18/08/2015 - 16:42

الوسطي والعادي والضحل.../ حسين محمود

لقد عشنا في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين عصرًا ربما حصد إجماعًا من أصحاب الرأي على أنه الزمن الرديء، انتشر فيه الفساد على طول العالم وعرضه، وهو فسادٌ طال كلّ شيء،

الوسطي والعادي والضحل.../ حسين محمود

لكلمات الثلاث، التي تطالعها في هذا العنوان، هي في الحقيقة كلمة واحدة في اللاتينية، واشتقّت معظم اللغات الأوروبية الحديثة من اللاتينية مصطلحًا واحدًا يعبّر عنها يقترب من الكلمة الإنجليزية الحالية mediocrity. 

لقد عشنا في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين عصرًا ربما حصد إجماعًا من أصحاب الرأي على أنه الزمن الرديء، انتشر فيه الفساد على طول العالم وعرضه، وهو فسادٌ طال كلّ شيء، وإن كان البعض يحصره في الفساد المالي، إلا أنه لم يكن فسادًا ماليًا وحسب، وإنما فساد في العقل، وما يستتبع ذلك من فساد في كلّ شيء، ابتداءً من فساد منظومة القيم وحتّى السرقات والاختلاسات المالية. وتلك الأخيرة هي الأقل خطرًا، فهي لا تقتصر على عصر دون آخر، فلم يعرف تاريخ البشرية عصرًا بلا لصوص، ولا حتّى عصر الأنبياء. 

وكما تبدو الثورة العالمية مقاومة للفاسد والرديء، تبدو الوسطية والعادية والضحالة هدفًا للثورات المضادة، التي تعمل منذ الدقيقة الأولى للثورة على استخدام التضليل والإلهاء والزيغ والتخويف والترويع والإرهاب. والناظر لأحوال العالم بعد انطلاق موجة الثورات 'العالمية' الأخيرة، يجد أن الإرهاب هو العنصر المشترك القائم على الأرض في كافة الأرجاء، يتقدّم الإرهابيون بانتظام لاحتلال مواقع الثوار، وهؤلاء الإرهابيون مجهولون يظهرون ويتعاظمون فجأة مثل الأشباح. والمرجّح أنهم كما ظهروا ظهورًا غامضًا سوف يختفون اختفاءً غامضًا عندما 'تستقرّ' الأحوال. وسوف تستقر الأحوال عندما نصل إلى وضع تصبح فيه الوسطية سيدة الموقف، وهي الوسطية التي تعني الضحالة والعادية. المعنى أننا سوف نخرج من الزمن الرديء لندخل زمن الضحالة. 

والحقيقة أن الضحالة تتقدّم بجرأة وانتظام لتقتحم كلّ شيء. ولا أبالغ إن قررت أن مجمل الإنتاج الفكري للبشرية اليوم في العالم ضحل، رغم التقدّم التكنولوجي الرهيب الذي لا يخطئه الإدراك الواعي، والذي يُوجه بكلّ عظمته لهدف ضحل بدوره؛ تعظيم النوازع الاستهلاكية وتحويل العالم إلى سوق كبيرة، لا تستطيع فيه أن تفرق بين مول تجاري أو Outlet في أميركا أو أوروبا أو دبي أو القاهرة أو طوكيو وسيول. ادخل وسوف تجد عجائب التكنولوجيا الجديدة مطروحة ومتوافرة في اللحظة نفسها في العالم كلّه، بل لن تحتاج حتّى الدخول، بوسعك طلب ما تريد استهلاكه أونلاين في أية لحظة من أي مكان في العالم، وسيصلك قبل أن يرتد إليك بصرك. 

أعود إلى تعريف هذا المفهوم وربطه بالعادية أو الوسطية، إذ لعلّه يفيدنا في الصراع القائم الآن بين التجديد الفكري والرجعية الدينية، باسم الدفاع عن الثوابت وتبني المنهج الوسطي. 

فالمصطلح mediocrity لاتيني الأصل، ويعني 'الحالة الوسطى' وهي حالة من يقف على مسافة واحدة بين طرفين متباعدين. نشأ المصطلح حميدًا، حتّى أن الشاعر الإيطالي 'المأساوي' تاسو قال : الفضيلة في الوسطية'. كما ارتبط بكلمة لاتينية أخرى هي aurea ليصبح تركيب المصطلح 'aurea mediocritas' وقد استعمله الشاعر اللاتيني هوراس، الذي مات قبل ثمانية أعوام من ميلاد المسيح، ليعبّر عن أن الإنسان 'لا يصل إلى السعادة إلا إذا احتفظ بنفسه على نحو حكيم بعيدًا عن أي طرف أو تطرّف'. وهناك أيضًا مبدأ العادية في الفلك، وفي فلسفة العلوم، التي ترى أنه لا يوجد شيء له قيمة خاصّة على المستوى الكوني، وعلى الأرض، وفي تاريخ الإنسانية، وهو مبدأ متطور عن الكوبرنيكية، التي رأت أن الشمس لا تدور حول الأرض، بل العكس. 

لكن المصطلح تطور إلى المفهوم السلبي الذي يلمح إلى الشخص الذي يبدو راضيًا عن وسطية موقفه الأخلاقي والروحي. فإذا افتخر هذا الشخص بهذه الوسطية، وُصف بالضحالة الفكرية. استقرّ المصطلح على هذا المعنى. وتشير المعاجم إلى ذلك 'أن تكون ضحلًا، هو نوعية الأشخاص أو الأشياء التي تكشف عن قدرات وميول وسمات عقلية متواضعة قليلة فيُقال فنان ضحل وكاتب ضحل وسياسي ضحل ومهني ضحل، ونصّ ضحل وغارق في الضحالة، وغير قادر على انتشاله من الضحالة، ويعيش ضحالة قذرة'، الضحالة التي لا تطفو ولا تغرق، بل تثير التقزز واليأس والإحباط وفقًا للشاعر الشهير ليوباردي. الضحل إذن هو الشخص الذي لا يتمتع بصفات عقلية، تؤهلّه لأداء نشاط يتطلب مواصفات عقلية أعلى. 
وهكذا فإن الثوابت قد تعني التجمّد عند موقف معين، والوسطية قد تعني الضحالة. نظرة واحدة إلى ما حولنا يمكن أن تفزعنا من مستوى الضحالة الذي وصلنا إليه.

(العربي الجديد)

التعليقات