التجديد الفكري في حقبة الأزمة/ باسل غطاس

لقد نجح التجمع بقيادة عزمي بشارة بالتجديف ضد التيار وفي إطلاق مشروع قومي عربي ديمقراطي مناهض للصهيونية من عقر دارها، وفي ظروف تراجع وتردي على مستوى القضية والأمة وهذه مأثرة لا يستهان بها نتذكرها ونحن نستشرف نهوضًا مجددًا لإرادة الشعوب العربية في المرحلة القادمة.

التجديد الفكري في حقبة الأزمة/ باسل غطاس

من النادر أن تمر على الانسانية حقب زمنية قصيرة تشهد أحداثًا عظيمة التأثير على مصير شعوب ودول وحركات سياسية تاريخية في تكثيف نادر كان من الممكن أن تمر عقود طويلة أو حروب عاتية لمراكمة نتائج مشابهة. هكذا كانت  فترة أواخر ثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضي التي شهدت انهيارًا مدويًا لمنظومة الدول الاشتراكية وصولا إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، أحد قطبي النظام العالمي، وانتهاء الحرب الباردة وقيام نظام دولي جديد يتحكم به قطب واحد بقيادة زعيمة النظام الرأسمالي العالمي الولايات المتحدة الأمريكية. 

 
شكّل هذا الانهيار هزة أرضية غير مسبوقة لا نزال نحيا إلى اليوم موجاتها الارتدادية. تمثلت النتائج السياسية على الأرض في ضربة شبه قاضية لليسار العالمي، رافق هذا التغيير العالمي تغيير على الساحة العربية، فتعرض المشروع القومي العربي لانتكاسة خطيرة في احتلال الكويت من قبل النظام الصدامي البعثي في العراق وتشكّل التحالف العالمي بمباركة النظام العالمي الجديد. وكان لهذه الأحداث المتواترة أبعد التأثير على القضية الفلسطينية التي دخلت في مأزق تاريخي دفعها باتجاه المفاوضات مع إسرائيل التي انتهت باتفاقية اوسلو التي مثلت مقايضة حقيقية للحقوق الوطنية مقابل الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية. 
 
كان لكل هذه الأحداث السياسية نتائج وتأثيرات مباشرة على الساحة السياسية الفلسطينية في الداخل تمثلت في دخول كافة القوى السياسية الفلسطينية مأزقًا خطيرًا لعلّ أبرز تجلياته سقوط القائمة التقدمية في انتخابات الكنيست عام 1992 وحصول قائمة الجبهة الديموقراطية على أقل نسبة أصوات منذ تأسيسها بقيادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي. على صعيد السلوك  السياسي بدأت تطفو مظاهر مشوهة تذكر بسنوات ما بعد النكبة والحكم العسكري تمثلت في انحسار المد الوطني وتأثير القوى الوطنية وازدياد مظاهر الأسرلة المتمثلة في ازدياد الانخراط في الأحزاب الصهيونية وتعزيز الانتهازية السياسية في أوساط الأقلية الفلسطينية.
 
عينيًا، كانت القوى الممثلة للتيار القومي في تلك السنوات حركة أبناء البلد وما تبقى من قيادات في الحركة التقدمية في أوج أزمتها وانهيار مقولاتها السياسية وعزلتها الجماهيرية، وما تبقى من قوى اليسار التي تحررت من سيطرة الحزب الشيوعي حاولت لملمة صفوفها ومراجعة نقدية لمواقف اليسار، وحاولت تنظيم نفسها في حركة "ميثاق المساواة" التي جمعت في صفوفها مئات الناشطين والمثقفين الذين تركوا صفوف الحزب الشيوعي قبيل وخلال المؤتمر العشرين للحزب (المنعقد عام 1990) ويساريون يهود معادين للصهيونية ويساريون عرب آخرون. بعد مضي أقل من عامين على تأسيس ميثاق المساواة وبعد قرارها عدم خوض الانتخابات البرلمانية عام 1992 ونتيجة أجواء الإحباط السياسي السائدة أصاب الحركة الضعف والوهن وأصبحت غير قائمة عمليًا. 
 
في هذه الظروف الصعبة، وفيما يشبه التجديف عكس التيار بادر بعض النشطاء السياسيين ممثلو القوى السياسية المذكورة، أو لما تبقى منها وبعض المستقلين، باللقاء في مدينة حيفا للتداول في الظروف السائدة وإمكانيات الحراك السياسي. وفي اللقاءات الأولى ساور معظم المشاركين الشك في جدوى اللقاءات وفي وجود أي فرصة حقيقية لتجميع التيار القومي وخلق شيء جديد يكون بوسعه أن ينير ولو ببصيص من نور هذه العتمة المطبقة. 
 
ولعلي أستطيع بنظرة تحليلية خاطفة إلى تلك الأيام أن أؤكد أنّ ما جعل هذه المبادرة تنجح في الوصول إلى وثيقة سياسية شكلت مرجعًا لنشوء التجمع الديموقراطي كحزب جديد وموحد للتيار القومي في الداخل هما أمران اثنان تضافرا ليشكلا اللحظة التاريخية الحاسمة؛ الأمر الأول، هو أزمة الحركات السياسية القائمة وانعدام وجود مخرج آخر مما وفر الإرادة السياسية للتغلب على الفئوية أو الفصائلية والاندماج في خلق شيء جديد، الأمر الثاني هو الإسهام الفكري والإبداع النظري الجديد لعزمي بشارة والذي كان وبشكل ملفت محل اجماع المشاركين. 
 
كان مجهود عزمي الفكري في تلك المرحلة من خلال تحليل واقع وأزمة الهوية للأقلية الفلسطينية وتحليلاته للبعدين  القومي الديمقراطي كأساس للطرح السياسي الجديد والذي أجمله في مقاله الشهير في مجلة الدراسات الفلسطينية (مجلد رقم 3 صيف 1992) قد أثار نقاشًا واسعًا في أوساط الحركات السياسية العربية في الداخل وأوقد خطابًا سياسيًا جديدًا كان من الواضح أنه هو المؤهل ليؤسس للمرحلة المقبلة. 
 
في اللقاءات الأولى الدقيقة لعب وجود عزمي، بصفته مفكرًا مجددًا وسياسيًا محنكًا منخرطًا في التجربة السياسية منذ نعومة أظفاره دورًا حاسمًا في قيادة عملية صهر الإرادات وصولا إلى الإعلان عن تأسيس الحزب الجديد وورقته التأسيسية. 
 
خلال هذه الفترة كان نبراس التجربة وحاميها من الفشل الذي كان مصير محاولات أخرى في المحيط الفلسطيني والعربي هو المشروع السياسي الجديد الذي حمله حزب التجمع الوطني الديمقراطي والذي مثل مشروعًا حضاريًا وثقافيًا متنورًا  للأقلية الفلسطينية والذي اعتمد إلى حد بعيد على الجهد الفكري والنظري لعزمي بشارة. 
 
 
لقد كان من الواضح أنه إضافة للمشروع السياسي الجديد يحتاج الحزب الى أداء متميز لنمط جديد من القيادة السياسية وكان من الواضح لنا أن بوسع عزمي أن يلعب هذا الدور في سنوات التأسيس الأولى، لذا كان من الطبيعي أن نختاره لتمثيل الحزب لأول مرة في البرلمان في انتخابات عام 1996. وكان لنجاح عزمي في أدائه المميز الفضل الأكبر في تعزيز وبناء شعبية الحزب وتنظيمه وصولا إلى حزب قوي ومتمرس أصبحت الغالبية الساحقة من كوادره من الشباب تجمعية برنامجًا وعمرًا، حزب أصبح قادرًا على الاستمرار حتى في الغياب القسري لقائده. 
 
لقد نجح التجمع بقيادة عزمي بشارة بالتجديف ضد التيار وفي إطلاق مشروع قومي عربي ديمقراطي مناهض للصهيونية من عقر دارها، وفي ظروف تراجع وتردي على مستوى القضية والأمة وهذه مأثرة لا يستهان بها نتذكرها ونحن نستشرف نهوضًا مجددًا لإرادة الشعوب العربية في المرحلة القادمة.

التعليقات