27/12/2011 - 00:45

رائحة إبطه / غريب عسقلاني*

أعلنت الولاء للكفاءة، وخاطبته بلقب الدكتور، فالأمر بالنسبة لي تحصيل حاصل، لم يعترض، الآخرون خاطبوه مثلي.. فراح يقدم نفسه بلقبه، واعتد بشهادتي له.

رائحة إبطه / غريب عسقلاني*


رأيته عفيًّا كما أشتهي، وسيما بالقدر الذي أحب، توقعته الإجابة الشافية في وقت كنت مشغولة بالأسئلة خارج مدرجات الجامعة، كنت أنفلت من أسر المناهج ومدارات الأساتذة الأفاضل.. تتسع الدوائر، تتداخل في رأسي، يلفني الصداع، فيزداد تمردي، أشعر بالحاجة إلى الصراخ:

- أين هو الذي يقدم الإجابات ويتفاعل معها؟

أستاذ لم يدخل بوابة الكهولة، ولكنه يحاصر اندياح شبابه، قرأني مرة، تقمص دور الأب فباخ، رأيته كتلة رخوة لزجة اندغمت أبعادها، تمنيته مراوغا أو مداعبا يظهر ما لا يبطن، قال:

- لا تشغلي رأسك الجميل بالهموم، وحافظي على بهاء وجهك المشرق.

كدت أنشب أظافري في عنقه لعله يأخذ الموقف الذي أرغب:

- كيف أعثر على رجل أريح رأسي على صدره، لنكتشف الإجابات معا؟

- تريثي عند الاختيار.

درتُ في الأمكنة، فتشتُ في المحطات، تفرستُ الوجوه.. هل أخذني الوهم؟ عثرت عليه..

رجل في عنفوان الشباب، لباقته جذبتني إليه فأرهفت السمع، استسلمت للغزو، تلذذت لدرجة الشبق، مُساجل يقلب الأفكار والنظريات بمرونة واقتدار، مقتحم على غير مراوغة ومداهنة.. شطبت أساتذتي ووضعته على المنصة، رأيته قامة فارهة، وقدرة عالية، صارحته معلنة الولاء فلعق لسانه يمتص كلماتي.. ذبت على قدرة تذوقه وصعدت على لهاث صدري:

- لو تعمل أستاذا في الجامعة وتريحني؟

- بعد حصولي على الدكتوراه سيكون..

- أكبر من الشهادات أنت.

- هو العالم من حولنا، الشهادة قبل الكفاءة!

أعلنت الولاء للكفاءة، وخاطبته بلقب الدكتور، فالأمر بالنسبة لي تحصيل حاصل، لم يعترض، الآخرون خاطبوه مثلي.. فراح يقدم نفسه بلقبه، واعتد بشهادتي له.

أخلو مع نفسي بعيدا عن مداره، أسألها:

- هل نحن أصدقاء؟

في صدري زغلول عصفور يتدثر بزغب سرعان ما يتحول إلى ريش ملون، يرف عصفور الصدر، ويغري القلب بشقاوة طفلة، يحايد العقل، أطوي سؤالي، يسألني وجهي المحاصر في المرأة ويفضحني :

ما الذي أصابك ؟

تداهمني النضارة، ويتفتح بستاني، ينملني انبثاق جداول الحليب في زوايا لحمي، تعبرني أمومة مبكرة، تنداح شهوات تغافل العقل وتستغفله، تأخذني إلى ألوان وألحان وروائح، أرسم بساتيني وأفصل فساتيني وغلالات أرديتي، تفترش دروبي براعم أزاهير تتعرف على البراءة، شمس ضاحكة تهيئني، ألتهب وأنداح ينبوع رغبة وشهوة.. تنصت المرآة ترصد شهقاتي وتؤكد:

- هو الرجل، هو العشق..

- ولم لا..

وتخرجت من الجامعة.. فلم يمهلني قلت:

- لنقطع شوطا آخر..لعبتنا لذيذة..

- لعبتنا شوط متواصل ذروته الارتباط .

واشترطت أن يتفرغ لنيل شهادته، ويتيح لي الفرصة لإكمال دراستي فوافق.

انطلقت، لكنه لم يتقدم، لم يتعثر، حبيبي لا يملك جَلد البحث مثلما يملك القدرة قدرة الحوار، خذلني ولكنه لم يعترض طريقي، ومضيت لتأكيد فرضياتي، وإثبات نتائجي، لم تسعفني معرفته، واكتشفت أنها رغوة سرعان ما تنهار عند التأصيل، وشعرت بالخديعة.

وحصلت على شهادتي وأصبحت الدكتورة زوجة الدكتور.

وفي مرة شاركت في ندوة وقدمت ورقة بحث، استعرضت الموضوع، وعند النقاش حاول أحد المشاركين تفنيد آرائي، ومعارضة استنتاجاتي، لبقٌ يقدم حججه بموضوعية أدهشتني، وسحبت البساط من تحت قدميّ في أكثر من نقطة، وددت لو أسحب ورقتي وأعلن انحيازي له، لكنها المكابرة أوقعتني في حوار غير موفق..

بعد الندوة همست صديقة في أذني:

- لم تكوني موفقة في الندوة.

- يشيعون أن زوجك الدكتور هو من أعد الورقة، وأنك لم تستعدي جيدا عليها كعادتكِ، أو أنك لم تستوعبي أفكار الدكتور؟

- زوجي كان في القاعة ولم يشارك في الحوار.

- حتى لا يحرجك ويؤكد ما يشيعون.

- وماذا يشيعون؟

- أنتما على غير انسجام، وأنه سئم لعبة كتابة الأبحاث والمحاضرات لكِ.

- وكيف توصلوا إلى ذلك؟

- لا أدري.

- وهل تساءل أحدهم لماذا لا يعمل زوجي الدكتور محاضرا في الجامعة، واعتصم بوظيفة إدارية متواضعة؟!

- ذلك خياره..

كدت أصرخ ولكني أمسكت، كان يندفع نحوي، أخذني تحت إبطه وهمس:

- كنت رائعة يا حبيبتي.

لذت به وحبست دمعة داريتها عن الناس، واستنشقت لدرجة الامتلاء رائحة إبطه..


* غزة - عسقلان المهجر أهلها.

التعليقات