صديقي الجميل محمد السيد سعيد/ عزمي بشارة

-

صديقي الجميل محمد السيد سعيد/  عزمي بشارة
ربما كان صديقي العزيز محمد السيد سعيد أحد أول المثقفين الذين التقيتهم شخصيا في مصر. وعلى غير عادة الخيبة التي غدت مألوفة متوقعة أكَّد الرجل في ذهني صورة مصر الستينات التي كانت في مخيلتي: الشاب الأسمر المؤدب المهذب، بعاميته المصرية المتضافرة مع العربية الفصحى، وبفصاحة عربية المثقف وجمله التصويرية البلاغية والتحليلية الطويلة، الملطفة بالعامية المصرية... على عهدي اللاحق بكبار مثقفي المدينة المصرية.

قابلت محمد الرومانسي في كل ما يتعلق بفلسطين التي ساهمت في تشكيل شخصيته منذ شبابه. وتعرفت إلى محمد الصادق على درجة من درجات تماهي الذات مع الموضوع.

محمد السيد سعيد شخص جميل الطبيعة والطبع بشخصية نبيلة وحس مرهف. ولا أقول مرهف مثل أديب وفنان، بل في أفضل الحالات مثل بعض الأدباء. فقد اكتشفنا سوية كم قد يكون بعضُ الأدباءِ في الحياة، فظًا غليظ القلب. أقولُ كان مرهفا لا يفصل بين الحس الجمالي والقيم الأخلاقية، والذوق بمعنيية الصغير والكبير، كما ينبغي ان يكون الأديب والفنان في مخيلة جيلنا. وهي مخيلة جيل مهما نضج وجرب لا تكل تعذبه بالفجوة الجديدة بين الكائن وما ينبغي أن يكون، فتعيد إنتاجها بعد كل تجربة. إنها مخيلة مُنهَكَةٌ لا تتعلّم الدرسَ أبدا.

صار محمد صديقا عزيزا، وبالمصري "صارَ صَحْبي".
وكما حُفِرَت في الوجدان تلك النظرة الأولى المذهولة المأخوذة بمهابة النيل من شرفة الفندق، حين داهمتني الروعة إلى حد الوجع، فأيقنت أن الجمال هو أيضا شوق دفين... كذلك لا أنسى ذلك اللقاء في جاردن سيتي مع شاب مفكر فعلا، مهموم بقضايا مصر وقضايا الأمة، وبالقضية الفلسطينية، وبالتنمية الرشيدة والحكم الصالح وبحقوق الإنسان... أحمد الله أن زيارتي الأولى لمصر تحمل مثل هذه الذكريات.

لن انسى لقاءنا الأخير الذي حرص أن يرافقه إليه نجله الحبيب. ولكني لن أذكر هذا اللقاء الآن.
كنت أستاذا جامعيا، وكان باحثا في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية وفي مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. وكان الأخير قد دعاني للمشاركة في ندوة في القاهرة. وأعلم أنه وبهي الدين حسن مدير المركز كانا يترددان خوفا من التطبيع حتى وجدا الحل بدعوتي. فقد كنت أنشر دراساتي في الوطن العربي، وكنت محاضرا في جامعة بير زيت. فوجداني ليس مترددا فقط بل متهيبا لأني كنت أرفض زيارة مصر بعد كامب ديفيد، أي وجدا لهما وطنيا فلسطينيا يرفض التطبيع مع نظام كامب ديفيد، إذ كنت أيضا من جهتي أرفض الزيارة بجواز إسرائيلي، أي أرفض من طرفي المساهمة في تطبيع عربي مع إسرائيل حتى لو قبلت الدولة العربية ذلك. وَجَدا إذا من يزاود عليهما في الموقف وفي التردد. كانت تلك أولى زياراتي لمصر. لم يكن ما هو أكثر طبيعية من لقاء نشطاء الحركة الطلابية كل من موقعه في السبعينات.

وكانت مصر بمثقفيها العروبيين والإسلاميين واليساريين مضيافة ومرحبة إلى حد الحرج. وكنت لفترة طويلة مسحورا مبهورا بمصر، أراقب حبي لها ينمو.

وكانت فرصة لقاء أبناء وبنات جيلي ممن نشطوا في الحركة الطلابية، هم في مصر وأنا في فلسطين. أخيرا التقينا نحن أبناء جيل الستينات والسبعينات، حملة الأوهام والعقد العاطفية، وخلط الحب بالثورة والأدب، وبالجمل الثورية، والتحليلات التي لا تنتهي والاهتمام بكل ما يجري إلى درجة التنظير بحرية، كلٌ لبلد الآخر. كنا نسمع بأسماء بعضنا، منذ بداية سبعينات القرن الماضي، بيد أننا لم نتعارف حتى أتيتُ مصرَ فاكتشفت من كانوا قادة الحركة الطلابية، وقادة جمعية التضامن مع شعب فلسطين، وقوميين صاروا يساريين، ويسار بحث عن ربط العدالة الاجتماعية بالحقوق السياسية. أولئك الذين صدموا بهزيمة عام 1967، وبتقعِّر الخطاب القومي في حينه، وتجوف بعض الممارسات. وخدموا سنوات على القناة لاسترجاع كرامة مصر وكرامة الامة وتوازنهم الشخصي... وكالعادة، لم تتوقف الخيبات مع انهيار معسكر اليسار كمعسكر عالمي، وكانوا قد بدأوا البحث فورا عن يسار من نوع جديد يتجاوب وينسجم مع الفكرة الديمقراطية والحقوق اللبرالية السياسية، ويسميه محمد اشتراكية انسانية.


لن نتحدث عن القسم الأول فنحن لا نؤبِّنه، بل نتحدث عن القسم الثاني الذي تجده في أية لحظة كما كان، منتفضا على الظلم يطلب العدل ولو في الصين، متحمسا للحرية، ومنفعلا من الانتماء للغة والبلد والزمان والمكان، ذلك الانتماء يولد حسا جماليا وأخلاقيا، ولكنه لا ينفك يبحث عن صياغات جديدة عن نظريات ومعارف جديدة.

محمد السيد سعيد مثلي ابنُ جيلٍ منكوبٍ بأحلامٍ عاشها حتى الثمالة وبانهيارٍ عاشه بلا هوادة، وبالبحث عن صياغات جديدة أكثر واقعية وأغنى خيالا في الوقت ذاته.


من المدهش ان تلتقي برجال ونساء من بلاد أخرى يمرون مثلك بنفس المراحل الفكرية، وبما يقربها من التجارب الشخصية، خاصة وأن الفكر والتجربة الشخصية صنوان عند من لا يعيشون انفصاما بين المبدأ والمسلك.

مررنا بنفس المراحل مع الفرق أنهم آتون صوب اليسار من الصراع مع القومية كإيديولوجية تبريرية لنظام، وأنت قادم إلى العروبة من خيبات اليسار وأنظمته ومن دوره حيث تعيش، فتلتقون في نفس النقطة، فيما كلٌ ذاهبٌ لوجهةٍ معاكسةٍ. فيساهم اللقاء بين من تجمعهم نفس القيم بتخفيف شدة الاندفاع، وتدوير حدة الاتجاه.
هم يروون لك خيباتهم من القومية العربية التي خرجْتَ أنت باحثا عنها وعن فضائها وعن رموزها. ولكن من يبحث عن إيديولوجية قومية عربية؟ كان، وما زال يكفيني في مصر أن ألتقي عروبيين. وأنت تخبرهم عن خيباتك من مكان أنت قادم منه وتراهم يتجهون نحوه. فنتوقف جميعا عند اللقاء. وإيمان كل منا بصدق صديقه يجعلنا نؤثر ونتأثر. وعدَّلنا جميعا مسار الخيبة من القديم إلى مسار الأمل بجديد غير موجود. فوجوده يتوقف علينا وعلى من مثلنا.

تابعتُ إنتاجه الفكري وتابع إنتاجي ايضا، ونظمنا سوية مؤتمرا حول تعثر التحول الى الديمقراطية في البلدان العربية. وأذكر أنه أنيطت بي مهما إقناع الصديق العزيز الاستاذ محمد حسنين هيكل ليفتتح المؤتمر، وقد فعل.

وتابعوني من مصر، وأنا أترك التدريس في الجامعة لتأسيس تجمع متواضع في موقع متواضع بين العروبة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في فضاء الحضارة الإسلامية، أما محمد فقد خاض تجربة بناء مؤسسات حقوق الإنسان ونظَّر لها وانتقد لاحقا سلبياتها، وسلبيات التمويل من الخارج عموما، واستقر على تأسيس صحيفة تؤسس لخطاب سياسي جديد مركب. ولعب دورا في حركة كفاية، وفي التضامن مع المقاومة حتى أثناء المرض.

وخلال ثلاثة أعوام اغتال الموت مشروعي مفكِّرَيْن، أحمد عبد الله ومحمد السيد سعيد.
ويبدو أنه كتب علينا نحن أبناء هذا الجيل أن يشيِّعَ بعضُنا بعضا، وأن يؤبِّنَ أحدنا الآخر.
وأبَّن محمد السيد سعيد والألم يعتصره شابا نبغ كقيادي في صفوف الحركة الطلابية وعاش حياة قصيرة وعريضة بما فيه الكفاية ليولد من الكاريزما القيادية باحثا مرموقا في الشأن المصري. قرأت تأبين محمد لأحمد عبد الله، ووصلتني رغبتُه الأكيدةُ بالتعريف به عربيا. فكتب، على غير عهدي به، كأنه يصرخ. بلغتني مرارة غير مألوفة عند هذا الدمث الواسع الصدر أن أحمد عبد الله لم يحظَ بما يستحق من تقدير. ربما لاحت لمحمد حين كتب عن أحمد المناضل والعالم بعضُ الوجوه الفهلوية التي حظيت بأكثر مما تستحق، وربما تراءى له ما حظي به الفاسدون الذين استقروا على منزلة بين المنزلتين عند المال والجاه والسلطان. فلم يخرج منهم لا مناضل ولا مفكر بل أثرياء غير مسؤولين، ومسؤولون لم يثروا الوظيفة بشيء، وأقلام للإيجار. وربما كان محمد السيد سعيد يفكر بمصيره الذاتي، مصير من أصر على التلازم بين الفكر والمسلك والشخصي، وبين الاخلاق العامة والخاصة. فقد أسّر لي مرة على الهاتف (ولا ادري كم يصحُّ فعلُ أسَرَّ على المحادثة الهاتفية) ما استنتجه من مهمة لم تعمِّر طويلا في الولايات المتحدة، وأسَرَّ لي مرة أخرى كيف وجد نفسه وحيدا بعد موقف جريء نبيل في معرض الكتاب، وأن هذه الواقعة فولذته. فقد وجد نفسه وحيدا للوهلة الأولى فقط، قبل ان تنهال عليه التبريكات ويحاط بالحب والتعاطف من أوساط أخرى بعضها يدعى، وبعضها لا يدعى لمثل هذه المناسبات. إنها عزلة المثقف النقدي الضرورية بين الفينة والأخرى... وهي وحدة يتعلم المثقف أن يتمتع بها حتى لو لم يستمتع بها. وهي سرعان ما تنجلي، وتحتضنه محبة الناس، إذا كان المتوحِّدُ عنيدا وصمد بما في الكفاية.

غادر محمد في ساعته نقولها لأن الموت حق. ولكن ساعته جاءت قبل أوانه، نقولها لأن المحبةَ حقٌ هي أيضا. غادر مكللا بغار المفكرين، مسجًى في قلوبنا، محمولًا على محبتنا.
والسلام عليكم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.





(عن جريدة العربي)

التعليقات