31/10/2010 - 11:02

محمود درويش بين قصيدتين، بين زمنين / امجد ناصر

محمود درويش بين قصيدتين، بين زمنين / امجد ناصر
ألقي محمود درويش في مهرجان جرش الأخيرة قصيدة جديدة لم تنشر في كتاب بعد بعنوان طباق تبدأ بأول لقاء بين الشاعر وادوارد سعيد في نيويورك قبل ثلاثين عاماً، وتنتهي كذلك بلقائهما الأخير في نيويورك وكان سعيد يقاوم حرب سدوم علي أهل بابل والسرطان معاً علي حد تعبير درويش.
لأسباب شخصية ومعرفية استدعت طباق عندي قصيدة قديمة لمحمود درويش بعنوان كان ما سوف يكون (ديوان أعراس 1977) كرسها لذكري صديقه الشاعر الفلسطيني الراحل راشد حسين وتتخذ هي أيضاً من نيويورك مسرحاً لها.
أوجه الشبه التي لاحت لي بين القصيدتين هي التي أغرتني للوقوف علي المشترك والمختلف ليس فقط بين القصيدتين والشخصين المحوريين فيهما، بل الزمنين والخطابين الشعريين اللذين يتخللانهما ويعتملان في متنيهما.
أول وجه شبه بين القصيدتين يبدأ من اسم علم: الشارع الخامس في نيويورك.
الثاني: القصيدتان مكرستان لصديقين فلسطينيين منفيين قضيا في نيويورك.
الثالث: ان نيويورك التي تدور فيها القصيدتان تظهر لمحاً، ومعطوفة علي الشخصين المحوريين، ولا تغادر نعتها السلبي الاّ عندما يتعلق الأمر بادوارد سعيد، شخصياً، فهنا تصير مكاناً محايداً، بلا نعت تقريباً.
فلم تكن، علي ما يبدو، إقامة الرجلين في نيويورك واحدة. ففي حين ان راشد حسين لا يري زمانه ولا مكانه، ولا حتي بدنه، فيها، يبدو ادوارد سعيد أكثر سيطرة علي المجال وتمكناً منه.
إلي هنا تنتهي أوجه الشبه التي تطفو علي سطح القصيدتين ليبدأ المختلف.
دعونا نري راشد حسين في نيويورك. فالصوت الذي يقول في كان ما سوف يكون : أشتهي أن انتهي،
لا أحلم الآن بغير الانسجام
اشتهي أو انتهي،
لا
ليس هذا زمني ليس صوت محمود درويش.
انه صوت راشد حسين المقذوف في زمن ومكان ليسا زمنه ومكانه.
فإذا لم يكن الزمان والمكان الحاضران (السبعينات، نيويورك) هما زمان ومكان راشد حسين، فأين هما يا تري؟
إنهما في الماضي المشترك بين الشاعرين الصديقين: في مطعم خريستو الذي كان يرمي فيه حسين شعره، في عكا التي تصحو من النوم وتمشي في المياه .
في مكان الخطوة الأولي، أرض الحلم، الريح المواتية، الذراع المعانقة.. وحتي في سجن الناصرة الذي يتمني أن يكون طليقاً وراء أسواره!
تلك هي الكينونة الحقيقية، التحقق الأكيد، الوجود الفاعل (الشعر، النضال).. ما عدا ذلك ليس الزمن زمناً ولا المكان مكاناً.
حتي الشعر الذي يعطي هذين الزمان والمكان قوامهما، كثافتهما، لا يتنزل برحماته أو لعناته عليه.
شاعر القصيدة (درويش) يقول لنا عن حسين انه لم ينشر سوي جزأين من أشعاره الأولي وأعطانا البقية ، فالشعر لم يعد يحط علي القلب بعد أن ابتعدت يافا.
في نيويورك، وفي القاهرة (مسرح آخر للقصيدة) يعاود الماضي حضوره. انه الشيء الوحيد المشترك، الآن، بين الصديقين اللذين تباعدت خياراتهما.. وتغيرا.
راشد حسين، كما يصوره درويش، يلح علي الماضي.. وعندما يلمح تراخياً في نظرات صديقه إليه يبكي.. ويسأله:
هل تغيرتَ؟
ـ تغيَّرتُ. ولم تذهب حياتي عبثاً .
التغير يقع. لكنه ليس تغيراً نحو الأسوأ عند درويش. ان خياره (لنقل ما لم يقله النص: خروجه من الأرض المحتلة) لم يكن بلا طائل.
ثم تنتهي القصيدة بـ الموتيفة الساحرة التي تعمق بعدها الغنائي المشحون:
كان ما سوف يكون
فضحته السنبله
ثم أهدته السنونو لعيون القتله .
لا شيء في رحلتنا هذه مع راشد حسين يمكن أن يجد له قاسماً مشتركاً مع ادوارد سعيد.
لا درويش الشاعر والانسان الذي كتب كان ما سوف يكون قبل قرابة ثلاثين عاماً هو نفسه درويش اليوم، ولا علاقته بادوارد سعيد هي نفس علاقته براشد حسين.. رغم أن نيويورك لا تتغير في القصيدتين كثيراً.
فما الفرق بين التابوت وباب الهاوية الكهربائية التي بعلو السماء؟
اولي الفروق بين القصيدتين تبدأ من غياب الماضي المشترك بين درويش وسعيد.
صحيح ان الاثنين فلسطينيان. ولكن لا ماضي فلسطينياً شخصياً يربط بينهما. انهما يلتقيان علي فلسطين الفكرة.
فلا حيفا ولا يافا ولا الناصرة ولا الأم التي ستقول آه تظهر في طباق . فهما لم يمشيا علي ساحل فلسطين ولم يخطرا شابين في الجليل .. ولم يسجنا في الناصرة.
قد يحضر الماضي في طباق لكنه ليس ماضياً شخصياً. انه ماضي الجماعة علي ما يبدو:
إذا كان ماضيك تجربة
فاجعل الغد معني ورؤيا.
لنذهب
لنذهب
إلي غدنا واثقين،
بصدق الخيال ومعجزة العشب .
الغد هو الذي له ثقل في طباق .. أو في الأقل في مستهلها عندما يلتقي درويش بادوارد قبل ثلاثين عاماً. وهو غد مسلح بالخيال لا يذخر من الماضي إلاّ التجربة .. التي تحيل، عندي إلي العام وليس الخاص.
الغد، الفجر، الريح، البوصلة، الأمام، الربيع، السنونوة، البشارة مفردات تتكرر في طباق لتصنع فارقاً بين رؤيتين وشخصين: رؤية راشد حسين الشعرية المتشائمة المتكئة بثقل علي حجر الذكريات في كان ما سوف يكون ، ورؤية ادوار سعيد المفكر، العقلاني، المتفائل بالارادة والقادم، المؤمن بجدوي الفعل في الراهن.. لينبلج الغد من رحمه الهش.
ادوارد سعيد غير راشد حسين الذي يبدو وجهه شاحباً كشمس نيويورك، يدخن ويرمي سيجارته في كبد الشاعر ويشتهي أن ينتهي.
سعيد يصرخ بالفجر بعد أن يلعب التنس ويختار بدلته بأناقة ديك.. ويشرب قهوته بالحليب :
لا تتلكأ.
كما أن موضوع الهوية مغاير.
راشد حسين يعرف أن هويته هناك (فلسطين)، بينما لا يستطيع ادوارد سعيد أن يحدد هويته. إنها هوية ملتبسة: أنا من هناك، أنا من هنا ولست هناك ولست هنا .
إنه الفلسطيني الذي صار المنفي جزءاً لا يتجزأ من هويته. المنفي، عند الفلسطيني، هوية يعرّف بها.
فلا يمكن تعريف الفلسطيني أو حتي فهمه من دون معرفة سؤال المنفي.
المنفي، الهوية الواضحة الملتبسة، الحق، القوة، الواقع والاسطورة هي من أبرز مكونات أعمال درويش الأخيرة ولا تشذُ عنها طباق .
لكن اللافت في هذه القصيدة هو تقنية الحوار التي يعتمدها درويش لاستنطاق حياة المنفيِّ وتمزقاته الوجودية والفكرية بين الهنا و الهناك ، بحيث أن صوت الشاعر يكاد أن يكون أخفّ الأصوات.
ولهذا، عندي، سبب.
ففي هذا الحاضر الخفيف، إن لم يكن الركيك، لم يعد درويش، نفسه، واثقاً ان هناك شيئاً صلباً وراسخاً.
كل شيء، رجراج.
الصلابة فكرة وليست حياة.
هي ذي العلاقة المعقدة بين الشعر وزمنه.

التعليقات