17/10/2012 - 00:46

تونس (2): ليلة نابل الحارقة / بيروت حمّود

هو غادر إلى صيدا وأنا غادرت إلى عكا.. وما زال المتوسط يحضر لنا طاولة عشاء مليئة بالشموع نصلي فوقها كل مساء أن نجتمع في القريب العاجل.. على أي شاطئ من شواطئ المتوسط!

تونس (2): ليلة نابل الحارقة / بيروت حمّود

- بيروت حمّود -

ليلة نابل الحارقة

إن الحب أقرب ما يكون إلى التنبؤ بالموت، فالحب والموت شهادة وحيدة على الحياة، كان لقاؤنا قبل تونس بعشرين يوم تقريبًا على صفحة نصف فارغة نصف ممتلئة بالحبر.. عندما واصلت ثلاثة أيام دون نوم وكثير من القهوة والدخان، وكانت ثمرة ذلك طفل صغير أسميته "مأمن الروح"، ولمْ أكن لأتخيل مطلقًا أنني سأكون في تونس بعدها بعشرين يومًا بالضبط أعيش المشهد الذي كتبت..

 قبل أيام من الآن، سأل محاضر لي في الجامعة عن اتجاه الكتاب الفلسطينيين إلى الكتابة عن الحزن والألم، مع أن الواقع حاليًّا ليس سوداويًّا بهذه الصورة، فأجبت بعد أن كنت ثلاثة أرباع نائمة: دكتور! الكاتب يختلف عن الناس، له حياته الخاصة وممشاه الغريب في رؤية الأشياء، وفلسفته في الحياة مختلفة عن فلسفة الآخرين، ومزاجيته الضرورية تحتم عليه الفرح وقت الحزن والحزن وقت الفرح، لأن عواطفه نبيلة وأحاسيسه شاهقة.. زد على ذلك أنه يتحول ذات يوم من كاتب إلى متنبئ.

ودون انتباه لما عقبت على كلام مدرسي، راجعت قراءة نصي المنشور بتاريخ التاسع من آب 2012 ودهشت كيف في ظرف ثلاثة أيام يمكن أن يأتي الوحيُ لينتقم منك بصورة فظيعة ويعلق على جدران قلبك مشهدًا ستعيشه بعد عشرين يوم من الكتابة.. الوحيُ حقير.. الوحيُ لئيم.. الوحيُ لا يعرف طريقًا إلى الرحمة.

من كان يصدق أن الجنون سيبقى نشطًا بعد عشرة أيام من مؤتمر مرهق؟ جميع الوفود التي في المؤتمر خرجت إلى قضاء آخر ليلة من اللقاء.. أنا وهو نظرنا إلى بعضنا بشيء من الثقة.. وفي قلوبنا قررنا قرارًا بغير كلام: نحن أبناء هذا الملح وأبناء هذا البحر نريد الآن، الآن وليس غدًا أن ننزل إلى البحر لنعوم!

واتجهنا نحو المركز الجهوي بعد أن صرفنا مئة دولار كانت محاصرة بين الدنانير التونسية الحديدية في حقائب يدينا، واتجهنا من الحمامات إلى نابل، غيرنا ملابسنا واستعددنا للبحر.

أخذتنا أقدامنا إلى حانة عتيقة قريبة من البحر، شربنا البيرة الألمانية الرخيصة وضحكنا ملئ أفواهنا، وتبادلنا حديثًا جانبيًّا مع نادلة تونسية سمينة تسمها نزهة.. وخرجنا إلى نزهتنا المرتقبة.

إن الظلام لا يستقبل الضوء على شاطئ مل السياحة، السواد لا يفرق بين سماءٍ وبحر، والفراغ الذي عمَّ الشاطئ لمْ يعرف أنه سيحتضن فلسطين ولبنان الآن.

دخلنا البحر، هو أبو جواد وأنا أم سعد، هذه أسماؤنا الحركية لمن لا يعرفنا، فكل عوالمنا افتراضية وفرضنا أننا في معركة.. رحنا نقاتل البرد بحرّ القبلات والأحضان ورصاص الدّموع التي هطلت في غير موسمها.. تشظيت كما في مشهدٍ رسمته في "مأمن الروح"، ولملمني هو بحضنه الدافئ الحنون وعيناه الكستنائية الحزينة، ورحت أرضع خمرًا من ناحية ما في قلب العتمة اسمها تونس، كما رسمت لنفسي قبل الآن أو كما باح الوحي لي.

ساعة الدخول كانت الثانية عشرة، وساعة الخروج كانت مع موعد آذان الفجر.. في البحر امتزجت فلسطين ولبنان بالرمل والماء المالح، وفي الشارع اختلط الهواء بصوت الآذان والفراغ، وتعانقت فلسطين ولبنان وتعاهدتا ألّا فراق بعد اليوم وجبهتنا هي فلسطين، ومن قلب فلسطين ولبنان فهما واحد!

عن سور طويل يحيط بالمركز الجهوي، مكان الإقامة، كان الخيار أن نكمل المعركة فيتسلق الرفيق أبو جواد الجدار ويفتح الباب  من الداخل وأغطيه أنا من الخلف، لكننا استسلمنا إلى فكرة أكثر منطقيّة وقررنا أن نضع الجنون على الهامش وندق الجرس، ففتح الحارس لنا بعد أن كان نائمًا.

في غرفتي رقم 12، في مبيت نسرين، كان الظلام يتسلل من النافذة، فتحت الباب وإذا بهدى نائمة مكاني وعزة تأخذها سنة من نوم، فضحكت على هذا الاحتلال لسريري ورحت أبحث عن اسم هدى المعلق على باب إحدى الغرف، فوجدته وكانت صبية أخرى نائمة في مكان هدى، فأيقظتها ونفذت ترانسفيرًا طوعيًّا للصبية وأخذت مكان هدى وسريرها، وتغطيت بغطائها ونمت بلباس السباحة.

في الحقيقة لمْ أنم مطلقًا، عيناه حلقت فوقي طائرة ورقية وظلت أحلامي تتابعها وتلاحقها، تمسك بخيوطها الناعمة، تحركها فوق التلال والسهول حتّى أيقظني طرقٌ مؤلمٌ على باب الغرفة - غرفة هدى - صباح السابع من أيلول، فنظرت إلى ساعتي وشهقت: إنها الثامنة.. لا بد أن الحافلة قد تحركت إلى العاصمة وأنهم نسوني في مبيت نسرين وحيدة!

لملمت ملابسي على عجل، كانت رائحة البحر لا تزال عالقةً فيّ بشدة والملح مرصوص بين مسام جسدي و ملابسي لا تزال رطبة، وكانت بقعة ماء مالح تؤثث السرير.. تفحصت الغرفة بنظرة أخيرة مودعة، ورتبت السرير بمساعدة عاملة النظافة.. حملت حقيبتي وهبطت إلى الشارع حيث من المفترض أن تكون الحافلة.. وكانت!

كانوا بانتظاري إذًا، عقبوا على كسلي وضحكوا.. أما أنا فأخذتني العينان الكستنائية إلى المروج التي بانت من خلال نافذة الحافلة.. وجلس هو إلى جانبي دون أن نتحدث في شيء.. كان كلُّ منا غارقًا في عالمة الداخلي.. وربما تساءلنا الأسئلة ذاتها.. كيف سنرجع بعد هذا الحب إلى موطنين تفصلهما أسلاك شائكة ووحوش عسكرية؟ لكننا استكنّا إلى جواب واحد: السيد حسن نصر الله وعد بتحرير الجليل!

المهبط الثاني: تونس العاصمة ومدينة الكرّم.

تسارع وقيمة للإزاحة.. لقاءات الصّدفة

شارع الحبيب بورقيبة ومتاهة لا تنتهي من المقاهي والحانات والناس، كان اللقاء الأول في ذلك الشارع مع مخرج أردني الأصل يعمل في قناة "الميادين"، وهو شاب لطيف اسمه فراس محادين، لا يكف للحظة واحدة عن الكلام، يقلقه الوضع السوري الراهن ولا يختزل أبدًا متعة القهوة عن متعة الكلام، فالقاسم المشترك الأصغر بين الجلوس إلى طاولة وناس هما القهوة والكلمة.

فراس إنسان ودود، تحلو النقاشات معه، تأخذ أبعادًا متنوعة، وقد تعرفنا إليه خلال المؤتمر حيث كانت قناة "الميادين" التي يعمل فيها تغطي المؤتمر. أعمال فراس لم تتح له مجال فرصة البقاء معنا، فكان ذلك اللقاء الأخير بيننا في تونس، إذ غادر هو في الصباح التالي وقد اتفقنا أن نلتقي دون تحديد للزمان والمكان.

نتخذ مسكنًا في مدينة الكْرّم القريبة من العاصمة تونس، والقريبة من مدينة البحيرة الجميلة التي تأكل السفارة الأمريكية أكثر من نصف جزئها الأول، ومن هناك ننطلق إلى أكثر الأماكن حبًّا إلى قلوبنا:

في تونس العاصمة تمت دعوتنا إلى "المؤتمر الناصري العام"، والذي حضرته شخصيات قومية من كل أقطار الوطن العربي لمناقشة أوراق عالقة والخروج ببيانات بشأن الأوضاع الراهنة في الوطن العربي. لن أخوض في تفاصيل المؤتمر، ليس فقط لضيق المساحة، بل لأن النص لا يحتمل الانحراف.

إن المرسى مدينة تشابه الكذب، إذا أردنا الوصف، فهي ليست مدينة معهودة ببنائها وأهلها ومرتاديها، ولست أعرف عن تاريخها ما يؤهلني لحبها والتعلق فيها، لكن مكانًا في طرفها يدعى "بلازا" جرتنا أقدامنا إليه، وهو حانات كثيرة في مساحة واحدة، ممتلئ بالناس على مدار الساعة، كما الأخبار في القنوات، فكان من المستحيل بمكان أن نجد لنا مكانًا بين الناس والهدوء والضجة والفوضى والنظام. فانتظرنا أناسًا ليغادروا ونجلس نحن في مكانهم. جلسنا إلى طاولة نشرب مشروبًا للطاقة، وفيما نحن نتحدث أشار شاب تونسي كان يجلس معنا إلى طاولة أخرى، وهمس لنا: هذا الشاب الجالس هناك هو السباح التونسي الذي انسحب من الأولمبياد ورفض منافسة السباح الإسرائيلي، فاتجهنا إليه وحييناه على موقفه المشرف وتجاذبنا معه بعض أطراف الحديث، وخرجنا بعد ذلك إلى مسكننا في الكرّم.

الأماكن لا تتشابه، فالناس يظهرون لك في أزقة الشوارع مختلفين باختلاف المكان واختلاف الطاولة واختلاف المقهى واختلاف المدينة.. في زقاق بأحد الشوارع في العاصمة تونس، توقفت بنا التاكسي ونزلنا منه مستغربين لغرابة المكان، حدقنا ببعضنا البعض وتساءلنا بصوت عالٍ: أين يكون فندق "الماجستيك"؟!

بالصدفة مر شخص وسمعنا، فعرض علينا المساعدة فتبعناه، وفي الطريق إلى "الماجستيك" رحنا نتحدث وكان الشخص يسير أمامنا فدقق في لهجتنا ثم سألنا عن موطننا فأجبناه، فراح يحدثنا عن ماضيه حين سافر في العام 1982 إلى بيروت ليقاتل في جبهة التحرير ضد الإسرائيليين، وعندما وجدنا معارف مشتركه بيننا  تبادلنا أرقام هواتفنا واتفقنا أن نلتقي بعد يومين في المساء.

إنه الكاتب التونسي الأسعد بن حسين، نقيب الكتاب التونسيين.. من يتخيل أن يلقاه أحدهم في أحد الأزقة الشاردة عن فوضى العاصمة ونحن متجهين إلى "الماجستيك" للمشاركة في المؤتمر الناصري.

بعد يومين، التقينا في المساء، كانت برفقته زوجته الجميلة الفتية، ومخرج ليبي وصديق ملحن ومغن، وشاب تونسي في آخر العشرينات من العمر. جلسنا إلى طاولة  في حانة تدعى "الكهف" معتمدين النبيذ والسلتيا (البيرة التونسية الوطنية)، وأخذنا حديث شائق عن مغامراتنا، وعن حياتنا، عن تونس وفلسطين وليبيا، وغنينا أغاني الشيخ إمام وأغانٍ لفلسطين وللحب الأول.  حدثنا عن بداياته في الكتابة وأطلعنا على بعضٍ من كتبه.. غادرنا بعد سهرة طويلة من الفكرة والسَكْرة، وغاص بنا التاكسي في شوارع تونس وفوضى ما بعد ثورة، قد تستغربون .. تستغربون كثيرًا عندما تستقلون التاكسي في تونس.. معظم الشعب التونسي يكره بن علي وسعيد لأنه رحل إلا سائقي التاكسي، يحبونه حبًّا جمًّا إلى الحد الذي يجعلك تفكر بأن بن علي هرب بسيارة تاكسي، وأن الموكب العسكري الذي شيعه في المطار كان كتيبة سائقي التاكسي.

بنزرت والبحيرة

لقد التقيت به قبل اللقاء في تونس، كان ذلك في مدينة رام الله، وأيضًا من خلال رواياته وقصصه، إنه الروائي والأديب الفلسطيني توفيق فياض.. ومن لا يعرف أكثر من ذلك عنه، فتوفيق فياض صُنف على أنه أخطر جاسوس على إسرائيل لصالح المخابرات المصرية في زمن جمال عبد الناصر.

فور استقللت القطار من عكا إلى مطار اللد بعثت برسالة نصيّة إليه كتبت فيها : أنا في طريقي إليكَ!

التقينا به في مدينة البحيرة في مطعم شامي، حيث كنا في غمرة الاشتياق لمذاق الشام بعد أيام طويلة من تناول الأكل التونسي الحار.. تحدثنا كثيرًا يومها عن بداياته في الكتابة.. عن قصة فتاة من قرية المقيبلة الفلسطينية بالغة الجمال كما صورها  لنا، وكما قال فقد جنت بسبب حادثة ما وراحت تدفن أغراضها وتدخل بيوت الناس تأخذ أغراضهم وتطمرها، وذات يوم كانت تمشي في القرية فتبعها توفيق فياض وكان عمره لا يتجاوز الستة سنوات، وأغرم بها حيث كانت تأخذه في أحضانها.. وذات يوم هجمت العصابات الصهيونية على المقيبلة وقتلوا من قتلوا والتجأ أهل القرية إلى الجبال المحيطة، ولمْ يُعرف عن مجنونة القرية أي شيء، ولمْ يعد يسمع عنها خبر.. وبعد سنوات عاد أهل المقيبلة إلى بلدهم، وكان توفيق فياض في الثامنة من عمره أو أكثر بقليل، يخرج بقطيع من الماعز يرعى بهم في الجبال والسهول المحيطة، وذات يوم وهو في الجبال هرع كلبه إلى مكان قريب وأخذ ينبح نباحًا طويلًا فلحق به توفيق، وكان هناك أفظع ما رآه: المرأة المجنونة بشعرها الأسود الطويل ملقاة على الأرض ولا تزال في فستانها، وكان من الواضح له أن العصابات الصهيونية أصابتها برصاصة قاتله.. هذا المشهد أدخله في صدمة رهيبة لم يستيقظ منها إلا بعد أيام وقد ذهب صوته ولمْ يعد يقوى على الكلام.. وقد عرف أهل القرية بمكان الجثة من خلال عواء الواويات التي كانت تعوي كل ليلة ليأت الناس يأخذون بثأرها.. كانت هذه القصة كما رواها لنا محطة مهمة في حياته ومن خلالها بدأ الكتابة.

لقد رفض توفيق فياض حتّى خلال لقاءنا الثاني به في مدينة بنزرت التي استقبل فيها الفلسطينيون بعد أن غادروا لبنان في العام 1982، الحديث عن ماضيه المليء بالنضال، وخاصة عمله مع المخابرات المصرية ضد إسرائيل، وذلك لأنه يكتب عنها في مشروع كتاب ربما يكون آخر كتاب يكتبه في حياته كلها.. من يعرف؟

اعتراف

عن استكمال الحديث عن الحب، تبقى مساحات خاصة بي لا يمكنني البوح بها.. لكنني آمنت بعد هذا الحب أن مرافئ قلبي رست في بحر هواه، وأنني لا يمكنني أن أحب سواه بعد اليوم.. فهو موطني وقراري، والبحر الذي تعمدنا فيه بالماء المالح طوى حبنا المجنون في قاعه،  حيث سيذكر قصتنا إلى الأبد، وهو البحر الذي يحمل صلاتي من عكا إلى توأمها صيدا كل يوم.

وداع تونس:

البكاء الممض المحرق كان اللغة الوحيدة التي حادثت فيها تونس يوم السادس عشر من أيلول، ضابط الحدود ذاته بكى على بكائي وصلى إلى الله بصمت وحزن أن تتحرر فلسطين، وأن أعود لزيارة تونس أحمل جوازًا فلسطينيًا وهوية خضراء، وأن يمحى الأزرق الداكن من الوجود.. على مدخل المغادرة كان استشهادي الفعلي، أخذني حبيبي في أحضانه وبكينا نكبة الفراق.

هو غادر إلى صيدا وأنا غادرت إلى عكا.. وما زال المتوسط يحضر لنا طاولة عشاء مليئة بالشموع نصلي فوقها كل مساء أن نجتمع في القريب العاجل.. على أي شاطئ من شواطئ المتوسط!

التعليقات