31/10/2010 - 11:02

"ومِنْ غير شَرّ الدّار قَفْرَه والمزَارْ بْعيِد"/ بقلم: آصف قزموز

ولما أنهى جولته في فلسطين، وغادر العم سام مطمئناً على الحرية والأمن العام بعد أن استمتع بمناظرها الخلاّبة المرهونة تحت رحمة دبابة. وشنّف أذنيه بأزيز الطائرات وهدير الدبابات والمجنزرات التي لم ترحم طفلاً جائعاً ولا شيخاً تجاوز العقد السابع، بعدما جفّت في بلادنا المآقي والمنابع. وأصبحنا لا حول لنا ولا قوة، أمام غطرسة الاحتلال ومنطق الفتوّة. فأسدل الستار على فصلٍ من فصول المجزرة، ليطلب الفلسطينيون نظرةً إلى مَيْسَره في عهد الحكام والنُّظُم المستهترة، معلناً وفاة حق العودة وقيام السلام عالي الجودة.


وفي أحد الأيام، وبينما كان أبو فايك يتناكف مع أم فايك كالعادة، وبيتناقشان بموضوع العم سام ونواياه الحميدة القديمة منها والجديدة. قالت أم فايك: سايك عليك اللّه يا رجّال اتدشرك من هاللّي داير عليه، وتنتبه لصحتك، بَلْكي نْقَضّي تالي هالعمر إحنا وياك على خير. مَهُو أنا وحياتك شايفه كل اللّي إنتِ شايفه وأزود. ولاّ مفكّرني هَبْلَه عشان بعرفش أقرا ولا أكتب؟ ومن غير شرّ الدار قَفْرَه والمزار بعيد، وما عادِش في شي حرزان بها الدنيا، وكلّها لـ اللّه.


ورد أبو فايك: أنا نفسي أفهم ليش بيصير معي هيك. معقول كل الناس زيّي متبهدلين؟! بَضرُبها يمين بتروح شمال بَضرُبها شمال بتروح يمين، وينْفَلْقَت حالها وضربنا القرد بتيجي في العارضه، اللّي بتحطوا بحضنك بنتفلك لحيتك واللّي بتحطوا على راسك بِيشُخ عليك، يعني لا زَيّنا زَيّ ولا أيّنا أيّ. اللّه وكيلِك يا أم فايك، كل ما أنوي أشِدِّلكم فرشه ببيع اللحاف. هاي هو أنا طرزان؟! شو بدّي أحمل تا أحمل وِلاّ أوسع تا أوسع؟ (يا اللّه محنا متعودين طول عمرنا بنيجي واسعين من دار أهلنا). ولِك بعدين؟! أَقِدّ برقبتي حَصيره؟! مِشْ قادر أتحمَّل، أنا اللّي مجنّني إنو ما حَلِّشْ إلنا نفهم لليوم بعد كل هاللّي جرى وصار فينا، وبعد ما الْتَعَنْ سنسفيل سنسفيلنا من يوم النكبة لليوم، إنّو ما حدا بعطينا نَعِجْتُه بدون دور إلاّ منشان يوخذ منا الجمل والثور؟!


إم فايك: وبعدين يا أبو فايك، بدناش نخلص من هالسّيره؟! إنت بدّك تظل حامِمْ بالَك وبالنا وماكتنا عالطلعه وعالنزله وكل ما دقّ الكوز بالجرّه؟! يَزَلمِه جاه اللّه عليك تِنتبه لصحتك خلّينا نعيّش هالولاد، بقدينا اللّي فينا. وبعدين هاي شغلتنا طويله معهم.


أبو فايك: مخاطباً نفسه: (يا محلا شغلتنا معاهم، المشكلة اليوم مع جماعتنا الحافظ اللّه) ثم يتابع قائلاً: يا بنت الحلال أنا مِشْ زعلان عاللّي صار إلنا. ماني عارف إنا أكلنا هوا وصرنا عالحميد المجيد وبيتجوز علينا الفُطْرَه. بَس اللّي مزعلني وحارق قلبي، إنّو العُربان مبسوطين على حالهم زي الفرحان بْعزا أبوه، ومفكرين هالمساعدات اللّي بوخذوها بيعطوهم إياها لَسَواد عيونهم، وِلاّ لإِنّو مقطوع صنفهم ومِشْ لاقيين حدا يعطوه مصاريهم. يا مَرَهْ صدقيني لو خروف عِرِف إنّو اللّي قاعدين بيسمْنوه وبيطعموا فيه ناويين يذبحوه لأضرب عن الأكل فوراً. لكن شو بِدِّك تقولي بها الأمّه. على كلّ حال، اللّه لا يقيمهم ولا يشيل عن قلبهم شِدّه. هو إحنا أخبر من اللّه إللّي مْسَخِّرهم خرفان لغيرهم. أقولِّك، أنا قرّرت أروح زياره سياحيه على أميركا، بدّي أغيّر جوّ وأشوف الحريه والديمقراطيه اللّي في بلادهم زَيْ اللّي بيصدّروها لبلادنا وِلاّ غير عنها.


إم فايك: عَزَا بدار أهلك يا مشحّر. هو معانا نوكل تا تروح تشمّ هوا على أميركا. مَهي طول عمرها معروفه أكل الهوا إلنا يا هالمعثّرين وشمِّت الهوا للمسعدين اللّي اللّه ميخذ منا وعاطيهم.


أبو فايك: وْكَسْرِ الْهَا وْعَقْدِ الميم، لو بَبيع الجحش وبَشْحَد عابواب الجوامع لأروح هالرِّحله. وَلِك هو المبلول بيخاف من رشق المطر؟َ إنشا اللّه ما حدا حوّش ولا لوّش. وبعدين بلا ما يسجلوا الأفنديه ولادِك صيفي هاي السنه، ويتخرجوا بزيادة سنه، مِلِحقين عالقعده في البيت، يعني هو الشغل ضارب طنابو في بلادنا؟! وِلاّ العرب بدهم يطردوا لِهنود والباكستانيين ويشغلوهم مكانهم؟! تفتحينيش وخلّْيني ساكت، تَراني مِسْتحبِس وبَلعب بدمي، وأحسن إلي وإلك أروح ها المشوار بَلكي عاللّه بتتغيّر نفسيتي شوي. يعني بِدِّك أنجلط وأنا قاعد قبالِك؟! (وأجهش أبو فايك في البكاء لما ناله من سوء الأحوال وما وصلت إليه الأمور في زمانه الغادر الغابر، والجائر على شعبٍ صابرين ...)


إم فايك: وحّد اللّه يا أبو فايك. إنت رجّال وسيد الرجال. السّبله الفاضيه هي اللّي بيتظلّ مْعَنِعْني لفوق هاي الأيام، بَسْ السّبله المليانه بيتظلّ متواضعه وحانيه راسها لتحت تبوس الأرض اللّي قاعده بتروح قدام عنينا وعينين العالم كله. وِحْيات عينك يا غالي لو بنبيع ولد من لِولاد إلاّ بمشيئة اللّه تسافر مجبور الخاطر ومرفوع الراس، غصبٍ عن المليح قبل العاطل. هذا دولاب وبيدور وآخِرتُه بيوصلنا الدور إنْ اللّه راد.


أبو فايك: كل الناس بيدور الدولاب وبيوصلها الدور، إلاّ إحنا بيدور الدولاب وِبْيُهْرسنا تحت سنانه. مَهُو إللّي ما إلُو حظ، يا بيطلَع إلُو عظمه في الكرشه يا بيعُضُّو الكلب في المولِد. وعيش يا كديش.


اجتمعت أسرة أبو فايك بكامل أعضائها، وما أن أحست المستوره أم فايك في الحشرجه تلتهم صوت أبو فايك، حتى انبرت من فورها مقاطعة أبو فايك لتعلن للأولاد قرار سفر والدهم والمستحقات التابعة لذلك. وسرعان ما أخفى الأولاد خيبة أملهم بضياع فصل دراسي كان سيقربهم خطوة من خشبة الخلاص، وحزنهم لحال أبيهم الذي سيستأنس بخازوق ثالث فيصبح أمام ثلاثة أقساط في آنٍ واحد بدلاً من قسطين، لأن الإبنة الوحيدة فايكَه ستدخل الجامعة إذا اللّه وفقها بالتوجيهي.


وبعد أن تَهَامَسْ فايك مع أخيه رايك قال: إحنا يابا مقدّرين الحِمِل اللّي عليك والضغط اللّي إنتِ فيه، وكلّ اللّي بدنا إياه إنك ترتاح وتريّح أعصابك من هموم الدنيا. لذلك خُذ القرض اللّي جيبْتُه علشان أقساطنا، اتصرّف فيه ورُوح رحلتك وما تخلّي ببالك شي. وبالنسبة إلنا، لا إحنا مستعجلين ولا الجامعه بدها تْسَكِّر.


فايكه: وأنا يابا درست ليل نهار علشان أجيب معدّل عالي، بَلْكِي يساعدنا بتخفيف الأقساط أو يصح إلنا إعفاء إذا بتعرفلك حدا من أصحابك.


نامق (الصغير): بَطِّلْني يابا من المدرسه عشان أشتغل وأساعدك منشان يكملوا أخوتي الجامعه.


فايكه:إسكت إنتي دير بالك على دروسك وما دخلك بهاي المواضيع.


أم فايك: اللّه يرضى عليكم يمّا، أنا برضُه هيك توقعت منكم، لأني الحمد للّه ربيت وبعرف شو ربيت. وإنتو عارفين أبوكم، هذيك السنه راح ما يِنْطَخ عشان رفض يوخذ رشوه ويمشّي معاملات مزوّره للحراميه وولاد الحرام، لكن اللّي لَطَفْ فينا وفيكم خلّي أبوكم يسافر هالمشوار. يمّا بَلاش يِفْكَع وِلاّ يِجْرَى له مجرى.


أبو فايك: الحمد للّه يابا إني شفتكم زلام وبتوقفوا معاي بمحنتي. لكن خلّيني أشوف بَلكي تكسبوا هالثلاث تِشْهُر وتشتغلولكم شغله والشُّغل يابا مِشْ عيب، شو ما كانت شهادتك وشو ما عِلي مركزك لانُّو بدون عمل ما في حياة.


اتصل أبو فايك مع صديق صاحب مصنع ألبان وعرض عليه طلبه بتشغيل الأولاد خلال فترة الصيف، مدعياً أنه يريد أن يكسبوا خبره في معترك الحياه العمليه والحسّ بالمسؤوليه. ووافق صاحب المصنع بعد أن شرح لأبو فايك عدم حاجة المصنع لهم لكثرة العمّال الذين يطلبون العمل وكساد المنتوج بسبب الإغراق الذي تمارسه المصانع الإسرائيليه على السوق الفلسطينيه. ثم بدأ أبو فايك يحضر نفسه للسفر، فتوجه لتقديم طلب التأشيرة للحصول على فيزا آملين إن شاء اللّه أن يحظى بالرضى والرضوان والموافقة قبل فوات الأوان.

التعليقات