31/10/2010 - 11:02

دمعة ذات الابتسامة../ عفيف نمر حسين

-

دمعة ذات الابتسامة../ عفيف نمر حسين
بدت الشمس كالبرتقالة الضخمة في الشفق شرقً،ا وتراقصت أشعتها على صفحة مياه بحر الشمال، وكأنها تعلن لركاب السفينة الخروج رسميًا من دائرة الضباب الانجليزي.

ثبّتُ على ظهري الحقيبة التي يعتليها كيس نومي، وأدخلت الإبهامين تحت حزاميها عند الصدر، شددتهما إلى الأمام محكمًا وضعيتها وتأهبت لأكون أول النازلين إلى رصيف الميناء. حثثت السير متجاوزًا بوابة الخروج التي اعتلتها يافطة ترحّّب بالزوار القادمين إلى بلجيكا، وقفت على قارعة الطريق مقابل السفينة، انتظر السيارات ريثما تخرج توالية من جوفها.

شعرتُ بدفء الشمس الآتي من الخلف، اخترقت جسمي قشعريرة خفيفة، وتملكتني رغبةٌ ملحة لارتشاف فنجان" اسبرسو" بمقهىً في الطرف الآخر، استجمعت إرادتي لأحجم عن الفكرة رغم الأروما المغرية المنبعثة عبر الشارع، سوف أشرب فنجان قهوة عربية في بيت محمود. تذكرت قهوة أمي الصباحية.. "دخلك يمّا! الله يخليك، هالمرة بدي إياك تروح وتشوف لي ابن خالتك في ألمانيا".

تحسست قصاصة الورق التي عليها العنوان في جيب قميصي، جواز سفري لماضٍ لم أشهده. "كان ابن ثلاث سنين يا ولدي، من جيل اختك حورية، لمّن هجّوا ع َ لبنان".
أشرتُ بيمناي الممدودة باتجاه الشارع بهزات خفيفة ورسمت على وجهي ابتسامة فيها توسل.

السيارة الأولى، الثانية، الثالثة.. الرابعة... لو تدرون وجهتي والرسالة التي أحمل!! "لمِّن تشوفو كإني شفتو أنا وشفت كل أهلي، الله يرضى عليك يا حبيبي تروح وبوسو من هون ومن هون... وعلوّاه- يمّا، إن كان مش بعيد عليك تروح تشوف اولاد خالك محمد في كندا... قلبي زي النار عليهن، حبيبين قلبي..." السيارة الخامسة، السادسة، السابعة.. انتصب الإبهام إلى أقصى امتداد له وتحوّلت الهزات من توسلٍ ودود إلى إلحاح.

تكاثفت في السماء فجأة غيومٌ رمادية داكنة، حجبت أشعة الشمس وأنذرت بمطرٍ وشيك، "الله يحميك بحمايتو، يمّا، الأرض تنبعلّك والسما تنزلّك"... الاّ هدي يمّا! ليس الآن!

السيارة ما بعد العشرين.. رمقتني المرأة الجالسة بجانب السائق ورمتني بابتسامة خاطفة.. لاحقت بنظري السيارة المبتعدة، راجيًا أن يكون لتلك الابتسامة رصيد ما.. علا صوت محرّك السيارة التالية، حوّلت نظري إلى الأمام مستبدلاً قنوطي بأمل جديد.. "أكيد بدّو يعرفك ابن خالتك لما يشوفك، لأنك على لاحة خوالك".

أحقًا سيعرفني؟ اسيضمني إلى صدره ليشم رائحة فلسطين في ثنايا ثيابي؟ يقرأ في عينيّ هشيم الغضب واحتراق الأشواق؟
أم ترى سيقتصر استقباله لي على إبداء واجب بروتوكولي مصطنع، أمضي على إثره لحال سبيلي وليعود هو إلى نمط حياته الأوروبي الهادئ.
"بإمكانك أن تأتي معنا" جاءني صوت رجولي من الخلف، وعندما نظرت إليه متفاجئًا وممتنًا معًا، رأيت ذات الابتسامة منشغلة بنقل محتويات المقعد الخلفي إلى صندوق السيارة... "الله يسهّل عليك يمّا ويفتحها بوجهك ويبعتلك اولاد الحلال وبنات الحلال"...

بات حضورها قويًا لدرجةٍ أعفتني من بذل كبير جهدٍ لاستحضارها إلى وجداني، علّها تكون معي ونحن على بعد ساعاتٍ قليلة من لحظة اللقاء.
أطلّ عليّ السائق من مرآته الصغيرة ونحن ندخل الطريق السريع سائلاً:
"إلى أين وجهتك؟"
"إلى ألمانيا"
"أين بالتحديد في ألمانيا؟"
"الى Koln"
"نحن ايضًا ذاهبون الى koln"، قالت المرأة وهي تبتسم
"رائع.. شكرًا".
"الله يسهّل طريقك كيف ما درت وجهك يمّا، ويخلي طريقك خضرا"...
"هل تعرف أحدًا في koln؟" سألني الرجل.
"نعم، لي ابن خالة مقيم هناك".
"أحقًا؟!... متى كانت آخر مرة رأيته فيها؟"
"لم أره قط، ستكون هذه أول مرّة".
"أول مرّة؟!!"
ق
فزت من المرآة الصغيرة علامة استفهام كبيرة في حين أدارت المرأة رأسها بعد أن رمقت الرجل وسألتني وقد ازداد بياض عينيها الزرقاوين اتساعًا
"كيف ذلك؟"
"طُرد مع من شُرّدوا في سنة 1948، عندما كان عمره ثلاث سنوات، تحولّوا إلى لاجئين عبر الحدود في لبنان"
"ولم.. لم تره منذ ذلك الحين؟"
"سلبهم المحتلون حق العودة".
"تقصد إسرائيل".
"نعم".

سهم الزوج وخيم صمت ثقيل للحظات، تخللته أصوات السيارات العابرة وصفير الهواء، امتزجت بانسجام عشوائي لترقى إلى ما يشبه موسيقى جنائزية تواكب تغريبة المأساة الفلسطينية التي حطت على رؤوسهما كالعنقاء.

تبادل رفيقاي حديثًا قصيرًا بالألمانية، اقترحا على أثره أن يأخذاني إلى عنوان ابن خالتي...

عند وصولنا، سألاني إن كان بالإمكان مرافقتي إلى الداخل.. هل هو تعاطف؟ أم ترى فضول لحضور المشهد الأخير للدراما الماثلة للاكتمال، حين يلتقي هذا المسافر الجوال ابن خالته الذي لا يعرفه في بلادٍ بعيدة؟!
تسارعت دقات قلبي باضطراب وأنا أدقُّ الباب، نقرات خفيفة مترددة. مَثُل أمامي وجه امرأة بشوش.

-"أنا ابن خالته لمحمود من شفاعمرو".
-"أهلاً وسهلاً، تفضلوا" قالت مرحبة، وهي تكمل فتح الباب وتتنحى جانبًا لأجد نفسي وجهًا لوجه أمام محمود... ملامحه بدت مألوفة رغم أنني أراه لأول مرّة، مسحة حزن في عينيه ونظرة أبوية امتزج فيها الشجى والشجن وكأنه يدرك ما حُمّلتُ به من مشاعر تواقة، عجز الكلام الإفصاح عنها، وما قويت النفس على كتمها... وعندما أخذني بين ذراعيه، فاضت بكاءً مريرًا، وإن تدفّق من مُقلتي فإنما مصدره قلب أمي المكسور، فاض على كتف محمود حنينًا إلى أهلها في الشتات.

كدت أنسى صديقيّ الألمانيين وأنا في بوتقة اللقاء وعندما أدرتُ وجهي إليهما بغية تعريفهما على محمود وعائلته، لمحت بريقًا لدمعتين تتبلوران في عيني ذات الابتسامة.

التعليقات