فلسطين أمانة الأجداد للأحفاد - نضال حمد

قبل سنوات طويلة يومها كنا لازلنا صغارا نلعب في الحارة وأمام المنازل المسقوفة بالزنك في مخيمنا عين الحلوة ، قال جدي الذي دفناه فيما بعد بمقبرة قريبة من المخيم الذي يشبه المقبرة .. قال : ضاعت البلاد .. ولكنها أصبحت منذ لحظة الفراق عنوان العنفوان والانتماء، وحياة ناقصة وغير مكتملة.. وسوف تصبح منذ الآن أمانة بأعناقكم أيها الأولاد.. ومنذ تلك اللحظة والأمانة تثقل كاهلنا جميعاً .

فلسطين أمانة الأجداد للأحفاد - نضال حمد

قبل سنوات طويلة يومها كنا لازلنا صغارا نلعب في الحارة وأمام المنازل المسقوفة بالزنك في مخيمنا عين الحلوة ، قال جدي الذي دفناه فيما بعد بمقبرة قريبة من المخيم الذي يشبه المقبرة .. قال : ضاعت البلاد .. ولكنها أصبحت منذ لحظة الفراق عنوان العنفوان والانتماء، وحياة ناقصة وغير مكتملة.. وسوف تصبح منذ الآن أمانة بأعناقكم أيها الأولاد.. ومنذ تلك اللحظة والأمانة تثقل كاهلنا جميعاً .. بعد سنين ورغم أن معظم الأولاد الذين سمعوا كلمات الجد رحلوا عن عالمنا وهم يحملون بنادقهم كما كوفياتهم المرقطة على أكتافهم.. استشهدوا وهم يقاومون ويكافحون ويناضلون فدائيين لأجل فلسطين كل فلسطين.. رغم ذلك فإن فلسطين العربية باقية مع من تبقى منهم ومع الذين ولدوا من بعدهم ومع الذين ولدوا من قبلهم ، وستبقى حية مع الذين سيولدون بعدنا وبعدهم وبعد كل جيل ..

 

هؤلاء الأولاد الذين حفظوا كلمات الأجداد ، لم يهنوا ولم يقنطوا ولم يستسلموا للواقع الصعب ولظروف الحياة المعقدة وللعوائق والصعاب التي وقفت بوجه العمل الوطني الفدائي. دخلوا المعسكرات وتدربوا ومن ثم صاروا فدائيين على خطوط المواجهة ، فمنهم من استشهد في فلسطين بعد تنفيذه عمليات في الجليل الفلسطيني المحتل ومنهم من استشهد وهو يصارع العدو الصهيوني وأعوانه في بلاد الطوق وبالذات في لبنان.

 

في يوم النكبة اذكر بعض أصدقاء طفولتي وسنوات المراهقة الشبابية والثورية في مخيمنا العنوان .. منهم رفيقي وصديقي وقريبي عبد حمد (شادي) الذي استشهد وهو يتصدى للدبابات الصهيونية في مخيم عين الحلوة سنة 1982 ، كان يحلم بالاستشهاد في معركة مع الصهاينة على أرض فلسطين لكنه استشهد في معركة معهم على أرض فلسطين المصغرة في مخيم لازال ينجب مناضلات ومناضلين. وأذكر صديقي ورفيقي (حاتم حجير) الذي رحل في نفس الفترة وفي نفس المعركة وصديقي ورفيقي (شربل) فهد البني ورفيقنا غسان كايد اللذان استشهدا بعد عبد وحاتم بأسابيع عديدة جراء غارة صهيونية على موقع تابع لجبهة التحرير الفلسطينية في البقاع اللبناني. هؤلاء حملوا أمانة الأجداد ومضوا يحملون أرواحهم على راحاتهم.وهناك كثيرون غيرهم استشهدوا وتركونا نحمل أمانة الأجداد وأمانتهم..

 

في البدء كانت فلسطين وفي الختام ستبقى فلسطين .. لا النكبة تنسينا البلاد ولا النكسة ولا كل ما تلاهما من نكبات ونكسات حلت بشعبنا الفلسطيني وبأمتنا العربية.  فمخيمات اللاجئين الفلسطينيين وتجمعاتهم التي أصبحت تمتد في كل العالم من مخيم عين الحلوة في لبنان إلى تجمع (زينونن ألي) في برلين .. تحفظ الدرب وتلتزم بالعودة ولو جيلاً بعد جيل.. يموت الكبير فيستلم الأصغر أمانته، وهكذا تبقى وتحيى فلسطين..تحيى بهية معهم في شتاتهم وفي كل أوقاتهم ولحظات حياتهم ، يحملونها هماً وحلماً وألماً وأملاً بالعودة. فالشعب الذي لا يهدأ ولا يستكين ولا يلين بالرغم من جبل النكبات والنكسات والمآسي لا بد منتصر ولا بد أنه أفضل وأصلب وأقوى وأشد عوداً ومتانة والتزاماً بالأمانة من قيادات صارت من ورق.

هذا الشعب الذي شاهد اتفاق المصالحة في القاهرة يعرف أن تلك القيادات كما دولة الوهم التي أعلنت سنة 1988 من ورق وفقط من ورق، لذا فهو غير مهتم بما تقاسموه على حسابه من حصص ووزارات ومؤسسات وحسابات ومحسوبيات .. لأن الشعب بالأصل يهتم فقط بعودة العباد إلى البلاد والأخيرة إلى شعب الشهداء من الأجداد والأحفاد. أما اتفاقية القاهرة بين الحركتين الفلسطينيتين، اللتين خونتا بعضهما طويلا ليست أكثر من نفاق متبادل وهراء لن يدم طويلاً. فالاتفاق الحقيقي يصمد حين تكون مصلحة فلسطين وشعبها هي العنوان، لكن في القاهرة غابت مصلحة فلسطين وبرزت مصالح المتنازعين على سرقة تمثيل الشعب الفلسطيني... كنت أشاهد حفل التوقيع المسرحي وأردد :كأن التاريخ الفتحاوي يعيد تجديد نفسه مع التراجع الحمساوي ، وكأن كل التضحيات العظيمة  التي قدمت من قبل الحركتين كانت تقدم لأجل الكراسي والألقاب ..

 

يا عار بنادقهم وعار كوفياتهم وعار شعاراتهم .. يتفقون على أن فلسطين ليست أكثر من حدود 1967 وعلى أن أساس الاتفاق أن يستمر الرئيس رئيساً وأن يمضي ببرنامجه السياسي التفاوضي الذي يتخلى عمليا وفعلياً عن الحقوق الفلسطينية التاريخية.. مع أن كلا الطرفين تفننا ويتفنان في ترديد شعارات التمسك بالثوابت الوطنية الفلسطينية .. يقول الفتحاويون في حالة الدفاع عن أنفسهم وعن حركتهم : أن حركة فتح لم تتنازل عن أي شيء.. مجنون يحكي وعاقل يسمع ..إذا كانت فتح لم تتنازل حتى يومنا هذا عن أي شيء فماذا نسمي كل تنازلاتها باسم منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني منذ مؤتمر جنيف للسلام والتسوية سنة 1974 وحتى يومنا هذا في زمن الجزر الأمنية الاوسلوية والتنسيق الأمني مع الاحتلال ضد المقاومة والمقاومين؟؟ وماذا نقول عن الاستيطان والأسرى والميثاق الوطني وعجز فتح وسلطتها عن تسمية ميدان في مدينة رام الله باسم الشهيدة الفلسطينية (الفتحاوية) العظيمة دلال المغربي ؟؟ ..

 

 حين يرى ويسمع ويقرأ الإنسان عن العار يراه يمشي عارياً في فلسطين المحتلة..ويراه نفاقا في كلمات الأخوة الأعداء فتح وحماس ، هؤلاء الأخوة الذين طالما كذبوا على شعبهم  باسم التضحيات والعذابات ، تضحيات كل شعبنا وعذابات كل أمتنا من المحيط إلى الخليج. ولم يحفظوا الأمانة كما يحفظها أطفال فلسطين في الداخل والخارج، ولم يلتزموا بشعارات رفعوها ورفعتها معهم جموع الشعب..

 فيا أيها الفتحاويون والحمساويون الذين آمنتم بفلسطين كل فلسطين .. بأي فلسطين أنتم الآن مؤمنون؟

 

النكبة شيء يعيش معنا وتمضي النكبة أوقاتها معنا في كل لحظات حياتنا، كأنها الكنبات التي نجلس ونستريح عليها بعد شقاء في منازلنا بعد تعب وشقاء.. هكذا نخالها لأنها ليست سوى الشقاء بعينه والعذاب على إشكال وأصناف وأنواع منوعة.. إنها نكبة شعب يحب الحياة ، يحب الكفاح لأجل الصعود من الحفر ومن أجل بناء الغد الأجمل ،المشرق، المشع، المضيء والمنير الذي يحمي فلسطين جيلاً بعد جيل ، يحميها من اللصوص القتلة والإرهابيين الصهاينة أمثال شمعون بيريس ، الذي قال في ذكرى النكبة في خطابه للجمهور الصهيوني " أنّ شعبه أقام دولة عبارة عن جنة خضراء، بعد أن أتوا إليها وهي صحراء قاحلة".. كذب بيريس كما كذب من قبله كل عتاة وأركان الحركة الصهيونية ،لأن فلسطين كانت بلداً عامرا وأرضا خضراء أكثر اخضراراً من البلاد التي جاء منها مهاجرا غازيا ضمن العصابات الصهيونية المسنودة والمدعومة بريطانيا وأمريكيا وأوروبيا.

في يوم النكبة ليس لكم أيها الفلسطينيون سوى بنادقكم خيارا وحيداً لحسم الصراع مع عدوٍ لا يعرف سوى لغة الإقصاء والاجتثاث. ولن يعد منكم من اعترف ويعترف بالاحتلال على أي شبر من تراب فلسطين وطنكم ، وطن كل عربي حر وكل مناضل أممي لا يعترف بالصهيونية وصنيعتها (إسرائيل) .. فهذا الكيان المسخ إلى زوال وكل من يعترف به إلى زوال معه.

 

كل ذكرى (نكبة) وشعبنا يجعل من الألم أمل ، ومن الملح حلم ، ومن المقاومة وسيلة وحيدة لاستعادة البلاد كل البلاد ، ولعودة العباد إلى أرض الآباء والأجداد ، لتتحقق الأماني وتسلم الأمانة لجيل جديد يحفظ فلسطين من كل اعتداء وعدوان  ، ويصونها ويحميها من الصاعدين على جماجم الشهداء والمتسلقين على شواهد قبورهم.

 

 

 

15-05-2011

 

التعليقات