09/08/2015 - 23:24

ستبقى ساعتي وزرَّ قميصي/ أمجد ناصر

وفي ذلك اللوح الغامض الذي لم يره أحد. تاريخ انتهاء الصلاحية يسمونه الموت. لذلك قال له، لا أدري بأيِّ ايمان فَعَلَ، ستهزمك، لا محال، قصيدتي. كان يمكن له أن يقول، أيضًا، ساعتي وزر قميصي.

ستبقى ساعتي وزرَّ قميصي/ أمجد ناصر

(إلى محمود درويش في ذكرى رحيله السابعة)

I
رأيته قبل يومين، أو ثلاثة، على شاشة تلفزيون. لم تعد رؤيته، وجهًا لوجه، ممكنة بعدما اختار، كما فعل بصلابة ظاهرية فقط، الطريق إلى حياته أو موته. كان حيّاً. بكامل أناقته التي تسرَّه قبل أن تسرَّ غيره. كان يقرأ قصيدة. الكاميرا تصطاد طرائدها من حضوره المفرط: وجهه الأمرد النحيف، جفاف شفتيه، يده التي ترتفع لتدفع المعنى بعيدًا في هواء سامعيه المُخدَّر، كأس الماء، كمّ قميصه، ساعته الذهبية. الكاميرا، مذ وجدت، جعلت الغياب يبدو افتراضيًا. سجلت نقطة، مؤقتة، ضد الموت. فكيف يغيب من نراه ونسمع صوته ونكاد نلمسه باليد؟ لكن الكاميرا لا تقول الحقيقة كلها. إنها حقيقة اللحظة نفسها. لا قبلها ولا بعدها. الحقيقة التالية على لحظة الأبد المضللة تلك أنَّ من رأيته على الشاشة يقرأ قصيدة ويحرك يده فيظهر كمّ قميصه وساعته الذهبية لم يعد موجودًا بيننا.

كان على موعد مجهول مع الموت. لقد دفنوه على ربوة وزرعوا شجرة قرب قبره. استعدت قصيدة الشاعر الذي عدَّد الأشياء التي ستبقى بعده. فكَّرت أن يد الشاعر التي أعانت المعنى على مقصده الصعب لم تعد موجودة، فيما زر قميصه سيبقى طويلا بعده. لزر القميص عمر أطول من عمر صاحب القميص. الساعة تلك ستظل تتكتك. ربما تحتاج بطارية، لكنها ستعود إلى التكتكة من جديد. لا أعلم من سيـــرثها ولكنه، أيضًا، سيذهب وستبقى الساعة.

II
سمعت أنَّ تلك اللمبة تعمل منذ مئة وأربعة عشر عامًا. لم يطفأ نورها مذ وضعت على عمود نور عمومي. لم تتغير بقعة الضوء التي تنهض بعبئها في وجه الليل. اللمبة التي تضيء فلذة من الظلام في شارع جانبي تجاوزت عمر الذي صنعها وركّبها ومشى تحت نورها أو رآها من بعيد. قد ينطفئ نور اللمبة. قد تتحطم، لكن سلكها سيبقى. زجاجها المحطّم قد يُرمى في مكبٍّ ولكنّه لن يندثر. ربما تبقى منه شظيـــة تجرح يدًا. ستزول تلك اليد وتبقى شظية الزجاج المحطَّم لتجرح يدًا أخرى. المصباح بجانب سرير الشاعر لا يزال موجودًا في شقته التي لم يعد إليها، حتى لو لم يعد موجودًا هناك، الآن، فهو موجود في مكان آخر. كان الشاعر يأرق أحيانًا. يضيء المصباح. يقرأ في كتاب لكي يغالب الأرق الذي وصفه في مديحه للنوم بوصفه هدية الليل. ذلك المصباح في الشقة التي لم يعد إليها الشاعر بعدما فتحوا صدره لا يـزال موجودًا.

الكتاب الذي تركه بجانبه على المنضدة موجود كذلك. إن كان من الذين يظمأون ليلًا فكأس الماء هناك أيضًا. حتى لو لم تعد تلك الأشياء هناك الآن فهي في مكان آخر. الأقلام التي اشتراها، أو التي أهديت إليه، في علبتها على يمين المكتب، بجانبها دواة الــحبر الأسود. عيني التي لم يأكلها الدود رأتها هناك. أشياء الشاعر بقيت، إن لم تكن في مكانها ففي مكان آخر... إلاَّ مَنْ وضعها، ذات يوم، في أماكن اعتاد عليها ويعرف طريقه اليها في الظلام. لكنَّ الشاعر يدري أن للجسد فترة صلاحية محددة. تاريخ الانتهاء مكتوب في الدورة الدموية أو في الحجاب الحاجز، أو في ذلك اللوح الغامض الذي لم يره أحد. تاريخ انتهاء الصلاحية يسمونه الموت. لذلك قال له، لا أدري بأيِّ ايمان فَعَلَ، ستهزمك، لا محال، قصيدتي. كان يمكن له أن يقول، أيضًا، ساعتي وزر قميصي.

* شاعر أردني

التعليقات