07/02/2018 - 19:06

علامة فارقة "في الطريق"

علامة فارقة

من عرض "في الطريق" | عدسة سماء واكيم

 

وقفتُ أسفل الدرج الذي يصل السوق بأعماق المدينة. أدراج تمتدّ وتعلو لتبتلعها الحارات، رماديّة الحياة ورتابتها تحدق بنا وتمتدّ إلى السماء، في الناصرة.

من أعلى الدرج، ومن بين البيوت، أطلّت علينا راقصات "مدرسة عايدة"؛ فتيات يتّسمن بطفولة توشك على الغياب، على عتبة البلوغ، يرتدين ملابسهنّ اليوميّة بلون أسود حالك، يروين بأجسادهنّ الفتيّة المرنة حكايات زمن ابتعد، لكنّها حاضرة في ذاكرة مصمّمة العرض الراقص "في الطريق"، شادن أبو العسل. أعادت الحكايات للمكان ألوانه ووشّحته بأحاسيس رافقتها طفلةً، في الطريق خارج بيتها وعودةً إليه.

بنت البلد

عدّت الدرجات بقلبها، وقفت، التفتت، واستمرّت بالصعود. استعاد العرض ذاكرتها الفرديّة، وقد أصبحت متّصلة بكلّ من في ذلك الحيّ الذي قد يعيش حالة مشابهة لها أو مخالفة. جمعنا المكان في لحظة انفعال أضحت الدرجات فيها مسرحًا يطلّ من الواقع وعليه؛ درجات للمارّة العابرين قسرًا، سعيًا نحو غاياتهم اليوميّة البسيطة، وربّما بقصد بلوغ الرغبات.

حين قصدت شادن المكان مع راقصاتها الفَتِيّات، جاورت أهل الحيّ مشارِكةً، لم تأت غاضبة ومحتجّة، بل متصالحة مع واقع أدركت حيثيّاته بحكم أنّها "بنت البلد"، وفي هذا الحيّ تحديدًا لها موطئ قدم.

لم تأت مستوطنة، بل عابرة كطيف ينثر المعنى والألوان، وقد كشفتنا على لغة حركيّة تعتمد التمثيل الواقعيّ لجسد يحمل أشكال حالات يوميّة يعيشها أثناء الانتقال من حيّز إلى آخر، ما بين الخاصّ والعامّ.

بهذا اللقاء، كشفت شادن الحيّز العامّ وأناسه على عالم الرقص المعاصر، التعبيريّ منه بخاصّة، الباحث في عمق لغة الحركة، بين التعبير الإيحائيّ، والمسرحيّ، والتجريد. حاورت جغرافيا المكان وارتبطت عضويًّا به، بمداخله، وشرفاته، وأبواب بيوته المسكونة والمهجورة، كما أدراجه، هكذا أعادت رسم الحيّز من جديد، وربّما أشارت إلى الإمكانيّات الخفيّة الكامنة فيه، التي لا يعيرها أحد من المارّة أو السكّان الدائمين أو العابرين اهتمامًا.

رافقت العرض موسيقى من تأليف الملحّن سعيد مراد (فرقة صابرين)، وقد صيغت خطوة خطوة بالتحاور والتجاور معها، حتّى الصيغة النهائيّة، وهذه دلالة أخرى على أهمّيّة البحث لدى شادن والدخول عميقًا في كنه لغة الرقص والعلاقات الممكنة مع لغة الموسيقى، ودور الأخيرة وتأثيرها في تشكيل العرض، الذي من شأنه أن يحبطه في بعض الحالات، أو يبلغ صميم جوهره كما حصل في عرضنا هنا، إذ شكّلت الموسيقى ومزيج الأصوات المسجّلة والحيّة أحد الأعمدة الأساس في نسج هذا البديع.

خارج الصندوق الأبيض

أطلّ الناس من شرفات بيوتهم وشاهدوا العرض من مواقعهم المألوفة لهم؛ بعضهم استخدم الدرج قاصدًا مكانًا ما، فأصبحوا جزءًا لا يتجزّأ من العرض، لقد استضافوه بحفاوة وفرح، وملأت أصداء تصفيقهم السماء، وكأنّ لسان حالهم يقول: في حيّنا متّسع للحالمين.

حضر الجسد بحرّيّته الكاملة، وأصبح صرحًا تعبيريًّا خارج التجميل وأحمال الممنوع والمسموح؛ جسد طبيعيّ من دم ولحم بعيدًا عن الشعار وتمثيلاته، تراوحت تضاريسه بين الأعمار المختلفة، ما وراء الجنسانيّ ومسمّياته، سابحًا في الفضاء الخارجيّ رغبة منه باستعادة نفسه في المكان وله. في الماضي غير البعيد، أدّى الحيّز العامّ في مجتمعنا، والمجتمعات الإنسانيّة بعامّة، دورًا أساسيًّا في أفراح الناس وأتراحهم، ولم يكن مضبوطًا كما في العصر الحديث، إيجابًا وسلبًا؛ فالحداثة فصلت الفنّ بأشكاله المختلفة عن الحياة والحيّز العامّ بناسه، وأدخلته إلى الصندوق الأبيض (White cube)، كصالات العرض، والمتاحف، والمسارح التي ترتادها النخب، إلى أن ثار الفنّانون منذ أواسط القرن الماضي على سلطة العرض والقرار، إذ اكتشفوا أهمّيّة التفاعل مع المكان الحقيقيّ، الحيّ بتضاريسه وناسه، وبدأوا باستخدام الحيّز العامّ للاحتجاج والتعبير عن الرأي بهدف خرق وزعزعة هيمنة السلطة التي أصبحت الحاكم بأمر الله.

 

 

من أحد البيوت خرجت لميس، طفلة الحيّ، وهي ليست من الراقصات، لكنّها، ومنذ اليوم الأوّل، كانت من الزوّار، عايشت معهم التجربة، وأصبحت جزءًا لا يتجزّأ من تدريبات الفرقة اليوميّة، بل وأدلت برأيها حول ما يجوز أن يكون أو قد لا يجوز. صعدت لميس الدرجات، التحقت بها الراقصات، صعود ينضوي على رمزيّة خطى تتقدّم نحو مستقبل أفضل، ربّما.

أسئلة

ومن نقطة الصعود المجازيّة هذه نحو المستقبل، وفي سياق العرض وما وراءه، نطرح بعض الأسئلة التي قد تشغل كلّ فاعل على الساحة الثقافيّة، بحكم ما ينتظرها من تحدّيات:

هل سينضوي البحث في اللغة على خلق وإنتاج لغة حركيّة مختلفة ومميّزة لهذه الفرقة تحديدًا؟ هل البحث عن التميّز من شأنه أن يكون محفّزًا لنهج وطريقة عمل في الرقص وغيره من اللغات الفنّيّة المعاصرة غير المتجذّرة عميقًا في ثقافتنا، الأمر الذي يتطلّب فكرًا وثقافة وإبداعًا؟ هل لهذه الغربة أن تولّد الجديد؟ هل ستنطلق شرارات أخرى باحثة في اللغة، ما بعد الترفيهيّ والتوضيحيّ (illustrative)، إثر عرض "في الطريق"؟

مع هذه الأسئلة وغيرها يمكننا القول إنّ عرض "في الطريق"، علامة فارقة في هذه الطريق.

 

....................

فكرة وتصميم الرقص: شادن أبو العسل | أداء: فرقة عايدة للرقص المعاصر | استشارة دراماتورجيّة: سماء واكيم | موسيقى: سعيد مراد.

 

منار زعبي

 

فنّانة تشكيليّة، ومنسّقة معارض. حاصلة على الماجستير في الفنون التشكيليّة من جامعة حيفا. تعمل محاضرة في كلّيّة بيت بيرل، كما عملت في جامعة حيفا. عضو مؤسّس لجمعيّة مسار – مركز للتربية، ولمدرستها البديلة التي تحمل الاسم نفسه.

 

 

التعليقات