31/10/2010 - 11:02

عزيزي ممدوح/ زياد منى

-

عزيزي ممدوح/ زياد منى
أعذرني للتأخر في الكتابة إليك لكني، وكما ربما تعرف، أفضِّل الحديث المباشر.

وحيث إني بحثت عنك طوال الأربعين يومًا الماضية، من دون جدوى، أذنت لنفسي مخاطبتك عن هذا الطريق.

لقد بحثت عنك في كل مكان . . .

في الأصدقاء المشتركين الذين كنا نلتقيهم في السنتين الماضيتين . . .

في كرام القوام الذين شرفتني بتقديمي إليهم منذ أن حضرت إلى هذا البلد الجميل وأقمت بين شعبه الطيب . . .

في زوايا المدينة وطرقاتها التي مشيناها سوية، عندما تسنى لنا عمل ذلك . . .

لكنني لم ألتقيك.

طوال الأربعين يومًا الماضية بحثت عنك لنستأنف سهراتنا وحواراتنا ونقاشاتنا التي لم تتوقف يومًا، بل ازدادت عنفوانًا وحيوية وقصدية منذ أن هاجمك ذلك المرض القاتل . . .

وفي كل مرة كنت أسأل فيها الأصدقاء عنك، كانوا يدعون بأنك غادرتنا ورحلت إلى حيث ليس بإمكان أي مخلوق أن يلحق بك أذى.

لم أصدق ذلك، وما زلت لا أصدق أنني أصبحت وحيدًا . . .

أني فقدت الصديق العزيز الذي تعلمت منه الكثير، مع أنك لم تحاول يومًا ممارسة دور المعلم.

ولأني لا أصدق أنك غبت عنا، أيها الصديق الزميل الكاتب الأديب الشاعر المترجم المسرحي العالم الإنسان الكبير، ولأن البحث عنك قد أعياني هاأنا أجلس لأخط لك هذه الأسطر القليلة، في رسالة أنشرها في الصحافة لعل من يلتقيك يبلغك بأنني مازلت أبحث عنك لأدعوك لاستئناف جلساتنا وسهراتنا وحواراتنا.

ولأني لا أصدق بأنك رحلت عنا، سوف لن أستذكر لقائنا الأول يوم أتيتُ إلى دمشق حاملاً رسالة لك من زميل، وكيف تحول ذلك اللقاء المصادفة إلى علاقة حميمية بيننا أساسها المحبة والاحترام.

ولأنني غير مقتنع بأنك فعلاً رحلت فسوف لن أتذكر بأن الفضل يعود إليك في تقديمي إلى الشعر العربي عندما حضرت معك تلك الأمسية في المركز الثقافي الفرنسي، عندما قرأتَ شعركَ فصرت منذ تلك اللحظة أعشق سماع الشعر وقراءته . . .

سوف لن أقول هذا لأنك تعرفه ولأني قلته لك من قبل، أو ربما كنتُ رددته بحضورك، يومًا ما.

ولأني مازلت لا أصدق أنك رحلت، فلن أذكر أول عمل مشترك بيننا عندما شرّفت قدمس بالموافقة على ترجمة كتاب كيث وايتلام عن تلفيق "إسرائيل" التوراتية وطمس التاريخ الفلسطيني، وعندما شرفتها أيضًا بإدارة ندوة المؤلف في المركز الثقافي بالمزة. وعندما شرفتها بنشر كتابات لاحقة، وبنشر آخر ديوان لك.

المحطات التي جمعتنا، أيها الغائب أكثر من أن تحصر في صفحة أو اثنتين، أو في ذكرى واحدة أو أكثر، أو في جملة أو كتاب. المحطات التي جمعتنا، عزيزي ممدوح، كثيرة، بكثرة نجوم السماء، وبسطوعها. فكيفما أنظر أراك . . . ولأنك محيط بي من كل جانب، فكيف بالله أصدق أنك رحلتَ وتركتنا، نحن أصحابك ومحبيك؟.

حسنًا، ولأنك لم تظهر منذ فترة، سأحدثك عن أمور قد يكون فاتك الانتباه إليها في غيبتك.

العالم، يا ممدوح ما زال كما هو . . . الشمس تشرق من الشرق وتستريح في الغرب، فقط لكي تعود إلى الشرق الذي لم تفقد أنت يومًا إيمانك به وبقدراته، مع كل النوائب والمصائب التي صارت لازمتنا في هذه الأيام.

الأمور في بلادنا ما تزال كما هي . . . العراقيون يناضلون ضد الاحتلال، وكذلك أخوانك الفلسطينيون، رغم الانكسارات الكثيرة التي تواجههم.

الفقراء، الذين انحزت أنتَ إليهم، مازالوا فقراءً يعانون، والأغنياء النهمين الذين لا يشبعون مازالوا يلاحقون الفقراء لكي ينتزعوا منهم ما بحوزتهم من كسيرات. والطغاة مازالوا كما هم، والمظلومين مازالوا يعانون.

والكتّاب ما زالوا يكتبون، مع أني لاحظت في الآونة الأخيرة أنهم خصصوا مساحات كبيرة للكتابة عنك. ولأني كنت ألاحقك في محطات كثيرة، بعد أن أعياني البحث عنك في الأمكنة التي كنا نلتقي فيها عادة، صرت أقرأ صحف ومجلات، مطبوعة وافتراضية، لم أكن أعلم بوجود كثير منها.

هل تعلم علام عثرت؟.

عثرت على مئات المقالات التي تتحدث عنك، شاعرًا ومسرحيًا وأديبًا ومترجمًا . . . وقبل كل شيئ إنسانًا . . .

صحيح أن قلة قليلة انتهزت انتشار إشاعة رحيلك عن هذا العالم لكي تظهر . . .

وصحيح أن البعض (ممن لم يكن يتكنس من حضرتك ثم لم يزرك في فترة مرضك، كما قلت أنت في لقاء تلفزيوني) انتهز الفرصة للكتابة عنك فقط تقربًا وزلفى من هذا العالم الذي وقف لك . . .

وصحيح أن آخرين كتبوا عنك رفع عتب ليس غير،

أو انتهز الفرصة لتصفية حسابات شخصية على حساب ذكراك،

لكن غالبية من كتبوا عنك، ظنًا منهم بأنك رحلت، فعلوا ذلك لأنهم يحبوك ولأنهم يحترموا ما قدمته للساحة الثقافية العربية . . . لأن كمَّ العطاء الذي قدمته إلى الآن يحتاج من غيرك إلى مؤسسة . . . لقد أدركوا أنك مؤسسة قائمة بذاتها، ولهذا احترموك وأحبوك . . .

أحبوك لأنك لم تنافق يومًا ولأنك كنت دومًا منحازًا إلى جانب الفقراء والضعفاء والمظلومين.

أحبوا فيك المقدرة والموهبة وتعددهما، واحترموها،

وأحبوا فيك التواضع الحقيقي الأصيل.

ولأنك اختفيت عن أعيننا ولم أعثر عليك في الأمكنة التي كنا نرتادها سوية، ربما قد يكون فاتك أن ترى قيرون ودير ماما أخيرًا . . .

لقد خرجت القريتان عن بكرة أبيهما، برجالها ونسائها، بمسنيها وأطفالها، في مسيرة صامتة حزينة يتخللها بكاء وقور، لتسلم عليك يوم قيل إنك عدت إليهما قبل أربعين يومًا . . .

ومع أهل القريتين خرج كثير من أصدقائك وأحبائك الذين أتوا إلى القريتين، يبكون في صمت، ظنًا منهم أنك فعلاً قد ذهبت في رحلة في اتجاه واحد.

ومع أني رأيت هذا كله، ومع أن كثير من الأصدقاء المشتركين يؤكدون الأمر،

ومع أني أرى مقعدك في صالة الجلوس في منزلك خاليًا، إلا أني أحتفظ بحقي في عدم تصديق الإشاعة بأنك رحلت!.

لقد ترافقنا كثيرًا منذ أن حططت رحالي في هذه البلاد،

وترافقنا على نحو أكثر كثافة وعمقًا منذ يوم علمنا بالخبر المفجع عن المرض،

لكني لم أسمع منك يومًا تأوهًا أو تألم . . .

كنت أعجب من هذا المرض الذي "لا يؤلم" . . .

كنت أنتظر أن أسمع "منك" العوارض المرافقة له . . .

لكنك كنت أكبر منه، فلم تتأوه ولا شكوتَ . . .

يا إلهي يا ممدوح كم كنتَ كبيرًا . . . أكبر من المرض ومن الألم.

ولأنني لم أسمع يومًا شكواك من ذلك المرض اللعين،

ولأنني أراك كل يوم،

في عيون الأصدقاء المشتركين،

وفي المسرحيات التي ألّفتها،

وفي الكتب التي ترجمتها،

وفي الأشعار التي نظمتها،

وفي الكتب التي كتبتها،

في عيون الأجيال التي علّمتها والتي تفتقدك،

في ضحكتك المحيطة بنا حيثما نكون،

ولهذا كله، ولغيره من الأسباب، ما زلت لا أصدق أنك رحلت وأشعر بك قريب منا جميعًا نحن أصدقائك ومحبيك،

ولن أصدق،

فأنتَ باق في إلهام وزياد ومروان

وفي كل من أحبك وأحببتَه.



زياد منى
دمشق في 28 كانون الثاني 2005 م

التعليقات