موسيقى الدولة العباسية

تعرف الدولة العباسية بأنها الحقبة التي حكمت خلالها سلالة العباس بن أبي طالب وهو عم الرسول وقد تلى حكمهم حكم الدولة الأموية بعد أن استطاعوا التغلب على آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد. قام العباسيون بالقضاء على سلالة الأمويين ليضمنوا عدم محاولة أي منهم الاستيلاء على الحكم مجددا إلا أن عبد الرحمن بن معاوية استطاع الهروب إلى المغرب العربي ومنه إلى الأندلس وأسس هناك لدولة الخلافة الأموية الثانية التي عاصرت الحكم العباسي.

قام العباسيون بقيادة أبي العباس السفاح باستغلال ضعف الخلفاء الأمويين الأواخر والتصنيفات الطبقية والقومية التي اعتمدوها في مراكز دولتهم واستحوذوا على الحكم في العام 750م وشهدت دولتهم حقبات ذهبية وخصوصا في عهد هارون الرشيد وولده الأمين وتعاقب من بعده الخلفاء والدسائس والمشاكل الداخلية حتى زوال هذه الدولة عام 1517 للميلاد.

يذكر أن العباسيين نقلوا عاصمة دولتهم من دمشق إلى الكوفة في العراق إلى أن أنشأوا بغداد التي كانت منارة الشرق الثقافية والحضارية والاجتماعية قبل أن يشيدوا بعد ذلك سامراء التي كان يطلق عليها "سر ما رأى" لشدة جمالها وعمرانها وتميزها بين المدن. وقد شهدت كافة أنواع الفنون والحركة الثقافية نهضة مشهودة لها في ذلك الزمان.

الموسيقى والغناء في العصر العباسي

حب الخلفاء العباسيين للموسيقى

يقال إن أبا خلدون وصف الموسيقى عند العرب بأنها قد بلغت تمامها في عصر الدولة العباسية. كيف لا وقد اشتهرت مجالس الطرب والغناء بين وجهاء الدولة وكبار القوم. وقد كانت بغداد خلال القرن التاسع للميلاد تعتبر منارة الفنون كنتيجة للرخاء والرفاه الذي شهده ذلك العصر في ظل الدولة العباسية.

ويذكر التاريخ أن الخلفاء العباسيين من دون استثناء تقريبا كانت تستهويهم الموسيقى والفنون الغنائية لدرجة أنهم أغدقوا العطاء على المغنين بمبالغ طائلة. إلا أن ذلك حفز الحركة الموسيقية وترجمة الأغاني والتدريب والتعليم الفني فجرى في ذلك الزمن وضع حجر الأساس للموسيقى النظرية التي تستمر آثارها إلى وقتنا الحالي.

امتزاج الأنواع الموسيقية في العصر العباسي

من غير المستبعد أن جمالية الموسيقى في عهد الدولة العباسية تعود إلى تمازج الثقافات الذي من الطبيعي أن ينتج عنه فنا رفيعا ومميزا. حيث كان مؤسس الدولة العباسية من عشاق غناء السلمك الذي يعود أصله إلى بلاد فارس. أما الخليفة المأمون ولد هارون الرشيد فقد كان من محبي الألحان الإغريقية مما استدعى المؤلفين الموسيقيين إلى تعلم هذا النوع من الغناء.

ويعرف عن هارون الرشيد أشهر الخلفاء العباسيين حبه للموسيقى وبذخه للمغنين الذين يستهويه صوتهم، كما يذكر أن عدة خلفاء عباسيين كانوا من أصحاب الحنجرة البارعة شخصيا مثل الخليفة الواثق بالله.

كان الاعتماد التام في الموسيقى العباسية على الآلات الموسيقية الوترية إلى أن أدخل السلاجقة والكرد الآلات النفخية فأخذت صيتا كبيرا لدرجة أن الآلات الوترية بدأ الاستغناء عنها. بالإضافة إلى ازدهار الجوانب النظرية للموسيقى في العصر العباسي فقد برزت أيضا دراسات عنها مثل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني الذي يعتبر ملخصا لتاريخ الغناء العربي منذ حقبات ما قبل الإسلام وحتى زمنه المعاصر في ظل الدولة العباسية.

أشهر المغنين في العصر العباسي

عبد الله بن دحمان والزبير بن دحمان

ارتبط اسم عبد الله بن دحمان الذي كان يطلق عليه اسم الأشقر المغني باسم أخيه الزبير الذي فاقه شهرة وهما من أشهر مغني العصر العباسي. اشتهر والد هذين المغنيين بصوته كذلك وكان رجلا ورعا كثير الصلاة وامتهن تعليم الغناء للمغنين وحتى للجواري وقد أغدق عليه الخليفة المهدي المكافآت والهدايا. أورث دحمان ولديه الزبير وعبد الله صوته الجميل وقدرته على الغناء فذاع صيتهما خصوصا أنهما كانا في بعض الأحيان يتنازلان في الغناء.

قمر البغدادية

يدل اسم هذه المغنية الشهيرة في العصر العباسي على نشأتها وأصلها وخصوصا أنها كانت تعبر عن حبها واشتياقها لبغداد في أغانيها. انتقلت قمر بعد ذياع صيتها إلى الأندلس بعد أن جرى شراؤها وهناك ظلت تغني لبغداد وتوفيت في إشبيلية ودفنت فيها.

إسحاق الموصلي

اسمه إسحاق بن إبراهيم بن ماهان وكان يطلق عليه أيضا اسم ميمون وقد اشتهر في عهد عدة خلفاء عباسيين هم هارون الرشيد وابنه المأمون وفي عهد كل من المعتصم والخليفة الواثق بالله والمتوكل.

تتلمذ هذا المغني في كل مناحي العلم والأدب وتعلم العزف على العود وأجاده وأبدع في الغناء ويعتبر أشهر المغنين العباسيين. ينسب بعض المؤرخين لهذا الملحن والمغني وضع المقامات الموسيقية والأوزان التي نستخدمها حتى يومنا هذا كما أنه كان شاعرا كبيرا يؤلف القصائد والموشحات التي يلحنها ويغنيها. كان الموصلي مقربا من عدة خلفاء عباسيين وقد عرف عنه عفته وعلمه الواسع حتى أن هارون الرشيد قال ذات مرة إنه لو لم يشتهر إسحاق الموصلي بالغناء والعزف لكان خير قاض لنزاهته وعدله وعلمه الواسع.

زرياب

ليس اسم زرياب إلا لقبا أطلقه عليه الناس لجمال وعذوبة صوته والزرياب اسم آخر لطائر الشحرور. يعود أصل هذا المغني الذي وصلت شهرته إلى زمننا المعاصر إلى مدينة الموصل واسمه الحقيقي هو أبو الحسن علي بن نافع وقد عاصر الخليفة هارون الرشيد بشكل أساسي.

كان زرياب أحد أفضل تلامذة المغني إسحاق الموصلي الذي كان من ندماء هارون الرشيد ومطربيه المفضلين. عندما قدم الموصلي تلميذه زرياب إلى الخليفة نال إعجابه الشديد وأكرمه وطلب أن يبقى في مجلسه ما دفع إسحاق الموصلي إلى الغيرة والانزعاج فقام بتهديد زرياب وأجبره على الخروج من بغداد.

تنقل زرياب في عدة مدن قبل أن يراسل الخليفة الأموي في الأندلس وينتقل إليها ويصبح من الحاضرين الدائمين في مجلس الخليفة عبد الرحمن الثاني وهناك أسس دار المدنيات وطور آلة العود ونقل معرفته الغنائية الشرقية كاملة إلى الأندلس.

بالإضافة إلى سعة علمه الموسيقي ينسب إلى هذا المغني والملحن أنه واضع علم الذوق العام وفنونه وهو ما يعرف في يومنا هذا بفن الإتيكيت الذي انتقل معه إلى الأندلس وانتشر منها إلى أوروبا والعالم وعاد إلينا كمنتج مغلف صنع في الخارج.