24/03/2020 - 01:15

فنّ الوشم: البشريّ مهندسًا لجسده المقدّس

فنّ الوشم: البشريّ مهندسًا لجسده المقدّس

امرأة من شعب الماؤوري | Lara Trace Hentz

 

في مشروع ثقافيّ وفنّيّ بعنوان "He OA Kotahi: The One World Project"، المهتمّ بالمشترك الثقافيّ والإنسانيّ بين ثقافة شعوب الماؤوري Māori - سكان نيوزيلندا الأصلانيّين - وثقافات الشعوب الأصلانيّة في مختلف الأماكن حول العالم، وتحديدًا في التعبيرات الفنّيّة والرمزيّة الّتي توشم على الوجه، تحاول باينتانجي أوستيك Paitangi Ostick، المتخصّصة بفنّ وشم الوجه، أن تخلق تواصلًا حضاريًّا وثقافيًّا من خلال هذا الفنّ بين شعب الماؤوري وبدو فلسطين؛ الجماعات الّتي تُعَدّ قلّة من الجماعات البشريّة المعاصرة، الّتي ما زالت تحافظ على تقليد وشم الوجه.

لقد استوقفني مشهد التقاء الفنّانة الماؤوريّة، ذات الوشم الدقيق والجميل حول فمها وعلى ذقنها، بسيّدة مسنّة، تربو سنّها على مئة عام، من بدو مدينة أريحا[1]. وكم كانت دهشتي؛ إذ شاهدت الشبه الّذي وجدته كبيرًا بين وشمَي كلتا السيّدتين وموضعهما، رغم البَون الجغرافيّ والثقافيّ والسياسيّ الشاسع بينهما! يستدرج هذا التقارب افتتاح النقاش حول سؤال فنّ الوشم أو فنّ الدقّ على الجسد في التقاليد الثقافيّة، وماهيّة الرموز والدلالات المنطوية عليه، الّتي يستدعيها التحليل، والتحوّلات المعاصرة الّتي اعترت ثقافة الوشم على الجسد.

 

الجسد فضاء للدلالات والهويّات

الكتابة على الجسد تُعَدّ من المعالم المشتركة بين ثقافات الشعوب المختلفة، وانتشرت بدايةً في المجتمعات السابقة على "اللوغوس"؛ إذ تُعَدّ الحضارة البولينيزيّة الّتي انتشرت بشكل خاصّ في الدول والجزر المحيطة بالمحيط الهادي موطن ثقافة الوشم، مثل نيوزيلندا وجزر فيجي وهاواي وتونغا، حيث الرسم والنقش البديع على الجسد كاملًا يُعَدّ من أبرز ما يُعرف عن ثقافة هذه الشعوب وأبدعه، ومن لغتهم انبثقت الكلمة الإنجليزيّة "Tattoo" بتحوير على كلمة "Tatau" بلغة الماؤوري[2]، إضافة إلى الحضارة الفرعونيّة، وحضارة ما قبل الإسلام، وما بعده؛ إذ يُلاحَظ انتشاره بشكل واضح في الثقافة الشعبيّة الريفيّة والبدويّة، في المشرق والمغرب العربيَّين على حدّ سواء. وما يميّز الوشم عن غيره من الرموز التعبيريّة الّتي استخدمتها الحضارات القديمة، ورسمتها على جدران المعابد والمقتنيات، تحقُّق أمرين: أن يكون الجسد موضعه، وأن يكون أبديًّا لا يزول بالغسل ولا التطهّر.

الوشم أو "الكتابة بالنقط" على الجسد أو "وخزه"، في الأصل، وسيلة لإشهار المعتقدات الاجتماعيّة والدينيّة والثقافيّة وتمثيلها؛ إذ تتعامل من خلاله الجماعات والشعوب التقليديّة على أنّ الجسد فضاء مجرّد، تُمارَس عليه طقوس شعبيّة بمحمولاتها الدلاليّة المتعدّدة

إنّ الوشم أو "الكتابة بالنقط" على الجسد أو "وخزه"، في الأصل، وسيلة لإشهار المعتقدات الاجتماعيّة والدينيّة والثقافيّة وتمثيلها؛ إذ تتعامل من خلاله الجماعات والشعوب التقليديّة على أنّ الجسد فضاء مجرّد، تُمارَس عليه طقوس شعبيّة بمحمولاتها الدلاليّة المتعدّدة، من أجل فرض وجود للهويّات الفرديّة والجماعيّة وتأكيدها؛ فشكل الوشم وطريقة رسمه ومكانه من الجسد دلالة على هويّة صاحبه.

يرى شعب الماؤوري، سكّان نيوزيلندا الأصلانيّين، أنّ وشم الجسد كلّه  يعبّر هويّتهم السياسيّة بجانب هويّتهم الثقافيّة؛ إذ يعرّفهم ويؤكّد وجودهم في سياق وجود استعمار بريطانيّ، يحاول نفيهم والتأثير في ثقافتهم الأصلانيّة، كما حصل مع لغتهم الأصلانيّة الّتي أزاحها الاستعمار إلى الهامش، واستبدل بها اللغة الإنجليزيّة لغةً رسميّة لهم[3]. ولذا، فالوشم لا يمكن قراءته فقط على أنّه موضوع تراثيّ وتقليديّ فحسب، بل على أنّه موضوع جدّيّ ووجوديّ ومقاوم: هؤلاء نحن، وهذا ما نحن عليه[4]! 

 

قداسة وشعوذة

تثير عمليّة وشم الجسد، وتحديدًا ذات الرموز والإشارات الهندسيّة والنقوش، العديد من التأويلات في نظريّات علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وحتّى في نظريّات علم النفس، وهي عمليّة عبّر عنها عبد الكبير الخطيبي بأنّها: "... (ت)دفع بدوران حركة القراءة الّتي تغيّر كلّ مرّة موقعها"[5]. ورغم أنّ الخطيبي يقصد الموقع الفعليّ للوشم الّذي تتغيّر دلالاته بتغيّر موقعه في الجسد؛ فإنّ تأويل فعل الوشم بذاته ينطوي على دلالات عدّة، فقد تعاملت بعض المجتمعات الطوطميّة مع الوشم على أنّه نوع من كتابة مقدّسة يُوحى بها إلى البشر من مصدر مجهول، وقوّة خفيّة حوّلوها إلى مصدر مقدّس؛ وبذا فإنّهم دوّنوا ما هجسوا فيه على أجسادهم، على اعتبار أنّ هذا التدوين تمثيل لحلول الغامض المقدّس فيهم؛ ولذا فإنّ البولونيز - مثلًا - كانوا يوشمون كامل أجسادهم في طقوس احتفاليّة خاصّة[6].

بينما ذهب آخرون إلى اعتبار الوشم نوعًا من الطلاسم الّتي تُستخدم لأغراض السحر وتغيير المقادير، معتمدين، كفرويد، على تأويل فعل وخز الجسد ذاته إلى طقوس شعوذة قديمة، كانت تُمارَس عند بعض المجتمعات، على دُمًى من قماش تمثّل معادلًا موضوعيًّا للشخص الّذي يُقصد إلحاق الأذى به، وكلّ وخز وضرب في الدمية يمثّل أذًى سيحلّ بالشخص نفسه، بينما، وعلى العكس من هذا التفسير، تنحو بعض الثقافات، كالثقافة الشعبيّة المغربيّة، إلى التعامل مع الوشم نوعًا من أنواع الرقية من الشرّ وطرد النحس، كما تعُدّه أحيانًا طريقة للطبّ والتداوي؛ إذ إنّ "تأبير الجسد" ووشمه يمكنهما تخليص الشخص من الشعور بآلام جسده. إذن، فالوشم بصفته رمزًا، يحتمل تفسيرات كثيرة، لكلٍّ منها حجّته في التأويل.

 

الدنَس

إنّ الهويّة الشخصيّة والجماعيّة الدلاليّة والرمزيّة، الّتي تنطوي عليها التفسيرات العديدة للوشم، قد جعلته محطّ تهديد وجوديّ ونبذ اجتماعيّ ودينيّ في الأديان التوحيديّة؛ فالوشم، على اعتبار أنّه نصّ ترميزيّ وبلاغيّ، يعيد هندسة الجسد، حيث يتجاوز أنّه مُعطًى إلهيّ مقدّس، ويحوّله إلى مادّة حاملة للنصوص والطواطم المقدّسة، والإشهارات ذات الدلالة المتغيّرة تبعًا لموضع رسم الوشم وترميزه، الّتي تجعل الجسد موضع قراءة ومتعة وشهوة[7]؛ أي ينتقل معه الجسد من اعتباره هندسة لاهوتيّة يتملّكها الإله ويفرضها على مخلوقاته، إلى حدّ الهندسة الدينيّة والاجتماعيّة له؛ وهو بذلك يصبح عمليّة يستعيد بها البشريّ سيطرته على جسده، ويعيد تصميمه وتقديمه عن طريق الكتابة الترميزيّة المعميّة، أو عن طريق اللغة الصريحة.

الهويّة الشخصيّة والجماعيّة الدلاليّة والرمزيّة، الّتي تنطوي عليها التفسيرات العديدة للوشم، قد جعلته محطّ تهديد وجوديّ ونبذ اجتماعيّ ودينيّ في الأديان التوحيديّة؛ فالوشم، على اعتبار أنّه نصّ ترميزيّ وبلاغيّ، يعيد هندسة الجسد، حيث يتجاوز أنّه مُعطًى إلهيّ مقدّس

ولربّما تكون هذه الحرب الصامتة، والدلاليّة العنيفة، على الجسد المقدّس و"ذاكرته الموشومة"، بين الإلهيّ والبشريّ، هي ما أدّت إلى جعل الوشم موضعًا للتساؤل الدينيّ، حيث يصبح الوشم ذاكرة مرئيّة ورمزيّة محرّمة ترتع في الأبديّة. فمثلًا، في التراث الإسلاميّ قول مأثور، وضَع الوشم في مصافّ النبذ واللعن في موضعين على الأقلّ: أحدهما في مقولة من تراث السنّة تُلعن فيه الواشمة والمستوشمة، وثانيهما ما رُوي، في المأثور الإسلاميّ، عن إحدى علامات قيام الساعة، حين يظهر "الأعور الدجّال" الّذي سيثير الفساد في الأرض، ومن صفاته أنّه يحمل على جبينه وصمة مكتوبة بالحديد المُحَمّى، تقول: "كافر".

هذه التحريمات تتعامل مع الوشم كما لو كان دنسًا يهدّد أو يزيل قداسة الجسد و"طهارته"، وغالب الظنّ أنّ هذا يتعلّق بطهارة الدم؛ إذ إنّ الوشم يلزم إراقة الدم، أثناء غزّ الجسد بالإبرة ومادّة الصبغ الّتي تصبغ ما تحت الجلد، فتمنحه لونًا مستديمًا.

 

من الجسد إلى ما يكسوه

إذا ما عكسنا تحليلنا السابق للوشم على سياقنا المعاصر، نجد أنّ ظهور الوشم قد انحسر بصفته ثقافة جماعيّة وتقليديّة، أمام تصدّر ثقافة الوشم ذي الطابع التعبيريّ الهويّاتيّ الفرديّ، وخاصّة في عصر الحداثة وما بعدها، وكذلك انحسر - بصفته تعبيرًا اجتماعيًّا - أمام نبذ الخطابات الدينيّة واستبعادها له، لكنّه لم يختفِ، بل أعاد البشر تصديره وتقديمه، بطرق وأساليب مختلفة تتلاءم والسياق الجديد؛ ذلك أنّ التعبيرات الثقافيّة والفكريّة للبشر تنحكم دائمًا إلى سياق إنتاجها.

فلسطينيًّا، لم تعُد ثقافة وشم الجسد أو الوجه منتشرة إلى حدّ كبير في التجمّعات الريفيّة والبدويّة، بل تكاد هذه الذاكرة تتحوّل من أنّها موشومة على الجسد إلى شكل آخر، تتجلّى من خلاله هندسة الوشم وشكله، لكن بمغايرة موضع التجلّي ومكانه، وأيضًا باختلاف في الدلالة والمعنى المقصود منه، وأقدّم هنا مثالًا: فمن خلال ملاحظة فنّ التطريز على القماش والثياب، ومدى تشابهه الكبير مع الرموز الهندسيّة والنقوش الّتي رسمتها جدّاتنا على وجوههنّ، لا نستطيع إلّا أن نُقيم هذا التقابل بين فنّ الوشم وفنّ التطريز؛ إذ من غير المعروف، على وجه الدقّة والتحديد، مكان ظهوره لأوّل مرّة، وتاريخ ظهوره وانتشاره، وأصله. هذا التقابل يمكن إقامته بين المادّة والوسيط عبر قول عبد الكبير الخطيبي، في تحليله لأشكال الوشم التقليديّة على وجه المرأة وجسدها في الريف المغاربيّ: "... والوشم، كثوب مكتوب، يحتلّ منزلة بين اللباس والعري؛ أي أنّ الوشم هو اللباس الثالث بالنسبة إلى الجسم المكسوّ باللباس والجسم العاري"[8].

يمكن قراءة الوشم على أنّه نوع من الحياكة على الجسد. ومع ظهور التابوهات الدينيّة والاجتماعيّة حول الوشم، انتقل موضع الوشم من أنّه يُرسم على الجسد مباشرة إلى أن يُرسم على ما سَيَلبس الجسد

في ضوء ذلك؛ يمكننا القول إنّه يمكن قراءة الوشم على أنّه نوع من الحياكة على الجسد. ومع ظهور التابوهات الدينيّة والاجتماعيّة حول الوشم، انتقل موضع الوشم من أنّه يُرسم على الجسد مباشرة إلى أن يُرسم على ما سَيَلبس الجسد، كما انتقلت الطلاسم والتعاويذ وطقوس الشعوذة، من أنّها كانت قديمًا تُرسم على الجسد بشكل مباشر، إلى استقرارها على قطع قماش منفصلة؛ أي أنّ المادّة الّتي تحمل الوشم انتقلت من الجسد إلى ما يُلبس على الجسد، وبذا فقد الوشم جوهره الأساسيّ من ناحيتين: الأبديّة والاستقرار على الجسد موضعًا، لذا؛ لم يعُد من الممكن تسمية الحياكة على القماش بالوشم، بل أصبح اسمها "التطريز"، أو الخياطة وغيرها.

أمّا بالنسبة إلى الوسيط فهو الإبرة، وهي المشترك بين موضوع وشم الجسد ونقشه من جهة، والتطريز على القماش من جهة ثانية، وهي ربّما من الأدلّة المساعِدة في التحليل؛ ففي البداية هي المادّة الأساسيّة لوخز الجسد وحشوه بالكحل، أو اللون المختار للوشم، وانتقلت إلى وظيفة أخرى بتغيّر المادّة الّتي ستنجز الإبرة وظيفتها عليها؛ فاستبدل بالخيط الكحل أو الحبر، واستبدل كذلك بالقماش الجسد. وهذا يحتاج، لا شكّ، إلى إعادة قراءة مفهوم التراث والتقاليد بردّها إلى أصولها، لتتبّع التحوّلات الّتي اعترتها، وما ينطوي عليها من قول فكريّ وثقافيّ وسياسيّ مستجدّ.

..........

إحالات:

[1] He OA Kotahi: The One World Project، شوهد في 23/03/2020، في: https://bit.ly/3dow5MK

[2] “Polynesian Tattoos: The art of ink”,، Polynesian Tattoos: The Art of Ink، facebook، شوهد في 23/03/2020، في: https://bit.ly/2xg8yxc

[3] عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربيّ الجريح، ترجمة محمّد بنيس (بيروت: دار الجمل، 2009).

[4] Polynesian Tattoos: The art of ink”, Ibid".

[5] عبد الكبير الخطيبي، المرجع نفسه، ص 81.

[6] David Leeming, social representation of Taukuka (Sweden: School of arts and communication, 2016).

[7] عبد الكبير الخطيبي، المرجع نفسه.

[8]  المرجع نفسه، ص 77.      

 

 

قسم الحاجّ

 

 

طالبة دكتوراه في برنامج العلوم الاجتماعيّة بجامعة بيرزيت، وقد أنهت درجة الماجستير في برنامج الدراسات العربيّة المعاصرة من الجامعه ذاتها. تهتمّ بالسياقات الثقافيّة والسياسيّة في المجتمعات المُسْتَعمَرة وما بعد الاستعماريّة، والمجتمع الفلسطينيّ بخاصّة.

 

 

التعليقات