"الحلقة المفقودة": اكتشاف أول مقبرة فلستية في البلاد

اكتشفت سلطات الآثار الإسرائيلية، يوم أمس الأحد، أول مقبرة فلستية في أحد متنزهات عسقلان، ويقدر عمرها بنحو ثلاثة آلاف عام، ويعتبر الاكتشاف بمثابة "الحلقة المفقودة" في سلسلة بحث الحضارة الفلستية عن طريق آثارها

"الحلقة المفقودة": اكتشاف أول مقبرة فلستية في البلاد

اكتشفت بعثة حفريّات أميركيّة من جامعة إلينوي، يوم أمس الأحد، أول مقبرة فلستية في أحد متنزهات عسقلان، ويقدر عمرها بنحو ثلاثة آلاف عام، ويعتبر الاكتشاف بمثابة 'الحلقة المفقودة' في سلسلة بحث الحضارة الفلستية عن طريق آثارها، وليس وفق ما ورد في حضارات عاصرتها.

ويعد هذا الاكتشاف الأول من نوعه، لأنه تم اكتشاف عدد من القبور الفلستية الفردية في السابق، وليس مقبرة كاملة، واكتشاف المقبرة بمثابة 'الحلقة الضائعة' لبحث الحضارة الفلستيّة من خلال ما صنعته وخلفته بنفسها، وليس من خلال المصادر التاريخية لشعوب أو حضارات عاصرتها، كالحضارة المصرية.

وتمكنت مصر من التصدي للغزو الفلستي، وفق مصادر المصريين الذين يصورون أسرى فلستيين في معبد رعمسيس الثالث في مدينة هابو، ويعود النقش لنهاية الألفية الثانية قبل الميلاد.

 كذلك عاصرت الشعوب الكنعانية والقبائل البدوية التي سكنت جبال يهودا والسامرة، حقبة المدن الفلستية الخمسة الأهم اللاحقة للغزو، وهي عسقلان، أسدود، جت، عكرون وغزّة.

ولم يتم العثور حتى اليوم على الآثار الكافية للتمحيص والتعمق في حضارة هذه القبائل الطارئة على أرض كنعان، وتحديدًا على الساحل الجنوبيّ، إذ لم يتعدى ما وُجد بضعة قبور ومعابد وأبنية سكنيّة وبعض النقوش المعدودة غير المشفرّة.

 وكما هو معلوم، فإن مصدر المعلومات الرئيسيّ في علم الآثار في بحث الشعوب القديمة هو القبور، كونها تحفظ القطع الخزفية بشكل كامل، بما فيها من مخلّفات للأغذية المختلفة التي توضع مع الموتى في أحيان عدة للحياة المقبلة، وفقًا لإيمان حضارات قديمة عديدة، وأحيانا تحوي كتابات ونقوش وأقمشة ومعادن، بالإضافة إلى الحُليّ والأسلحة، ناهيك عن الهياكل العظمية ورفات الموتى.

وتعطي هذه المعطيات من خلال تحليلها كمًا هائلًا من المعلومات والمعرفة عن الحضارات القديمة، طرق الحياة وطقوس الموت، بما فيها الدفن أو الحرق إذا وجد، الحمية والأغذية السائدة آنذاك، ومعلومات عن التجارة من خلال تتبع مصادر القطع الخزفيّة والفخارية، معلومات عن العلاقة مع السكان المحليين من خلال فحص مدي تأثر الحضارة الفلستية بالحضارة الكنعانية في صناعة الأواني كمثال.

واليوم، للعلوم المختلفة دور كبير وضروري في استقصاء المعطيات والمعلومات من الآثار المكتشفة، سواء أكان ذلك في تحليل كيميائيّ لمخلفات المشروبات والأغذية في القطع الفخاريّة أو تحليل الجينوم لهياكل الموتى العظمية، والتي بإمكانها أن تدّل وتساعد في تتبع هجرة الشعوب البشرية عبر التاريخ، وفي مثل هذه الحالة يمكن معرفة مسقط رأس الفلستيين.

والفلستيين هم قبائل وشعوب من المرجح أنهم قدموا من منطقة بحر إيجة، تحديدا كريت (مسقط رأسهم ليس محل إجماع وما زال قيد البحث)، في الربع الأخير من الألفية الثانية قبل الميلاد، واستوطنوا الساحل الجنوبي لكنعان بعد أن احتلوا المدن واستقروا بها، مع الحفاظ على استقلالية سياسية وثقافية إلى حد ما، وما لبثوا أن اندمجوا ثقافيا ودينيًا وانصهروا في النسيج الكنعانيّ.

ومن الممكن أن يسبب هذا الاكتشاف العظيم والأول من نوعه إلى قفزة نوعية وكبيرة في بحث حضارة الفلستيين وتفاعلها مع الحضارات المجاورة لأوّل مرة بشكل دقيق وعلميّ، بعيدا عن الافتراضيات الظنيّة. ويعود الفضل بذلك للبعثة الحفرية من جامعة 'وينتون' في إيلينوي الأميركية، والتي بدأت في العام 1985، وقد تم التنقيب عن هذه المقبرة بسريّة تامة منذ اكتشافها قبل عامين خوفًا من تدخل جهات دينيّة يهودية لوقف التنقيب.

ومن المهم توضيح أن الشعب الفلسطيني لا ينحدر مباشرة من القبائل الفلستية، وهذا ما يعتقده كثيرون، فما يجمع الفلسطينيين اليوم بالفلستيين القدامى لا يتعدى الاسم الذي، وإن صح القول، فإن أقدم استعمال لاسم فلسطين كان في القرن الخامس قبل الميلاد، حين وصف المؤرخ اليوناني هيرودوس منطقة جنوب سورية بفلسطين ومن ثم تبنته الامبراطورية الرومانية في القرن الثاني للميلاد كالاسم الرسمي لمقاطعة يهودا والسامرة بعد خراب الهكيل الثاني، ربما نكاية باتباع الدين اليهودي، فلو استعمل الرومان اسم آخر لكان  الفلسطينيون يحملون ذلك الاسم.

ومعلوم لدينا اليوم عدم وجود جينوم 'طاهر' نحن كسكان لهذه البلاد، إذ نعتبر جينيًا على أننا نتاج لكل الشعوب التي مرّت مع تفاوت النسب، كذلك الأمر ثقافيًا، فالثقافة الفلسطينية الحديثة هي نتاج لكل الثقافات التي مرّت على هذه البلاد بتفاوت النسب بين الثقافة العربية الإسلامية، البيزنطية، الكنعانية، الفلستيّة وغيرها.

ولعل عدم المعرفة الكافية والوعي بتاريخ المنطقة الجغرافية التي نقطنها، وتاريخ كل الشعوب التي مرت فيها وساهمت ببناء الثقافة والهوية الفلسطينية التي نعرفها اليوم، هو نتيجة للاستعمار ومحاولاته المنهجيّة الهادفة لعدم ربط أي صلة بين الشعب الفلسطيني والشعوب القديمة التي قطنت فلسطين التاريخيّة أو جنوب سورية على امتداد التاريخ.

وهذا يحتّم على المختصين في علم الآثار والحضارات القديمة من أبناء الشعب الفلسطيني (وهم قلائل مع الأسف) مسؤولية نشر الوعي حول تاريخ بلادنا القديم كما يحتّم على أبناء شعبنا دراسة ذاتيه من مصادر أكاديميّة ذات مصداقية قدر الإمكان لعل هذا يعوض النقص الموجود في مناهجنا الدراسيّة تحديدًا كفلسطينيين بالداخل.


* متخصص في علم الآثار وحضارات الشرق القديم 

التعليقات