04/04/2011 - 15:23

قوقعة../ بيروت حمّود

بدت لها الدبابة مثل غوريلا ضخم يضرب على صدره ويتوعد، أما الجنود فقد ذكرها منظرهم بالخلد حينما ارتفعت رشاشاتهم ورؤوسهم من سقف الدبابة يحاولون تفحص المكان ورصد أعداد المتظاهرين

قوقعة../ بيروت حمّود

لسبب ما؛ قد يكون فرحًا داخليًا ضاربًا جذوره في أعماقها البدائية وجدت نفسها ترد له ابتسامة خارجة عن طوعها، وراحت الابتسامة تلاحق السيارة والشبان الذين حجز كل منهم مكانًا له على ظهرها كيفما اتفق.

الابتسامة تكبر، يكبر معها فرحًا عصيًا على الفهم والإدراك فرحًا معجونًا بالحماس والغضب الثوري، تذوب على وجهها فتشعر بوجنتيّها تمتد وتتقلص، تخفض رأسها تبتلع ريقها لأن حلقها بدأ يلح عليها بالصمت والألم. عاودت الكرة فلم تنجح في استرجاع صوتها. تأخذ قرارًا بينها وبين نفسها - قرارًا لا رجعة فيه تحت أي ظرف كان، أن تطلب ماءً من أحدهم.. تمدها صبية- كانت قد كتبت على وجهها "إذا الشعب يومًا أراد الحياة..."، بقنينة ماء، ترتشف منها حتى تسترجع صوتها ثم تعيد القنينة لصبية.

يعلو الصراخ حولها، ترتفع الأيادي. ما نهاب ما نهاب الهدم هو الإرهاب-كأن الصوت الذي اندفع من مكبر الصوت أراد تذكير الحشد البشري بأنهم يتظاهرون لأجل البيوت التي قضت أوامر الهدم في اللد وغيرها، بهدمها.

"دبابات ما نهاب الدبابات" يصرخ شاب من خلال مكبر الصوت. دبابات ما نهاب الدبابات يَردُ المتظاهرون. "جرافات ما نهاب الجرافات"، يرتفع صوت الشاب من خلال مكبر الصوت. جرافات ما نهاب الجرافات، يرد المتظاهرون. اسأل عنا في الأغوار واسأل عنا جبل النار يقول الشاب عبر مكبر الصوت. اسأل عنا في الأغوار واسأل عنا جبل النار، يرد المتظاهرون.

تشتم رائحة حريق، رائحة إطارات محروقة، تبحث عن مصدر الرائحة تدير رأسها إلى هذه الناحية ثم إلى تلك لا تجد دخانًا. الكُل حولها مشغولون بالمستوطنين والشرطة والوحدات الخاصة التي أحاطت المكان، المتظاهرون يصرخون، مكبر الصوت يصرخ، المرأة ذات الشعر الأسود التي لم تعرف كيف وجدت لها مكانًا على ظهر السيارة تشرح كيف أن دائرة التنظيم تعطي اليهود الأرض بسبعة شواقل بينما تأخذها عنوة من العرب. لا أحد يدعها تكمل شرحها إذ يعلو الصراخ، يظل يعلو، يشتد.. متر، خطوتان، خطوه بينهم وبين الشرطة الإسرائيلية. المنظمون منشغلون في ترتيب الصفوف وإبعاد المتظاهرين عن الشرطة..

"الشعب يريد إسقاط الاحتلال.. الشعب يريد إسقاط الاحتلال...". هي مواجهة المُغْتَصَبْ للمُغْتَصِبْ. خطوة واحدة تفصلهم عن الغول الكبير عن فرق الرعاع. خطوة واحدة. حجر واحد كفيل بإشعال الدنُيا -همس أحدهم في أذنها، انطلقت الابتسامة بعنف مشجعة على ذلك. لكن من ذا الذي سيرمي الحجر؟، سأل. التفتت خلفها كأنها وجدت (البطل المغوار)الذي سيرمي الحجر الذي سيشعل الدنيا و يقيم القيامة ولا يقعدها. ارتبكت، كان العدد كبيرًا وصار (البطل) مثل الإبرة التي في كومة القش. تجمدت مكانها إذ صرخ أحدهم: سلمية، سلمية هذه المظاهرة سلمية!

صراخ، بلبلة، غضب، فوضى... إذ أنه لماذا "سلمية" وهم لم يفتحوا للسلم بابًا منذ جثموا على أرضنا ككابوس؟، قالت في نفسها.

***

وجدت نفسها محشورة مع أشخاص في حافلة واحدة تشق طريقها أيام الانتفاضة الثانية إلى مظاهرة في قرية (زلفة) وكان الراكبون يتهامسون حول مواجهة الجيش التي ستتم أولاً بحرق الإطارات لحجب الرؤية عن الطائرات ومن ثم رجم الجنود بالحجارة، وكان شخص لا تذكر وجهه يسأل الراكبين إذا كانوا قد أحضروا معهم البصل؛ ولم يكن يعنيها أن تعرف ما حاجتهم للبصل، كل ما في الأمر أن رأسها كان مشدودًا لصورة الطفل الشهيد (محمد الدرة) حين قتلوه وهو في حضن والده وكان أكثر ما يهمها أنها ذاهبة "لقتل" الجنود لأن شعورًا بالكراهية والحقد نبت داخلها وراح يتفشى مثل السرطان في أعضائها- بسببهم. كانت ترسم بأصبعها على النافذة صورة بيت محترق وحوله جثث كان تريد أن تظهرها متفحمة إلا أن شفافية النافذة حالت دون ذلك..

بدت لها الدبابة مثل غوريلا ضخم يضرب على صدره ويتوعد، أما الجنود فقد ذكرها منظرهم بالخلد حينما ارتفعت رشاشاتهم ورؤوسهم من سقف الدبابة يحاولون تفحص المكان ورصد أعداد المتظاهرين.

ربط لها أحدهم كوفية على وجهها بحيث تظهر عينيها فقط، وأعطاها بصلة مقسمة إلى نصفين وهمس في أذنها: إذا ضربوا قنابل غاز قومي بشم البصلة.. ولم يترك لها فسحة للسؤال الذي تفجر في جمجمتها (لماذا البصل؟).

تناولت حجرًا عن الأرض، استجمعت قواها وقذفته نحو الدبابة لكنه لم يصبها حاولت مرة أخرى ولم تفلح وثالثة ورابعة حتى بدأ الجنود يطلقون قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي؛ كادت تختنق، تذكرت البصلة، لم تشمها لأن شخصا ما حضنها وأجلسها في الحافلة وأمرها بعدم النزول وشغل لها أغنية (فوق التل).

***

اسأل عنا في الأغوار، صرخ الشاب من خلال مكبر الصوت..و رد المتظاهرون بالمثل.
وجدت نفسها تغني مع الشريط الذي كان في مسجلة الحافلة\ الذاكرة:

فوق التل تحت التل اسأل عنا الريح تندل
اسأل عنا جبل النار اسأل عنا في الأغوار
اسأل أرضك اسأل زرعك راح تلقاه مرشوم ثوار
فوق التل تحت التل اسأل عنا الريح تندل
مد الخطوة شرقة وشامة تلقى عواصف تلقى نشامة
فوق الجبال في الوديان تلقى عزة تلقى كرامة
فوق التل تحت التل اسأل عنا الريح تندل

أما على المنصة فقد انطلق خطاب موجه إلى الجالسين، خطاب مفعم بالعجز الثوري. غضبت ونظرت حولها إلى الكم الهائل من البشر وكانت ستتفجر لأن الأرض التي تجمعوا فيها كانت موحلة وخالية من الحجارة!.

كان الوقت حينها قد تجاوز المسموح به، لكنه لم يعد يعني الآن حين قدموا عقارب الساعة شيئًا، لأن المنطقة ضبابية وهي محصورة بين القوقعة الكبيرة وفقاعة الصابون الشفافة، السجن الصغير المقسم.
 

التعليقات