28/02/2013 - 15:56

بومة رانلاغ / أيّوب المزين*

ليس لي بتفضيل لماهلر على شوبان، مهما تعالت السّمفونية التّاسعة، لكنكِ يا أعمدة الأبجدية لا تكونين بغير المرارة. تصاعدي إذن، هُدّي أوهام القلب، ولا تدعي في باريس غير هذا النّص الذي يؤرقني. هكذا أقلّد سجالات الأموات وأحفر فيها للأغاني النسائية ثقوباً ضيّقة يغمرها البول والكحول. نعم يا لوسي الصّغيرة، تطلبين اهتماماً وجولات في "ريفولي". أُنصت إلى لحنكِ وأنت تنادينني باسمي، تقولين بأنّ فيه غرابة غير عربية، كلّه لك، إسمي الثنائي، دعيه يُدلّك مخارج الحروف ومدخل الرؤية إليكِ، فأنا لا أحتاج غير سريركِ لأدفنك فيه، والإسم لك. لوسي، تأخّر غروب هذا اليوم، لكنّي باقٍ عند النّافذة أتحسّس الغصن وأهذي: "أين تذهبين يا بومتي، أريد طوق الرّيش وفناجين القهوة لأتابع الجلوس إلى المكتب في غيابك. لقد أتعبني السّهر".

بومة رانلاغ / أيّوب المزين*

- أيّوب المزين -

ها قد أتيت يا شتاء الغرب من جديد، جئت بالرّوائح والعزلة والذّهب المصقول في حلق السّماء، جلبت الأغنيات المبتوتة في بلعوم الشّيخة واهتراء النّدى على الشّجر، من شدّة النّار. يعرف الواقفون في الهشيم طراوة العشب واعتلال حطب الغابة، ويتذكّر النّائمون في الطّين منّا تلك المسارات الهامشية لحديقة اللّوكسومبورغ، تُغريكَ بالعنادل والسّيقان والعطور إلى أنْ تغرقَ في الحوض الرئيسي، وكلّ القرائن تُعرّيكَ: "مازَحه الرّيح الخفيف، أسقطه في الحلم، فمات. لم يكن ليحتمل دُعابة النّسيم". كم مرّة استشرتَ شعرية الأمكنة حتّى صرتَ ثقيلاً بالكنايات والتّواريخ المحبوكة، وكم مرّة أسرفتَ في إعجابكَ بنسر زرادشت يقطع الآفاق البعيدة، كلّما حلّق عالياً جرَت تحته الأرانب والغزلان، فاضطرّ النّزول إلى الوحل لسفك دم الغواية. ما كان لي، وفي كلّ إنسانٍ طائرٌ كاسر يُشبهه، إلاّ أن أطيل التحذيق بجارح يسكن خراب المدينة؛ لا استرجاع سجن "الباستيل" حدث باهر ولا باحة متحف "اللوفر" بذلك البهاء البريدي العتيق، وحدها بومة رانلاغ مثيرة للاهتمام: وافرة الرّيش، شامخة وحكيمة، تتغذّى على جرذان المجاري الباريسية، وكم هي كثيرة وسمينة ونتنة، تطفح في القنوات والجرائد وفي إصدارات دور النّشر الرّفيعة. تلك قصّة أخرى، الأهمّ أنّ البومة تأكل لتكبر، تأكل وتكبر، وتحطّ برأسها الكبير العريض متى شاءت على عود مائل ناحية الألم.

في بحر هذا اللّيل القاحل، والباخرة-الذبابة تُحاذي الرصيف المطلّ على نهر السّين، وفيها من سيّاح الدنيا يابانيين فرحين بعلو برج إيفيل وأمريكيين مرحين بطول قاماتهم وأضواء وهّاجة تُشعل نهداً ملتصقاً فوق الزّجاج، تبدو الأبدية غير مجدية وألوان الجمهورية الخامسة شاحبة وكئيبة. أغادر المشغل الفسيح، حيث أسكن، ثم أنصرف ناحية جزيرة "سان-لويي" متأبّطاً رواية بول موران "الرّجل المستعجِل". لم أكن مستعجلاً حينها، كنت أمشي بكسل الخاسر وأقرأ أسماء الأزقة وأقيّد بعضها في كنّاشي. انعطفت يميناً تاركاً خلفي الجزيرة ومبنى معهد العالم العربي. غالباً ما أتوه بين اليمين واليسار، ضفّة لي وضفّة لكم، لكن الأكيد أنّ فرنسا قد فقدت يسار القيم في يمينيّة الدّولة. أخذني السّير إلى جسر الفنون، على الرّصيف باعة الكتب والذكريات وبعض سارقات المحفظات القادمات من أوربا الشرقية، احتكّت بإحداهنّ سيّدة تحتمي من المطر النحيف بمظلتها الثمينة وهدّدتها بالبوليس... . على طرف العين، يتعانق عشاق يعقدون قلوبهم حول أقفال موصدة بإحكام في شبّاك حديدي طويل، يتلُون للحبّ جملاً ما عدت أفهمها، لولا رفقة فتاة تخزن الثوم داخل حقيبتها الزّرقاء وتعصر اللّيمون في كوب من اللّويزة والعسل، وقتما داهمني الأرق.

مساكين كلّ هؤلاء الذّين يحتاجون عشّا وناياً وحروفاً يكتبون بها غُبنهم وقلّة حيلتهم. أرمق موسيقيّاً رومانياً يعزف الآكورديون في المترو المتوجه إلى "سان-جيرمان-دي-بري" وإمرأة من الهندوس تقبّل يد رجُلها وسط سوقٍ بـ"غامبيطا" وصِبية من شمال إفريقيا يتبادلون الشّتم واللّكم بالأصول تحت جسر "نويي-سور-سين". جعلتني مشاهد عديدة من الحياة الاعتيادية أُعْرِضُ عن فسحات لطالما مارسها القادمون إلى هنا بهدف الإبداع السياحي، وهم يتحدثون بعجرفة نادرة عن بذخ لا يُحسّه غيرهم: المآثر المسروقة والأحجار الضّخمة المنقوشة بعناية ومثلجات ماكدونالد وصورهم الملتقطة عند نافورة "سان-ميشال" (انظر، انظر، كم هي جميلة)، يا له من إسهال وصفي عظيم! طوّرت، في المقابل، هواية سابقة كدت أفقدها: زيارة المقابر. أفضّل بساتين المقابر على الحدائق العامة، وعندما أتعب من ازدحام الورود والدموع، أتعقّب بيوتاً هجرها أصحابها إرهاقاً أو مرضاً: سيروان،21 زنقة "لوديون"؛ دريدا، "ريس-أرونجيس"/الضاحية القصية.

بدأت أفهم إلى أيّ مدى يجعلنا نمط عيش الفرنسيين حزينين بلطف، كما قال الآخر. فحينما تهترأ الحضارات أو يصيبها تعب ما، تحكي ملامحُ المارة في الشوارع الكبرى، ولون غائط كلاب الوحيدين، السيرة المرضية للقاطنين والزائرين على حدّ سواء. لندع ذلك للمتخصصين في علم النّفس والطّهارة البيطرية. أخمّن الآن بشدّة، دون حنين يُذكر، في أزقة خاوية بفاس وفي مكتبة عامرة بالكلاسيكيات العربية والفرنسية والإنجليزية، إلاّ من بوكوفسكي. لا يمكنني أن أحبّ بوكوفسكي، ذاك الممسوخ الذّي استفاق لنبوغه الأدبي عندما أصبح، كما سمّى نفسه، "عجوزاً قذراً" ترهّل جسده وصغُرت تفاصيله التناسلية، يُذكّرني بكاتب فرنكوفوني محسوب علينا، استكرش اعتزازاً بقصصه ولم يقلع بعد عن شرب مداد عشرة قرون من أناقة فرنسية مغشوشة.

ليس لي بتفضيل لماهلر على شوبان، مهما تعالت السّمفونية التّاسعة، لكنكِ يا أعمدة الأبجدية لا تكونين بغير المرارة. تصاعدي إذن، هُدّي أوهام القلب، ولا تدعي في باريس غير هذا النّص الذي يؤرقني. هكذا أقلّد سجالات الأموات وأحفر فيها للأغاني النسائية ثقوباً ضيّقة يغمرها البول والكحول. نعم يا لوسي الصّغيرة، تطلبين اهتماماً وجولات في "ريفولي". أُنصت إلى لحنكِ وأنت تنادينني باسمي، تقولين بأنّ فيه غرابة غير عربية، كلّه لك، إسمي الثنائي، دعيه يُدلّك مخارج الحروف ومدخل الرؤية إليكِ، فأنا لا أحتاج غير سريركِ لأدفنك فيه، والإسم لك. لوسي، تأخّر غروب هذا اليوم، لكنّي باقٍ عند النّافذة أتحسّس الغصن وأهذي: "أين تذهبين يا بومتي، أريد طوق الرّيش وفناجين القهوة لأتابع الجلوس إلى المكتب في غيابك. لقد أتعبني السّهر".

باريس، 2013.01.17.


* كاتب مغربي يقيم في باريس.

صفحة الكاتب على "فيسبوك".

التعليقات