19/12/2011 - 16:52

سيناريو غربة / محمّد بدران أمارة

لا ذنبَ لي إنْ اعتدتُ على أن أجدَ نفسي هنا، بعيدًا عنكم. لا ذنبَ لي إن كنتُ أحد الّذين أضافوا واحدًا إلى عدد المغتربين، إن وقفتُ في صفوف البعيدين - القريبين عن الوطن، أُنشدُ نشيدَ الغربةِ بلحن النّشيد الوطنيّ ذاته، هكذا، على الأقلّ، لا أنسى انتمائي لكم وللوجود.

سيناريو غربة / محمّد بدران أمارة

لا ذنبَ لي إنْ اعتدتُ على أن أجدَ نفسي هنا، بعيدًا عنكم. لا ذنبَ لي إن كنتُ أحد الّذين أضافوا واحدًا إلى عدد المغتربين، إن وقفتُ في صفوف البعيدين - القريبين عن الوطن، أُنشدُ نشيدَ الغربةِ بلحن النّشيد الوطنيّ ذاته، هكذا، على الأقلّ، لا أنسى انتمائي لكم وللوجود.

لا ذنبَ لي أنا المسكونُ بالغربة إن كنتُ أحد القليلين الّذين يقضون كلّ الوقت بتهيئة الصيف القادم على مهلٍ، يزيّنون الأيّام بالانتظار دون أن يدركوا، لا لأنّني أعشقُ الصّيفَ، بل لألقي بنفسي بين أحضان أمّي، أنسى الوجود وعدمه معًا، أغفو على صدرها عمرًا من عمري. لا ذنبَ لي أيضًا إن توقّفتُ عن ترقّب السّاعة وعن "تشطيب" الأيّام في روزنامتي.

أفتحُ النّافذةَ صباح كلّ يوم جديد، بعد أن أصحو على نباح كلب جاريَ المدلّل، أروّضُ نفسي على برد الشّتاء بفنجان قهوة عربيّة، وسيجارة أحرق بها الدّقائقَ العشرَ على مهل، أسمح لنفسي أن أفكّر قليلًا بالبحر الّذي بيننا، وبالوقت بيننا. تقفز موسيقى أغنيتي الصباحيّة أمامي، تلهو كالطّفل في غرفتي بين كلّ ما فيها من أسرار، وكتب، وملابسَ مبعثرةٍ قد نسيتْ أنّ أمّي ليست هنا بجسدها، جارزة لا تقوى بعد على تغطية صدري، زوجا أحذية مهترئان ما زلتُ أعشقهما، وأجندة أمتلكها منذ أربع سنوات لم أخطّ عليها بعدُ شيئَا، لكنّها هي الشّاهدة الوحيدة على صباحي ومسائي وأطراف وقتي بين الـ "هنا" والـ "هناك."

ثمّ تعلو فيروز بصوتها: "في أمل، إيه في أمل." 

يغريني الأمل، أنتشي وأستحضرُ مفاتيحَ الموسيقى وبضعَ فراشاتٍ تلوّنُ لي يومي، أتراقصُ بينها على وقع الأغنيّة.

أقول لنفسي "صباح الخير" و.. أجيبُني حين لا أجدُ أيّةَ رسالة أتصبّح فيها، وأبتسم لها، أو لشاشة الحاسوب القابعة مكانها، لا تردّ عليّ بأيّ حرف، فألعن ذلك السّكونَ وأشياءَ أخرى، ومع ذلك أخرجُ من بيتي بالابتسامة ذاتها، بالهدوء الرّوتينيّ.. فقد اعتدتُ على أنّ لي غرفة بالإيجار، حياة، وأنّ ليس لي أحد هنا يفهم مسألةَ أن أكون أنا العربيّ المنبوذ في كلّ حيّ وحانة وحبّ!

من البيت، بضعُ خُطُواتٍ إلى الجامعة - المكتبة تحديدًا، أفترشُ الطّاولةَ بكتبي كما كانت تفرش لي جدّتي الأرض لأنام ، أجلس على الكرسيّ واضعًا رجلا على رجل بغير توازن تقريبا، وأبدأ بوجبتي التي لا تنتهي/ كلمات الكتب، أظافري ولحم أصابعي. نعم.. لم أكفّ يومًا عن ذلك.

المكتبة - مطعم الجامعة حيث تأكل لتسدّ جوعك فقطحبّتا آسبرين لوجع الرأس، ولمفاجأة المعدة إن قرّرت بلحظة ما أنّ تباغتني بألم، البار، قهوة إيطاليّة كيّ لا أتحجج لنفسي أن أعود إلي البيت لأنام، مقعدي في المكتبة مرّة أخرى - حتى أصلَ إلى البيت في المساء منهكًا، أتفقّد رسائل البريد الالكترونيّ، أسترق عن رفّي كتابا، أصبّ في كأسي القليل من الماء، وأضع خمسةً وسبعين قطرةً من المهدّئ فيها.

أستلقي في سريري، أشرب ما في كأسي، وأقرأ إلى أن أنسى العمر في حضن أمّي وأغفو..

التعليقات