الشاعرة والكاتبة الفلسطينية سعاد قرمان: عبق الذكريات في حيفا../ روضة غنايم

"نحن نتعلم في كل لحظة من حياتنا إذا فتحنا عيوننا وقلوبنا ووعينا على كل ما يحيط بنا، وكما يقول الشاعر: "إذا فاتني يوم ولم اصطنع يدا ولم اكتسب علما فما ذاك من عمري"..

الشاعرة والكاتبة الفلسطينية سعاد قرمان: عبق الذكريات في حيفا../ روضة غنايم

"يأخذني الحنين إليها، أتنسم هواء كرملها مشبعاً بأريج الصّنوبر وعبق التّراب، وقد ارتوى بمطر تشرين بعد ظمأ صيف طويل، أرمق الاشجاروقد اغتسلت وتمايلت أغصانها، تسبّح مهلّلة لموسم جديد، يكتنفها غمام ضباب يحنو عليها، ويحجب عنها أشعّة شمس تحاول جاهدة إرسال حرارتها في وداع أخير انحدر مع سفحها نحو الشاطئ يحيط بها في عناق سرمديّ، أمواجه تتلاطم متراقصة بين غزو وارتداد تداعب الرّمال، تجرفها ثمّ تعيدها وقد برد لظاها وتطايرت رذاذاً ناعما مع الأمواج العابثة، تلطّف الجوّ وتبعث فيه ألحانها الهادرة، متواصلة تتغلغل في الفضاء، تخدّر الأعصاب وتغسل عن الرّوح متاعب الحياة. حيفا منذ طفولتي وأنا ألهو على منحدر حيّنا، بين جبلها والشاطئ البعيد ثنائّي انغمست صورته في أعماق روحي، فبت لا أطيق الحواجز والجدران، أختنق بها فانطلق في الفلاة أستنشق الحرّية والفضاء. يتجذر المكان في أعماقنا وينمو معنا، يلازمنا حيثما انطلقنا، تنعكس صورته في الرّؤى التي تحيط بنا ونراه في أقصى المعمورة!" (سعاد قرمان - " من حصاد العمر").

في بداية هذا الأسبوع قمت في زيارة للّشاعرة والكاتبة الفلسطينية المخضرمة سعاد قرمان في بيتها الّريفي الفلسطيني الوادع والواقع في (مزرعة/عزبة قرمان) في إبطن ضاحية حيفا، تحيطه حديقة جميلة مليئة بالورود والّشجيرات المثمرة. استقبلتني بدفء ومحبة ، امراة أنيقة المظهر وجميلة الروح مثقفة جدا، تملك حسا وطنيا عاليا. تحفظ التاريخ والأحداث بأدق التفاصيل.. إنها موسوعة تاريخية.

وُلدت عام 1927 في مدينة حيفا (عروس البحر). والدها عبد الرؤوف قرمان أحد وجهاء حيفا، كان يعتبر من أكبر التجار في فلسطين، وتوفي عام 1975. بيتها عريق تملأه الذكريات من أيقونات ولوحات فنية مُختارة بدقة صور للعائلة ومكتبة كبيرة مليئة بالكتب، شعرت وأنا في حضرة قرمان والبيت كأنني أشاهد أحداث فيلم سينمائي من الزمن الجميل، ممتع ومفيد. وما أثار إعجابي أنها تتحدث لغة عربية صافية ورفيعة جدا.

محطات في حياة قرمان
 

محطة الطفولة والصبا

أخذتني معها في جولة شائقة ومثيرة لأيام طفولتها وصباها في مدينة حيفا في سنوات الثلاثين. سّرنا في أزقة حيفا وأحيائها القديمة. زرنا بيت العائلة القديم، الذي شيّد عام 1925 في شارع خالد بن الوليد ("ياحيئيل" اليوم) ويقع في الحدّ الفاصل بين الأحياء العربية والـ "هدار"، في منطقة اليهود. ثم عرّجنا على المدرسة الابتدائية الحكومية التي درست فيها. اعتصرالألم قلبها حين رأت منظرها الجديد! هدمت وتحولت الى أكوام من الحجارة والحديد والرّدم. تنهدت وقالت بغصة وبصوت مجروح: "مدرسة جميلة مثل هذه بنيت بفنّ العمارة الأنيق كيف يهدمونها؟ بدل أن ترممها البلدية وتستثمرها لأيّ مشروع ثقافي أو فنيّ".

ثم تجولنا بين مباني الجيران التجار. عائلة "سراقبي" من سورية، وعائلة "الحوري" من لبنان، وعائلة "أبو زيد" من مدينة يافا، وعائلة "حُنيني". حدثتني عن كيفية التزاور بين المعارف والأصدقاء حيث كانت هناك طقوس خاصة لذلك، فقالت: "كانت العادة في الماضي تقوم كل عائلة بتعيين يوم لاستقبال ضيوفها من الأصدقاء والمعارف مرة في الشهر وسُمي هذا اليوم "يوم الاستقبال" حيث كانوا يعزفون الموسيقى ويغنون ويحضرون أطيب الماكولات".

ثم عرجنّا الى سوق "الشوام الكبير" (مباني الحكومة اليوم) الذي اكتظّ بدكاكين امتلكت معظمها الجالية السورية، ومن هنا اتخذ اسمه. سرنا بين الحوانيت الحافلة بالعطارة والبقالة والأقمشة الشامية والحلويات، والمُكتظ بالباعة والمشترين والروائح العطرة التي تفوح منها، وأصوات الحمّالين الُمنادين على بضائعهم ترافقنا، وموسيقى كؤوس التّمر هندي وشراب السّوس. مررنا جانب حلويات الديماسي الشهيرة حيث تناولنا قطعة من الحلوى.

تتذكرقرمان كيف كانت ترافق والدتها كلّما حالفها الحظّ، وتقول: " كنت أسير معها مبهورة مكتفية بمتعة المشاهدة، لم تكن أسواق الألعاب تغزو عالم الأطفال كما هي علية اليوم، فكنت أجمع قصاصات من الأقمشة الملّونة من بقجة فضلات الخياطة فأكسو بها عودَين متصالبّين، وأجعل منها دمية أتفنّن في تكوينها وتزيينها وألعب بها مع أترابي، بالإضافة لألعاب أخرى كنا نلهو بها كالغميّضة والقفز على الحبل والاكس".

ثم عرجنّا إلى حديقة البلدية لمشاهدة المدفع، تتذكر إطلاق مدفع الإفطار في رمضان الذي نصب في برج حيفا (نقل المدفع إلى متنزه بانوراما في مركز الكرمل، اليوم). والمسحراتي الذي كان يطوف بين البيوت ويطبل على تنكة فارغة أو طبلة لإيقاظ الناس صائحا: "يا نايم وحد الله". وتتذكر أيام العيد وصندوق العجب الذي كان بمثابة سينما مُتنقلة.

ومن الذكريات المميزة الراسخة في ذاكرتها

قالت: "أذكر الكسوة الشريفة للكعبة التي كانت تمر من حيفا في القطارقادمة من الشام إلى بلاد الحجاز، وهو طقس سنوي. كان يتوقف القطار في حيفا، وتُحمل الكسوة الموشاة بالتطريز الشرقي الجميل على هودج الجمل ويطوفون بها في شارع السوق الرئيسي، كان يحدث ذلك مرة بالسنة. وبالنسبة لنا كان هذا الاحتفال كيوم عيد.. كان خالي جمال بدران في طفولته ينتظر مرورها كل سنة بشغف ليتمعن تطريزها من أجل التعلُم منه وكان ينقله بعد ذلك. وأصبح فيما بعد فنانا ومبدعا في الزخرفة الشرقية والخط الكوفي، تخرج من كلية الفنون التطبيقية في القاهرة".

محطة الزواج والتعليم

في عام 1936 أضرب العرب الإضراب الشهير لستة أشهر، وكانت قرمان ما تزال في المرحلة الابتدائية، حيث اشتعلت الثورة بين العاميين 1937 و 1938 احتجاجا على "وعد بلفور" بتحقيق وطن قومي لليهود في فلسطين. حيث انتقلت مع والدتها وإخوتها إلى بيروت، لكن والدها بقي في حيفا لرعاية مصالحه التجارية.

تعلمت سنة في بيروت في مدرسة (الآنسة أمينة المقدسي)، ثم قررت العائلة العودة إلى حيفا. وكان يصعب العودة لأن البيت ملاصق للحي اليهودي. وشهد توترأ شديدأ بين العرب واليهود. لذلك استاجرت العائلة بيتا في حي الألمانية، وهناك درست سنة واحدة في مدرسة (راهبات الكرمليت) وتلقت مبادئي اللغة الإيطالية.

في تلك الفترة ازداد الوضع سوءا مما اضطرها للذهاب إلى مدارس غزة، وهناك عملت خالتها مديرة لمدرسة البنات وخالها كان استاذا. فتعلمت سنة في غزة وحظيت بُمدرسة اللغة العربية المعلمة المراحلة عصام الحسيني. وتتذكر قرمان وتقول: " كان جو المدرسة وطنيا، فكنا ننتظم كل صباح فننشد الأناشيد الوطنية مثل "موطني" وغيرها مما قوى روح القومية والعربية في نفسي فتأججت روحي بحب الوطن واللغة العربية والشعر الأصيل. وتكمل حديثها "أتذكر أول بيت شعر كتبته كان لمدرسة اللغة العربية عند انتهاء السنة الدراسية وعودتي إلى حيفا. ( وا عصام وحّي قلبي أن عيني لن تراها). أكملت تعليمها الثانوي في راهبات الناصرة في حيفا. تقول قرمان: "كان لهذا التنقل بين جميع هذه المدارس ميزة اقتطاف ثمرة حضارات وأساليب مختلفة، فقويت لغتي العربية في غزة، واللغة الإنجليزية في بيروت، والفرنسية في راهبات الناصرة.

في سن السادسة عشر تزوجت درويش قرمان (ابن عمها طاهر) ولم تنجب أطفالا حتى سن العشرين، وأكملت تعليمها الأكاديمي إلى أن تخرجت من (كلية "أورانيم" لتأهيل المعلمات) حصلت على البكالوريوس في تعليم اللغة الإنجليزية. وخلال دراستها أنجبت أبناءها وبناتها سوسن وسُليمى وطاهر ومنى. وكل ذلك لم يعقها من ممارسة هوايتها ركوب الخيل.

محطة العمل والأنشطة الثقافية والإعلامية

عملت كمُدرسة للغة الانجليزية واللغة العربية والدين الإسلامي في المدرسة الابتدائية في قرية إبطن حتى بداية سنة التسعين حين قدمت استقالتها. تولت تحرير مجلة "كلمة المراة" وعملت على تحرير صفحة المراة والاسرة في جريدة "اليوم" وقدمت عدة برامج تلفزيونية واذاعية، انتخبت عام 1998 كرئيسة للهيئة الادارية في مسرح "الميدان" لخمس سنوات، وهي من مؤسسي رابطة الكتاب الفلسطينيين عام 1980 منذ سنوات الستينيات من القرن الماضي حتى اليوم ناشطة في النشاطات الادبية والنسائية والاجتماعية.

مؤلفاتها

أصدرت ديوانيين من الشعر: ديوان" حنين الهزار" (1995)، وديوان "عريشة الياسمين" (1997)، وكتاب "حصاد العمر" (2008). قامت بترجمة قصة من الأدب الانجليزي الى اللغة العربية بعنوان: "أحداث نيفاريا" للكاتب والشاعر الإنجليزي ويليام كوك.

كتبت العديد من المقالات. وهي اليوم تعد ديوانها الثالث وتكتب مذكراتها.

وفي ختام الحديث قالت: "نحن نتعلم في كل لحظة من حياتنا إذا فتحنا عيوننا وقلوبنا ووعينا على كل ما يحيط بنا، وكما يقول الشاعر: "إذا فاتني يوم ولم اصطنع يدا ولم اكتسب علما فما ذاك من عمري".

(تمارس هواية ركوب الخيل)

(قرمان مع علي محمد طه وأحمد حسين)

التعليقات