مقاومة الاحتلال بالاكتئاب / فخري صالح

يتخذ القاص الفلسطيني، المقيم في منطقة الجليل بفلسطين المحتلة، رياض بيدس، من شكل القصة القصيرة وسيلة للتعبير عن الصخرة الصهيونية التي يرزح تحتها الفلسطينيون الباقون على أرضهم. وتتكرر في قصص رياض ثيمة أساسية تتصل بصراع الهوية الفلسطينية مع الهوية الصهيونية، بحيث يبدو هذا التقابل بين الهويتين النقيضتين وسواسيّ الطابع.

مقاومة الاحتلال بالاكتئاب / فخري صالح

يتخذ القاص الفلسطيني، المقيم في منطقة الجليل بفلسطين المحتلة، رياض بيدس، من شكل القصة القصيرة وسيلة للتعبير عن الصخرة الصهيونية التي يرزح تحتها الفلسطينيون الباقون على أرضهم. وتتكرر في قصص رياض ثيمة أساسية تتصل بصراع الهوية الفلسطينية مع الهوية الصهيونية، بحيث يبدو هذا التقابل بين الهويتين النقيضتين وسواسيّ الطابع.

 من هنا تسعى مجموعة القاص الأخيرة "السقف" إلى تصوير عدد من الحالات الاكتئابية والشخصيات التي تعاني من أمراض السوداء والارتياب والكوابيس التي تتخلل ثنايا السرد وتضاعيفه، بحيث تبدو المشاعر الاكتئابية التي تعاني منها الشخصية القصصية، عَرَضًا لشيء آخر مقيم في فضاء المكان؛ ولهذا ليس من المستغرب أن تبدأ المجموعة بقصة "السقف|، التي تُتخَذ عنوانًا للمجموعة، في محاولة لرسم الجغرافيا النفسيّة التي تتحرك فيها الشخصيات القصصية، حيث يتجادل الزوجان حول الطريقة الأمثل لإصلاح سقف البيت الذي يستمر في تسريب مياه الأمطار رغم إصلاحه غير مرة.

لقد كان من الضروري خفض السقف، سقف البيت، وكذلك التوقعات! ثمة شيءٌ غلط يقيم في أساس الجغرافيا النفسيّة للشخصيات التي تتحرك في هذه النصوص القصصية؛ شيءٌ يتعلق بعلاقتها بالمكان ومن يحكمون قبضتهم على ذلك المكان.

في قصة "حب الوطن أو ثلاث وجبات يوميًّا"، نعثر على تشخيص للحالات الاكتئابية التي تصورها المجموعة، كما نعثر على الأسباب التي تقيم في أساس كوابيس الشخصية القصصية وحالة الارتياب التي تعيشها، والشكوك التي تتلبسّها حيال ما تدبره لها قوة خفيّة تحوم حولها القصص ولكنها لا تقوم بتعيينها. ومع أن الشخصية تستعيض عن الطعام بوجبات ثلاث من العقاقير المستخدمة في معالجة حالات الاكتئاب والسوداء، والشكوك الارتيابية (ما يؤدي إلى عدم القدرة على النوم)، إلا أن أكثر هذه العقاقير فتكًا ونجاعةً لا يفضي إلى الشفاء من هذه المشاعر والظنون والهلاوس العصابيّة، بسبب الاعتقاد الراسخ المقيم في أعماق الشخصية بـ "أنهم" يقفون "بالمرصاد" لها "هم وصغارهم وأنذالهم وكلابهم" (ص: 24). ولا يفسر هذا "الخلل"، بتعبير الشخصية نفسها، وعدم نجاعة العلاج وتفاقم حالة الاكتئاب وازدياد الهلاوس، إلا وجود مؤثر خارجي يبعث للشخصية بالكوابيس بسبب "حب الوطن بعجره وبجره" (ص: 25).

تمثل الجملة السابقة حول حب الوطن مفتاحًا لهذه النصوص المستغلقة على الفهم، إذ بدونها يصعب أن نحدد ما تسعى المجموعة للتشديد عليه. إن الشخصية المحوريّة، وربما الوحيدة في هذه القصص، تشعر بضغط الشرطين التاريخي والوجودي اللذين يدفعانها إلى التحوّل إلى حالة اكتئابية مستعصية على العلاج، لأن فضاء الوطن مغلق بالآخر الذي يزحم المكان، ويخنق الأنفاس، ويشنّ حرب كوابيسه على الشخصية، ويراقبها ويعاقبها، لدرجة أن جدران البيوت التي تسكنها الشخصية (شقق شاغرة للكلام، ص: 53)، والكراسي التي يجلس عليها (حديث المقاعد المتعبة، ص: 31)، تتداعى وتتهالك للتعب النفسي الذي تشعر به هذه الشخصية الاكتئابية. 

إن عدوى الكآبة، وقدرتها على غزو الأحياء والجمادات، الحجر والخشب، البيوت والمقاعد، تتأتّى من شعور الشخصية بالمراقبة، والتهديد الدائم، ومحاولة الجهة الخفيّة (التي تدبر لها المكائد والكوابيس) الاطلاع على أحلامها وهواجسها الداخلية. وتمدّنا قصة "الكابوس"، التي تقوم بتلخيص إحدى حكايات جحا ونوادره، بالمعنى الضمنيّ الذي تنطوي عليه قصص رياض بيدس في هذه المجموعة: المطلوب هو استئصال الذاكرة والأحلام في مملكة تيمورلنك، أو الحاكم الغريب الذي يزحم المكان ويشن حربًا شعواء بكوابيسه التي تهجم على الشخصية الاكتئابية التي لا اسم لها في هذه المجموعة.

التعليقات