُ في الأفراح وقعدات السّمَر، إلى أن أصِبْنا بفرط العصرنة، فسادَتْ أغانٍ، واندحرت أخرى، وكانت "جملو" من بين المندحرات، وإن أطلّت برأسها بين الفينة والأخرى، متضرّعةً ألاّ تنضمّ إلى الموؤودات، و"جملو" الجميلة الحسناء التي طلعت على السطوح، ونزلت على البير، ذات القدّ الخيزرانيّ، والخصر المنهدم، عذّبت عاشقَها، فرصد حركاتها، وتتبّع خطواتها وحبْلَ غسيلها، وسائرَ منمنماتها... عذّبته حتى أقسم أن يخطفها ويطير، وليحطّا في جبل حوران أو حيث شاء الحبّ. أغنية جميلة تدور بين لوعةٍ وقسَمٍ بالوصل، والقسَمُ يتصدّرها، فـ "هالله هالله" قسمٌ صريحٌ فصيح، ليس اختراعًا عامّيّا، وإن ترفّعتْ عنه مختصَراتُ كتب النّحو، فلم تدرج الهاء ضمن أحرف القسم، ولا أشارت إلى أنّ همزة القسم قد تقلب هاءً، ونحن في محكيّتنا، أرحبُ صدرا وأوسعُ معرفة من كتب النّحو بخفايا الفصحى، وعندنا من الحراكيّة ما يجعلنا نوظّف هذه الفصاحة المحكيّة في فنون البلاغة كما نشاء، فحينا نجعل هالله هالله! للتعجّب والدّهشة، وحينا نعيد للهمزة أمجادها في المعنى نفسه: ألله الله!، جاعلين همزة "الله" الأولى همزة قطع، وهمزة الثّانية همزة وصل... تمامًا كما تشاء قواعد الخليل وسيبويه... وتبقى جملو في القلب، عروسا وأغنية ومُنْيَة نفس... والله لا يردّ قسَمَ من أحبّ.


 


بين: عوّدتِ عيني على رؤياك...


و- طيفَكْ دا تَمَلِّي شاغِلْني


 


لا أعرف يقينا إن كانت أمّ كلثوم مكتفية بحبّها للطّيف يأتيها في يقظة أو في منام، أو إن كان الشّاعر مضطرّا لاستعمال الرّؤيا الحُلميّة بدلا من الرّؤية البصَريّة، فمساحات أحرف المدّ الصّوتيّة أرحب، وتضفي أجواءً من التّحليق على الأغنية وعلى " السَّمِّيعَة". ولأنّنا بشرٌ، لا نَقْتَاتُ من الأحلام إلا لفترة قصيرة، لا أرى الشّاعر إلاّ موظِّفا، ولو مكرَهًا، الرّؤيا بدلالة الرّؤية، رغم النّزعة الظّاهرة في الشّعر العربيّ، المغنَّى وغير المغنَّى، إلى التّغني بالطّيف، فالأمر لا يقف عند أحلام أمّ كلثوم بوصال الحبيب، ولا عند " طيفَكْ دا تَمَلِّي-2- شاغِلْنِي" بصوت عبد الوهّاب أو بصوت نجاة الصّغيرة... إنّه مرافقٌ لقصّة الحبّ العربيّ منذ نشأ الحبُّ ونشأ في أحضانه الشّعرُ، حتّى أنّ البحتريّ العبّاسيّ، لكثرة ما تحدّث عن الطّيف في شعره، لقِّبَ بشاعر الطّيف، ولقد فلسف الأمرَ بشكل يعبق طلاوة ورحيقا، قال من قصيدة مطلعها:


أجِرْني منَ الواشي الذي جارَ واعتدى    وغابرِ شوقٍ غارَ بي ثمَّ أنْجَدا


          ...


 


سقى الغَيثُ أجراعًا عهِدْتُ بجوِّها      غـزالا تُـراعيهِ الجآذرُ أغْيَدا


إذا ما الكَرَى أهدى إليّ خيالَهُ         شفى قربُهُ التّبريحَ أو نقَعَ الصّدى


إذا  انتزعَتْهُ من يَدَيَّ انتباهَةٌ            حسبْتُ حبيبًا راحَ منّي أو غدا


ولم أرَ مِثْـلَيْنا ولا مثلَ شأنِنا           نُعَـذَّبُ أيْقـاظًا وننعمُ هُجَّدا


 


هذا هو الطّيف، وليد العشق والهجر والبعد، فليهنأ به العاشقان، ولا رقيب ولا عذول.


 


1-            نقول بالعاميّة: فلان بُخْرُمْشْ، أي لا يخطئ ولا ينسى شيئا ممّا حفظَ، والكلمة فصيحة: خَرَمَ: أنْقَصَ أو أفسَدَ أو تَرَكَ شيئا، والأصل في دلالتها الثّقب والشّقّ. يورد ابن منظور حديثَ سعدٍ لمّا شكاهُ أهلُ الكوفة إلى عمرَ في صلاته، قال: ما خرمْتُ من صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا، أي ما تركتُ شيئا، ومنه الحديث: لم أخرُمْ منه حرفًا، أي لم أدعْ.


2-            تملّي: بمعنى دائما، وهي من معجم المصريّة المحكيّة. الكلمة من أصل فصيح، ومن الجذر" ملو"، تَمَلَّى اللهُ العيشَ: أطاله وأدامَه، ومصدر هذا الفعل التّمَلّي. ومثله المِلاوَةُ منَ الدّهر، أي طولُه واتّساعُه، والمَلْوَةُ هي المدّة من الزّمن... ومن الأصل نفسه قولُنا: فكّرَ مَلِيًّا، ومنه: المَلَوانِ، أي اللّيل والنّهار، ولعلّ الجذر ذو أصولٍ ساميّة، ففي العبريّة تدلّ كلمة אתמול- תמול على اليومِ السّابق ليومك، أو على الأمس مطلقًا، ودلالتها الأصليّة الزّمن الماضي الطّويل، ولها في السّريانيّة مقابل دلالةً وجذرًا، وقد تكون في العبريّة مركّبةً، كما يرى  جيزينيوس، من את بمعنى مع أو في، و- מול بمعنى مقدّمة أو وجه أو واجهة أو داخل.


 

التعليقات