مداخلة متسائلة عن الواقع الثقافي الفلسطيني../ إياد البرغوثي

في كلّ مرة يطلب مني أن أقدّم مداخلة أو أكتب مقالة عن الواقع الثقافيّ، كما فعل المحرّر في "فصل المقال" قبل أيام، أحتار من جديد وأفتح على نفسي طواعية، ودون رحمة، أبواب الأسئلة، وخصوصًا تلك الأساسيّة، أو الفلسفيّة إن شئت، كي أصل إلى تشخيص ما أو مساحة كلام قد تبدأ الإجابة

مداخلة متسائلة عن الواقع الثقافي الفلسطيني../ إياد البرغوثي

كيف أستطيع أنّ أكتب أو أتحدّث عن الواقع الثقافيّ، وأي سؤال أصلاً عن الواقع هو سؤال إشكاليّ معرفيًا، ما هو الواقع؟ كيف أستطيع أن أعرفه وأن أحدّده وأفهمه؟ بالتجربة أم بالحواس؟ أم بإعمال العقل والتفكير؟ هل الواقع فعلاً هو فقط الماديّ الملموس أم الوعي بالواقع أيضًا؟ وهذا الوعي أو الفهم للواقع كيف تشكّل؟ بالأحرى من شكّله؟ هل الواقع معطى ثابت وجامد أصلا أم أنّه آخذ بالتشكّل؟ إذا كان متحولاً فما دوري، دورنا فيه؟

ثمّ، هل الواقع هو لحظة تاريخيّة منفصلة؟ كيف يمكن أن ألتقطها؟ هل يمكن عزلها؟ هل يمكنني أن أتحدث عن الواقع دون الماضي؟ متى انتهى الماضي؟ متى بدأ الآن؟ عن أي زمن عليّ أن أتحدث؟ عن بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين..؟ عن 2014؟ عن ما بعد النكبة؟ عن ما بعد الانتفاضة الثانية؟ أو ما بعد أوسلو؟ هل أجمّد اللحظة وأصف ما أرى؟ كيف أفعل هذا وسؤال لماذا الوضع الآن هكذا يجرّني إلى الوراء...إلى الأسباب، إلى المحطات، إلى الرحلة الصعبة...وسؤال ما العمل إذًا يدفعني، رغم إرادتي وبها، إلى الأمام.

مثل الواقع، كذلك مفهوم الثقافة هو مفهوم إشكالي، ماذا تعني الثقافة؟ هل "أغرش" من أجل تدفق سير المداخلة واستخدم معناها "الدارج" و"المتوقع"؟ الصحفيّ إن شئنا...أي المعنى الضيق للثقافة بمعنى الفنون والأدب والإبداع والفكر، أم أقف عند معناها الأشمل، الأنثروبولوجي، إن شئنا: أي الثقافة كنسق شامل ودينامي للغة والرموز والقيم والمثل والمعتقدات والفنون والشعائر والقوانين والعادات والموروث والأنماط السلوكيّة والمعرفيّة وأساليب الحياة الجامعة لجماعة ما تجمعها هوية...والثقافة كجهاز إنتاج المعاني للوجود الجماعي.

مثلاً، وحتى لا أطيل المقدمة أكثر، لمعت في ذاكرتي صورة نشرتها إحدى الصديقات على "الفيسبوك"، في مثل هذه الأيام من العام الماضي، صورة من مسيرة العودة لطفلتها الجميلة ابنة الثالثة (اليوم هي في الرابعة)، تقف لابسة أصغر ثوب تراثي فلسطينيّ رأيته بحياتي وفوقه معطف بلون أخضر توركيز احتفالي وحطة بيضاء-سوداء تنتهي ب"شراشيب" علم فلسطين، تمسك عكازًا أطول منها مرتين مقبضه على شكل تنين ينفث نارًا متخيلة، وتنظر بعينين أخذا دور الكلام المؤجّل إلى امرأتين عجوزين جالستين على صخرة بنية تحملان مناشير ضد الخدمة المدنية وتبتسمان لها، الأكبر سنًا تبتسم بفرح غامر والأصغر تغمض عينيها تريد أن تفهم مُراد الصغيرة. في الخلفية هناك صبيتان تقفان بعيدًا تنظران بتلقائية إلى مكان ما بعيد.

أنا أفضّل أن أقرأ واقع الثقافة بمفهومها الأشمل من خلال نماذج مشاهدة كهذه،هذه ليست صورة فنيّة أو مجسمًا إنشائيًّا في معرض أو نصًّا أدبيّا ولا فيلمًا سينمائيًا، بل مجرد صورة "كوفر" على صفحة فيسبوك لإنسانة عادية (للصدق، هي فنانة لكن بمجال آخر تمامًا بعيد عن التصوير الفوتوغرافيّ)؛ صورة فيها كلّ مكونات الثقافة: الطقوس (مسيرة العودة كطقس وطني مستحدث)، الرموز (العلم، الحطة)، التراث والفنون (التطريز)، الأيديولوجيا (الخدمة المدنيّة والهويّة السياسيّة)...وما إلى ذلك...هذه الصورة ساهمت في إنتاج معنى الحدث الجماعيّ، فصارت صورة عن الواقع قد تحكي عنه، ولو جزئيًا.

لكن مهلاً، أنا اخترت هذه الصورة، لأني أريد أن أرى الواقع الثقافيّ هكذا وأن ترونه أنتم أيضًا هكذا، ربما لأنّ مواضيع الهويّة والعودة والعلاقة بين الأجيال تهمني شخصيًا.

إننا نعيد إنتاج الواقع عندما نسلّط الضوء على مشهد ما منه نصنعه ليصبح صورة عنه، وبالضرورة نعتّم على مشاهد أخرى (ولدينا جوانب معتمة!).

الثقافة تُبنى، الثقافة تتشكّل، الثقافة تُنتقى، الثقافة تصنع، إنها فعل إنسانيّ، والثقافة الحديثة والمعاصرة هي ثقافة واعية لكونها كذلك، لأنّ الحداثة بجوهرها هي نزع السحر عن الكون ومركزة الإنسان وعقله ووعيه وفعله.

إذا فهمنا ذلك جيدًا نكون قد أمسكنا طرف الخيط لنبدأ بحلّ العقد وإيجاد الحلول، نبدأ بتحمّل المسؤولية عمّا نسميه "الواقع".

هناك بدون شكّ في سياق فلسطينيّي الداخل، موضوع ندوتنا، معيقات وإشكاليّة بنيويّة أساسيّة لإنتاج الثقافة الحديثة، المعيق الأساسيّ هو فقدان المدينة...فقدان المركز المدينيّ.

كيف تبني الشعوب والمجتمعات الحديثة ثقافتها؟ بالجامعات والمكتبات الوطنيّة والمتحف القوميّ والمسرح ودور السينما والمتاحف وشركات الإنتاج وبأسماء الميادين الرئيسة والشوارع والمهرجانات والمناسبات الوطنيّة...

لقد فقدنا في هزيمة العام 1948 مدننا التي بدأنا نبني فيها حداثتنا وطردنا منها، من بقي منا سكن الريف، ومن الريف انتزعت الأرض ولم يعد حتى الريف ريفًا بل هامشًا مشوهًا تابعًا للحداثة الإسرائيليّة. وفي ذات الوقت انقطعنا عن المدن العربيّة وعشنا عزلة طويلة وحصارًا مؤلمًا، وواجهنا احتلالا عميقًا للوعي وتشويهًا منهجيًا للهويّة وغربة وشعورًا بالدونية، ونقاوم بقيمة البقاء ومقاطع قصيرة من قصائد متحدية.

بعد ترسيخ البقاء، المهمة، مهمة جيلنا، هي المأسسة وترسيخ وجود واعٍ لذاته، نقدي تجاهها. آن الأوان أن نبني، أن ننظّم التواصل الثقافيّ الفلسطينيّ العالم العربيّ، مستغلين التكنولوجيا، وأن نحفّز الإنتاج الثقافيّ الفلسطينيّ ونشره عربيًا وعالميًا. نحن ننتج ثقافة إذًا نحن موجودون.

التعليقات