عن تحية المكانس.. وتأريخ بؤساء يافا

التاريخ الذي كتب هو تاريخ أغنياء يافا وجمال يافا وحضارة يافا وبرتقال يافا وقصور يافا، وليس تاريخ أولئك البؤساء من العمال المستغَلين

عن تحية المكانس.. وتأريخ بؤساء يافا

المكانس، نعم... ترفع بأيدي عمال النظافة في يافا مؤدية التحية لجمال وأنور باشا أهم القادة العسكريين العثمانيين. حصل ذلك بالفعل في أحد الأيام في يافا ما قبل الاحتلال البريطاني، وفي إحدى السنوات الأخيرة من الحكم العثماني، وتقديرا في أوائل سنة 1915 إبان الحرب العثمانية لاحتلال مصر التي سقطت بأيدي بريطانيا.

الدكتور يوسف هيكل آخر رئيس لبلدية يافا قبل الاحتلال، لم يذكر تاريخا محددا في مقال تم فيه اقتباس مقتطفات كتبها عن يافا ضمن كتاباته الكثيرة القيمة، وخاصة فيما يتعلق بذكرياته من يافا ومواضيع عامة أخرى. فمن مؤلفاته 'القضية الفلسطينية ' سنة 1937،' نحو الوحدة العربية ' سنة 1943، 'فلسطين ما قبل وبعد' سنة 1971، 'أيام الصبا' مذكرات كتبها سنة 1988، 'ربيع الحياة ' مذكرات، سنة 1989، 'مدينة الزهور' يافا، مخطوطة.

في هذا المقال الذي نشرته مجلة الدراسات الفلسطينية بالانكليزية Jaffa as It Was (عدد 13 رقم 4 صفحة 21- 3، صيف 1984 ) يذكر الدكتور هيكل يوما كان به عائدا من مدرسته دار العلوم، فرحا مهللا ليخبر عائلته أن المدير عريف البديري طلب من جميع طلاب المدرسة لباس ثياب مرتبة جميلة وأحذية نظيفة ملمعة تليق باستقبال عظيم سيجري في اليوم التالي، خارج مقر السرايا عند دوار الساعة في يافا لضيوف مهمين: أنور باشا وزير الحربية العثمانية، وجمال باشا، الملقب بالسفاح لإعدامه نخبة من المناضلين والمثقفين العرب، قائد الجيش العثماني الرابع ووزير البحرية وحاكم سورية وبلاد الشام الذي دعي شارع على اسمه في يافا شارع شدروت يروشلايم اليوم.

هذان القائدان عرجا على يافا في طريقهما لجبهة السويس بسبب الانهزامات التي كانت من نصيب الجيش العثماني أمام الجيش البريطاني. أما والد الدكتور هيكل فلم يشارك ابنه سعادته هذه فهو من المعارضين للحكم العثماني.

في اليوم التالي، وقد لبس الطفل يوسف هيكل بدلة جديدة وحذاء لامعا، توجه إلى المدرسة مبكرا كغير عادته. في حوالي الساعة العاشرة اصطف الطلاب استعدادا للخروج إلى مقر السرايا. وعند وصولهم وقفوا في أحد أطراف ساحة دوار الساعة، وبجانبهم طلاب مدرسة المعارف الذين كانوا أكبر منهم سنا، وأكثر عددا. وفي الطرف المقابل من الساحة وقف صف من الشرطه يحملون البنادق وبجانبهم صف من عمال النظافة. وفي طرف آخر وقف مشاهير البلد وموظفو الحكومة وخلفهم جماهير من الشعب.

لفت أنظار الطفل يوسف هيكل (وأنظاري!) صف عمال النظافة بجانب صف الشرطة، وقد لبسوا على غير عادتهم المَشامل (جمع مِشمل وتعني ثوب overall) البيضاء النظيفة الناصعة، وأحذية سوداء جديدة، وقد رفعوا بأيديهم مكانس جديدة أيضا من القش الفاخر المربوط حول عصا خشبية، وذلك بعكس ثيابهم اليومية الممزقة القذرة المعتادة وأقدامهم العارية. ويعلق الدكتور هيكل على هذا المشهد لاحقا في المقال بأنه غريب وكئيب حيث ـنه قمة نفاق وخداع المسؤولين.

(يذكرني ذلك بمشهد مماثل في رواية اتول فوغارد 'موت سيزوي بنزي'، حيث يقف عمال مصنع فورد في جنوب أفريقيا إبان حكم الابرتهايد استعدادا لزيارة صاحب المصنع هنري فورد).

بعد ما يقارب الساعة ظهر سرب من الدراجات النارية، وخلفهم سيارة ذات سقف مكشوف يجلس بها الضيفان على المقعد الخلفي بلباس عسكري. سار الموكب ببطء لتقبّل تحية الطلاب والمعلمين اليدوية وتحية بنادق الشرطة و....تحية مكانس عمال النظافة.

وبالمقابل قام القائدان بتأدية التحية العسكرية لأفراد الشرطة ولعمال النظافة في طريقهما إلى مقر السرايا.

وهكذا انتهى حفل الاستقبال، وتفرقت الجماهير، وعاد الطلاب إلى مدارسهم، وقام عمال النظافة بتسليم ثيابهم ' التنكرية' ووضعها على الرف على موعد مع حفل استقبال جديد.

إن الهدف من سرد هذا الحدث ليس فقط لطرافته وظرافتة وسرياليته، وإنما إضافة لذلك لأنه يحمل في ثناياه تعاسة أولئك المهمشين والمسحوقين في مدينة يافا، وفي كل أنحاء العالم، ومنهم عمال النظافة بثيابهم الممزقه وأقدامهم العارية الذين لم يلتفت إليهم التاريخ ولم يكتب عنهم.

فكتّاب التاريخ لا ينتمون لهذه الطبقات، وإنما لطبقات الأقوياء والأغنياء والحكام، وهذا ما حصل أيضا في تأريخ يافا. التاريخ الذي كتب هو تاريخ أغنياء يافا وجمال يافا وحضارة يافا وبرتقال يافا وقصور يافا، وليس تاريخ أولئك البؤساء من العمال المستغَلين من قبل رؤساء الأموال والحكام، وهم الذين عانوا من أجل لقمة العيش بعيدا عن البذخ والترف والحفلات الموسيقية والحفلات التنكرية والمدارس والتعليم والعناية الطبية في يافا.

تكفي صورة واحدة أو اثنتان لعمالة الأطفال من العتالين في بيارات يافا للتعبير عن هؤلاء البؤساء أبناء يافا، وللتذكير بالوجه الاخر، الوجه المُعاني الشعبي الجماهيري المنسي أو المتناسي من تاريخ يافا.

اقرأ أيضا: الوزارية للتشريع تناقش اقتراح قانون يمنع رفع الآذان في المساجد


إن مدينة يافا حتما ليست فقط 'مدينة الزهور' - يوسف هيكل، أو 'بيارة العطر والعشق' – سمير الحاج، أو 'عروس البحر ' – فخري جداي، أو القمر ' وجك ولا القمر ' – يوسف عصفور، أو مدينة للعشق ' رسالة عشق الى يافا ' – طاهر قليوبي. إنها كل ذلك، ولكن ذلك تاريخ منتقص! 

التعليقات