الحـاضـر غـائب والغـائب حاضـر ../ د.عزمي بشارة

ارسل لنا د.عزمي بشارة مقاله هذا كما أرسله لملحق فلسطين الشهري الصادر عن "السفير" وقد تم اختصاره هناك بالتنسيق معه، ولكنه ينشره كاملا لاعطاء القارئ فكرة كاملة عن المقال. وهو حتى بصورته الموسعة هذه تلخيص لدراسة أوسع أعدها د.بشارة. وسوف ننشر قسما منها قريبا يتعلق بالاوضاع الاجتماعية لعرب الداخل

الحـاضـر غـائب والغـائب حاضـر ../ د.عزمي بشارة

تحوّل العرب داخل خطوط الهدنة، التي تكنى خطا أخضر، إلى أقلية من 150 ألف عربي داخل دولة يهودية لأن الأكثرية شُرِّدت، تحولت إلى لاجئين. قضية اللاجئين الفلسطينيين وقضية ما يسمى "العرب في إسرائيل" الذين يربو عددهم على المليون مواطن حاليا، هما تاريخيا توأمان. كلاهما نشأ عام 1948.

وإسرائيل من الدول الإيديولوجية القليلة المتبقية صاحبة مشروع. يسمى مشروعها "جمع الشتات"، كما يسمى "تهويد الأرض وتهويد العمل"، إضافة إلى "دولة اليهود"، و"الدولة اليهودية". وهي تعلن نفسها دولة لكافة اليهود في العالم. إنهم حاضرون في التشريع (قانون العودة)، وفي الإيديولوجيا، وفي بنية الدولة ووظائفها، وفي حقوق المواطنة (إذا رغب أي منهم أن يأتي بلادنا ويحصل عليها) حتى وهم غائبون. والعرب الذي بقوا في الداخل غائبون بالنسبة للدولة فيما يتعلق بتاريخ البلاد، وهم أعداء حين يتعلق الأمر بالملكية على الأرض، وهم خصوم لها حين يصرون على حقوقهم السياسية القومية.

الغائب إذا حاضر، والحاضر غائب في بلادنا.

لم يكن لدى التيارات السياسية العربية، ومنها التيار القومي العربي الذي حدد الخطاب السياسي لفترة طويلة، تصور لكيفية التعامل مع قضية العرب الذين بقوا في أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 وأصبحوا مواطنين في إسرائيل. ولا أظننا نبالغ إذا قلنا أن التوجه إليهم تراوح بين اعتبارهم "إسرائيليين" واعتبار العلاقة معهم تطبيعا، وبين اعتبارهم بالمجمل أسطورة صمود. ولم يترتب ذلك على تغيّر في التشخيص أو المنهج، وإنما نتيجة تغيّر الأوضاع العربية.

فمن يريد أن يحارب ينزع لرؤية الكيان بمجمله كعدو، ومن يريد تسوية وتطبيعا ينزع إلى النفور من القوى الوطنية الجذرية وإلى تجميل المتأسرلين من عرب الداخل كأنهم وطنيون.

وتجنب كل علاقة تطبيع مع إسرائيل يعني تجنب أدواته، وقد تكون هذه الأدوات عربا في أحزاب صهيونية أو حتى أحزاب عربية من الداخل. فبعضهم يقبل أن يكون أداة تطبيع "وجسر سلام". ومن ناحية أخرى لا بد من إيجاد السبل للتواصل مع القوى الوطنية في الداخل، والمقصود هو التواصل الذي يصب باتجاه تنظيم العرب في الداخل على أساس أنهم جماعة قومية هي جزء من الشعب الفلسطيني والأمة العربية.
ويجب ألا تكون هذه الصلة ممرا للتطبيع.

ولا شك أن التواصل مع التيار الوطني، القومي والإسلامي، المنظم في الداخل والاستماع لتقييماته للأوضاع المركبة داخل فلسطين هو أفضل من اعتماد وسائل الإعلام الإسرائيلية، ومنها "عربية إسرائيلية"، أو اعتماد التصريحات والانطباعات الإعلامية وحدها. وبعض السياسيين العرب في الداخل يتحدث في المحطات الفضائية العربية ما يخالف دوره الحقيقي في الداخل أو ينطق بالعربية بموقف وبالعبرية بموقف آخر...وهم معروفون ولا داعي للإسهاب. وليس كل من يتحدث العبرية هو خبير بإسرائيل، كما أنه ليس كل من يتحدث العربية خبير بالمجتمعات والدول العربية.

وكانت المشكلة دائما بالنسبة لنا أن تسببنا بانفتاح العالم العربي على القوى الوطنية قد يؤدي إلى استغلاله للتواصل مع عناصر انتهازية ومشبوهة، بحجة أن الجميع وطنيون والجميع مخلصون. وهنالك قوى عربية لديها مصلحة في تصوير العرب المؤيدين للتسوية والمتعاونين مع إسرائيل كوطنيين. هؤلاء يتوقعون من عرب الداخل أن يتأسرلوا وأن يتحولوا إلى "قوى سلام إسرائيلية".

لا بد هنا من إعمال العقل السليم والتمييز، فليس عرب الداخل حالة سياسية موحدة. وإذا لم تكن القوى السياسية في البلدان العربية واثقة من قدرتها على التمييز بين الصالح والطالح، فالأفضل هو الانتظار والتروي وعدم الإندفاع.

والتحدي هو عدم السقوط في تعميمات من نوع تخوين الجميع (فهنالك الكثير من الوطنيين) أو تحويل الجميع إلى أبطال (فهنالك الكثير من المتأسرلين والعملاء، وهذا ليس مستغربا في ظروف مواطنة إسرائيلية). والحذر مطلوب لأن التعددية الحزبية العربية هي داخل الإطار الإسرائيلي البرلماني وغير البرلماني. وهي تعبر عن ذاتها وتتناقش فيما بينها بأدوات إسرائيلية من ضمنها الإعلام الإسرائيلي. أما الإعلام العربي المحلي فهو حتى حين تتوفر النوايا الحسنة ممول من الدعاية التجارية والحكومية من قبل الوزارات المختلفة والشركات الكبرى.

والمسألة التي نناقشها هي إمكانية بناء حركة وطنية فلسطينية وتيار قومي في ظروف المواطنة الإسرائيلية. والإجابة على هذا السؤال ليست سهلة على الإطلاق. إذ لا وجود لبنية طبقية عربية منفصلة عن البنية الطبقية للمجتمع الإسرائيلي، وكذلك لا وجود لعمل سياسي فعلي على نطاق واسع خارج إطار الحقوق السياسية التي توفرها المواطنة. بهذا المعنى ودون قاعدة اجتماعية طبقية تسندها، تبقى قوة الحركة الوطنية إلى حد بعيد مسألة معنوية وسياسية ذات علاقة مباشرة بالوعي السياسي، ووعي التمييز العنصري والاستغلال الطبقي. والوعي السياسي يتأثر إلى درجة كبيرة بالأوضاع السياسية على الساحة العربية في العالم العربي. فكلما ازدادت أزمة المشروع العربي، وكلما تفاقمت المسألة الطائفية في بعض الأقطار العربية مثلا، ينعكس ذلك فورا على شكل انتكاسٍ للوعي العربي في الداخل بشكل ملحوظ.

تبدو محاولة ربط النضال الوطني بالديمقراطية في الأراضي التي احتلت عام 1948 أكثر سهولة من أخواتها في الوطن العربي لأنها لا تتحدى نظاماً عربياً، ولأنها تطرح الديمقراطية في سياق وطني هو سياق الصراع مع الصهيونية. وليس من البطولة ولا من الإقدام طرح تناقض الصهيونية مع الديمقراطية على جبهات مثل مطلب المواطنة المتساوية، وفصل الدين عن الدولة وأنظمة الطوارئ وغيرها. وقد احتاج هذا الطرح الديمقراطي المناهض للصهيونية إلى إبداع فكري وليس إلى بطولة بداية، ولكن ممارسته باتت تحتاج إلى جرأة أكبر، ونفس نضالي أعمق بعد أن شخصته المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة كأحد أخطر التحديات التي تواجهها، وصار حملة هذا الطرح من التيار العروبي الديمقراطي يتعرضون إلى حصار سياسي وإعلامي إسرائيلي يجند معه قوى ومؤسسات عربية، كما يتعرضون إلى ملاحقة بوليسية ومخابراتية، ويتوقع أن تزداد شدة هذه الملاحقة. ولكن نضالهم مثمر على عدة مستويات، منها المستوى الفلسطيني بشكل عام.


كنا قد طرحنا نموذجا يسمح بتشخيص نزعات التطور المستقبلي لمجتمع عرب الداخل المتشكل من سكان القرى والبلدات الذين بقوا بعد النكبة على أرضها ومن لجأوا إليها ( كتاب: "العرب في إسرائيل رؤية من الداخل" والذي صدرت طبعته الأولى عام 1997 بشكل متواز في بيروت ورام الله ) وذلك بفعل صيرورتين متزامنتين:

1. عملية أسرلة موضوعية، أو مادية إذا صح التعبير، تتجلى لاحقا في نشوء ثقافة سياسية تابعة، ومشوّهة، متولّدة عن الواقع المادي دون وساطة الوعي الوطني، أي متولّدة مباشرة عن التهميش الاقتصادي الاجتماعي الحقوقي للعرب في إطار كيان قام على أنقاض الشعب الفلسطيني.

2. . صيرورة تشكُّلٍ وطني. وتتولد هذه الصيرورة عن عملية إقصاء المجتمع والدولة الإسرائيليين للمواطنين العرب بفعل سياسة التمييز والعنصرية الإسرائيلية من جهة، وعن تشكل العرب والهوية العربية في عملية تواصل لم ينقطع مع تاريخ البلاد وماضيها القريب ومع بقية أجزاء الشعب الفلسطيني والمنطقة العربية عموما من جهة أخرى.

كان مولِّدا الهوية الأساسيان هما النبذ الناجم عن التمييز العنصري، والجذب الناجم عن المشروع العربي الصاعد في حينه في أكثر من دولة عربية. ومع الزمن تعقدت القضايا، أو تركّبت. لا عاد النبذ مطلقا، ولا استمرّت جاذبية المشروع العربي، واستحالت إلى نفور من بعض نتائجه المتجسدة في واقع المجتمعات والأنظمة العربية. منذ تلك الفترة كانت مقاربتنا أن الهوية ليست معطى أبديا، بل هي نتاج اجتماعي ثقافي متشكّل ومتغيّر. وأنها سوف تتغير بفعل تغير عناصر الجذب والنبذ. وأصبح الصراع على الهوية العربية قضية نضالية لا بد أن ترتكز إلى وعي مصلحة المجتمع ذاته. فالبديل لها هو القبول بالمواطنة من الدرجة الثانية والثالثة، والتفتت إلى عشائر وطوائف.

انطلق تحليلنا لواقع عرب الداخل السياسي من:

1. أنه لا يمكن أن نفهم مسألة عرب الداخل بنيويا فقط بتجرد عن تاريخ نشوء هذه المسألة. فإسرائيل ليست دولة وطنية عادية تعيش فيها أقلية عربية تتعرض للتمييز أو الإهمال (أو تعيش فيها أقليات دينية بموجب الخطاب الاستشراقي الصهيوني). العرب فيها هم سكان البلاد الأصليون. أما الممارسات الإسرائيلية التي تتضمن مصادرة أراضي العرب في الداخل ومحاصرتهم وتجميعهم ديموغرافيا، والعمل على إعادة تشكيل هويتهم الثقافية بما يتناسب مع متطلبات احتوائهم كأقليات متنافرة في دولة يهودية، فهي ليست مجرد مركبات في سياسة تمييز في الحقوق المدنية، بل تشكّل استمرارا تاريخيا لمسألة استعمارية هي قضية فلسطين. وما زالت الدولة تضع لنفسها أجندات إيديولوجية وأهدافا استعمارية الطابع. وهي بذلك تدحض تماما نظرية "ما بعد الصهيونية"، أو تختزلها إلى حالة ثقافية "تل أبيبية" تنتشر في زمن السلم والوفرة. وتنكمش في زمن التوتر والحرب.

2. لا يكفي فهم تاريخ القضية الفلسطينية وكيفية تحول هذا الجزء من الفلسطينيين إلى أقلية في بلده في فهم واقعه الحالي. يكفي المنهج التاريخي لفهم نشوء هذا الواقع واستمراره. ولكن هنالك ما يميّز حاضرهم عن التاريخ السابق عليه، وإلا لما تميزوا عن بقية التجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي دول الشتات الفلسطيني. إنهم يتميزون عن بقية الفلسطينيين بأنهم تحوّلوا إلى مواطنين (غير مرحب بهم) في الكيان الذي قام على أرضهم، بصرف النظر الآن عن نوع هذه المواطنة ومن أية درجة هي. كان هذا ثمن البقاء، وما زال.

وقد أدى الأمران سوية إلى تغيّرات في نمط السلوك السياسي والثقافة السياسية السائدة، خاصة وأن 90% من العرب الذين يعيشون في الداخل حاليا ولدوا بعد النكبة ، أي ولدوا في هذا "الواقع الإسرائيلي"، بما فيه من متغيّرات ثقافية تمس حتى اللغة العربية في الداخل، وأقصد لغة المخاطبة اليومية ولغة الصحافة واللغة السياسية.

إن المفارقة الاجتماعية الكبرى التي عاشها العرب في الداخل أن عملية التحديث هي عملية إسرائيلية، بل هي عملية أسرلة. وهي ليست صيرورة بناء أمة إسرائيلية من مواطنين بل عملية تهويد ومصادرة وتهميش للسكان الأصليين.

3. من قارب موضوع العرب قي الداخل بمنهج بنيوي مختزل قد أخطأ منهجيا في فهم تميُّزِهم ( نقصد تميّزهم عن أقليات مهاجرة في دول أوروبية مثلا) إذ تجاهل الطابع الكولونيالي لإسرائيل. وإضافة إلى ذلك قادته هذه المقاربة إلى طرح مسألة المساواة كما تطرح في حالة المهاجرين في الدول الديمقراطية، أي كمطلب اندماجي. وقد يتطور إلى طلب الاندماج في أجهزة الأمن، وفي جهود السلام، وفي الدبلوماسية الإسرائيلية!! ولا يوجد في الواقع خيار اندماجي حقيقي أمام العرب في دولةٍ، لا هي دولة مواطنين، ولا تهدف لبناء أمة من المواطنين، ولا هي دولة تعترف ببنية ثنائية القومية. وحال المندمج قيها كحال الغراب الذي أراد أن يقلد مشية الحجل فنسي مشيته. والبديل الواقعي للهوية العربية الفلسطينية هو الهوية الهجين من العشائرية والطائفية المحلوية في ظل هوية نصف إسرائيلية.

من ناحية أخرى، فمن قارَبَ موضوع عرب الداخل من زاوية النظر التاريخية وحدها انتهى إلى عجز أمام فهم السلوك السياسي والثقافة السياسية السائدة عند عرب الداخل من التصويت إلى أحزاب صهيونية (89% صوتوا إلى أحزاب صهيونية في انتخابات الكنيست في العام 1949 خوفا، في تعبير عن سلوك المهزوم. وحافظت الأحزاب الصهيونية على أغلبية حتى ما بعد يوم الأرض أي حتى انتخابات عام 1977) وحتى نشوء أحزاب وقوى "عربية إسرائيلية"، ( أقصد أنها إسرائيلية المسلك والمنشأ والثقافة ليس خوفا، بل تشوّها) بالإضافة إلى وجود قوى وطنية عروبية وإسلامية تحاول أن تشق لها طريقا في هذا الواقع المركب.

خصوصية العرب في الداخل مقابل أقليات قومية وإثنية أخرى هي خصوصية تاريخية ناجمة عن القضية الفلسطينية، وخصوصية عرب الداخل مقارنة مع بقية الفلسطينيين هي بنيوية الطابع ناجمة عن وضعهم في الدولة التي قامت على أنقاض شعبهم. وطبعا يمكننا من هنا أن نتشعب أكثر لنجد أن التاريخي بنيوي وإلا لما تحول إلى واقع قائم، كما أن البنيوي تاريخي، فتاريخه فاعل في بنيته:

أ. بنية دولة إسرائيل تاريخية ليس فقط من حيث تطورها الاستيطاني بل أيضا في تعريفها لنفسها كدولة يهودية في الفكر والممارسة. ومن هنا فإذا طرح مطلب المساواة للعرب في الداخل بشكل كامل ودون مساومات على الحقوق، ودون التخلي عن الهوية العربية الفلسطينية، هوية السكان الأصليين، فإنه لا بد أن يتناقض مع البنية القائمة للكيان السياسي وتعريفه لذاته كدولة يهودية. من خلال هذا التناقض وجدنا ما يصل مطلب المساواة الكاملة في دولة مواطنين بالقضية الوطنية.

ب. تأطرت تاريخية الحالة العربية في الداخل في البنية القائمة، ولذلك نشأت فئات مذدنبة للمؤسسة الإسرائيلية بعقلية ونفسية المستعمَر. وفي المقابل نشأ وضع يصاغ فيه خطاب وطني، ويتخذ شكل المطالبة بحقوق مواطنة وحقوق جماعية والاعتراف بالعرب كجماعة قومية هي جزء من الشعب الفلسطيني والأمة العربية، والمطالبة بحق وضع برامج التدريس العربية، وبتطوير الثقافة العربية.

4. ينتج هذا الواقع كمًا هائلا من التناقضات والتشويهات... من الانضواء تحت لواء الأحزاب الصهيونية، وتشكُّلِ شخصية "العربي الإسرائيلي" الذي قد يخدم المؤسسة الحاكمة في حزب صهيوني أو بالتجند في الأجهزة الأمنية والجيش وجهاز السجون، وحتى إقامة أحزاب عربية قولا وإسرائيلية في الممارسة والواقع. كما نشأ في ظل التنافس الانتخابي تحت السقف الإسرائيلي نواب الخدمات الذي يتواسطون بين مطالب المواطن الفرد والسلطة الإسرائيلية الحاكمة بلغتها، أما الموقف الوطني عند هؤلاء فلا يمارس في إطار العلاقة المطلبية مع المؤسسة الحاكمة، بل يُمَارسُ خطابةً في الإعلام العربي. ويبدو هذا السلوك ممكنا، خاصة وأنه في ظروف نشوء تيار في الدول العربية المحيطة يجاهر بالتطبيع، فقد انتقل قسم من الرأي العام العربي من موقف خاطئ هو تخوين عرب الداخل بشكل عام إلى موقف خاطئ آخر هو اعتبار كل ما يقوله عربي بصوتٍ عالٍ داخل إسرائيل بطولة... مع أن الصراخ في البرلمان هو لعبة محببة في الأحزاب الإسرائيلية ذاتها، ومتفق عليها، إذا كان الصارخ مقبولا، عربيا كان أم يهوديا.

ينتج هذا الواقع الملتبس وغير العادي تشويهات سياسية وثقافية قد تطيح بالتجربة العربية الوطنية في الداخل، إذا لم تتم مواجهتها بحزم. وهو في الوقت ذاته ينتج حالة سياسية مركبة وغنية التجربة، إذا نجحت بالمحافظة على الهوية العربية الفلسطينية من جهة، وإذا عرفت كيف تعمل في إطار المواطنة بتحويل خطاب الحقوق إلى خطاب معادٍ للصهيونية... وطبعا إذا كانت مستعدة لدفع الثمن. ويشكّل هذا الموقف الأخير حالة نضالية.

وقد شهدنا في العقد ونصف الأخيرين تطور مشروع وطني ديمقراطي يطرح نفسه على الساحة بقوة، وردة فعل صهيونية من قبل المؤسسة الأمنية والسياسية والإعلامية وردة فعل "عربية إسرائيلية" عليه من قبل قوى سياسية عربية تقليدية رأت به خطرا على مستقبل تعايشها في ظل المؤسسة الحاكمة. كما شهدنا من ناحية أخرى تفاعلا غير مسبوق مع القضية الوطنية للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال عبّر عنه المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل خاصة في بداية الانتفاضة الثانية، ثم شهدنا ردة فعل إسرائيلية عليها ليس فقط في تشديد ملاحقة من تنعتهم بـ"المتطرفين" والتضييق عليهم، بل أيضا في عملية دعم و"تشجيع" من تسميه "المعتدلين"، حتى لو تأطّروا في أحزاب عربية.

لقد سن البرلمان الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة عدة قوانين تراجع الحريات السياسية وتحدد الشروط المفروضة على المشاركة في الانتخابات البرلمانية، وتمنع التواصل الحر مع الأمة العربية، كما زادت في تحديد مسألة الولاء للدولة والاعتراف بها كدولة يهودية. وشكّلت هذه تعبيرات حادة عن رد فعل إسرائيلي على نشوء قوى سياسية عربية قومية وإسلامية تجاهر بموقفها الوطني المتمسك بالهوية العربية والمعترض على طبيعة إسرائيل الصهيونية وبدعمها لحق الشعوب في مقاومة الاحتلال رافضة التحديد الإسرائيلي الرسمي لمعنى الولاء للدولة.

فعندما توفر الفكر والمبدأ والتصميم أصبح بإمكان التيار العربي الديمقراطي قلب كل قضية إلى نقيض للصهيونية. فمثلا لم يكن لدى إسرائيل في الماضي، وليس لديها أي مانع حاليا من أن يقوم مواطنوها العرب بزيارات حتى لدول عربية تعرّفها هي كدول عدو. إذ يفترض أن يأتي المانع من الدول العربية الرافضة للتطبيع مع الجواز الإسرائيلي. وقد مكَّنت إسرائيل في الماضي وفودا ونوابا عربا من زيارة دول مثل سوريا واليمن. فهي تعتبر مثل هذه الزيارات إذا تمت بإذن منها وبتنسيق معها نوعا من التطبيع. وما زالت تعتبرها كذلك. ولكن ثارت ثائرة المؤسسة الصهيونية عندما باشر التيار القومي التواصل مع الدول العربية، كعربي وليس كـ"عربي إسرائيلي". لقد بلورنا تيارا سياسيا يرفض أن يطلب من إسرائيل إذنا للتواصل مع العرب. وذلك أولا من الناحية المبدئية، وثانيا لكي لا تتحكم هي بنوع العلاقة، وذلك بقدرتها على التحديد لمن تمنح الإذن ولمن لا تمنح. والطبيعي أن ترفض وتمنح الدولة العربي الإذن، فهي الرافضة للتطبيع. هنا بدأت عملية ملاحقة قانونية لهذا التيار وسن قوانين تسمح بمحاكمة ممثليه. بذلك أوضح التيار العروبي في الداخل بحدّة الفرق بين التطبيع وبين التواصل على أساس قومي.

لقد اجتمعت أربع مركبات في طرح واحد وأدت إلى ملاحقة التيار العربي الديمقراطي في الداخل، وإلى ملاحقة كاتب هذه السطور مباشرة:
أ. التمسك بالهوية العربية الفلسطينية في مواجهة الأسرلة،
ب. دعم الحق في مقاومة الاحتلال،
ج. طرح دولة المواطنين، أي طرح المساواة على مسار معاد للصهيونية،
د. التواصل مع الأمة العربية لإخراج عرب الداخل من قفص الأسرلة مع رفض دور التطبيع وجسر السلام وغيره. وهذه كلها نقيض مشروع إنتاج "العربي الإسرائيلي" وكادت تقوضه تقريبا بعد عقود من العمل المؤسسي المنهجي لدولة بكاملها. فكيف لا يغضبون؟

وفي الوقت الذي بودر فيه إلى سن العديد من القوانين التي تهدف إلى تضييق مجال العمل السياسي على القوى التي تعتبرها إسرائيل راديكالية، وحين تعرّضت هذه القوى بما فيها التيار الإسلامي، لملاحقة سياسية وأمنية، حدث ما توقعنا منذ العام 1998. وهو اتجاه المؤسسة الإسرائيلية لتعيين وزير عربي، ذلك لأنه يسهِّلُ على المؤسسة الإسرائيلية احتواء مطلب وحلم المتأسرلين. فهي تتجه من التمييز العنصري البسيط إلى التمييز المركب القادر على احتواء مطالب رمزية، وتنفس الاحتقان، وتورط جزءً من العرب مباشرة في المسؤولية عن سياسات الدولة العنصرية. لقد تم تعيين وزير عربي مرتين في حكومات إسرائيل أحدهما في حكومة شارون الأولى.

وفي مقابل توسيع هذا النمط من فهم "الحقوق" كاحتواء في سياسة التمييز القائمة، وهذا النموذج من "المساواة"، تطرح الحكومة الإسرائيلية مسألة الخدمة الوطنية الإسرائيلية على العرب كبديل عن الخدمة العسكرية وكشكل من أشكال تعبير الشباب العرب عن "الولاء للدولة"، ولخلق فضاء سياسي "عربي إسرائيلي" ولإزالة الحاجز النفسي تدريجيا بين الشاب العربي والخدمة العسكرية.

وعلينا أن نذكر أنه يمثل خطر غياب مؤسسات دولة وطنية عربية، وغياب حتى مؤسسات اجتماعية اقتصادية عربية مستقلة. فبرامج التدريس في المدارس العربية لا تمنح الطالب أيَّ نوعٍ من التربية الوطنية، وأيّ نوع من المعرفة المنهجية لتاريخ شعبه. يفترض إذا أن يتم الحفاظ على الهويّة العربية والفلسطينية وتطويرها على مستوى التنظيم الذاتي السياسي والاجتماعي وبناء المؤسسات التي تقدم أطرا ومضامين وطنية بديلة للطالب.

ولكن محاولات التحكم في أجندات المجتمع العربي وإعاقة تنظيمه على أساس قومي تأتي من المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، ومن مصادر أخرى أيضا. فمن الظواهر التي نشأت مؤخرا أيضا في العقد الأخير ولوج مؤسسات التمويل الأجنبية، الأوروبية والأميركية ساحة العرب في الداخل، كما فعلت قبل ذلك طيلة عقود في الضفة الغربية وقطاع غزة حاملة أجندة شبيهة جدا بأجندة حزب العمل الإسرائيلي في دعم المعتدلين ومحاربة المتطرفين، واحتواء مثقّفين في صناعة الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، وإبعادهم عن الفعل السياسي المباشر، ونشر ثقافة التعايش عند الشعب الواقع تحت الاحتلال وحده، والتحكم بأجندة ما يسمى "التمكين" و"التنمية السياسية" في مواجهة التنظيم السياسي والأجندة الوطنية وحاجات المجتمع العربي. ولدينا سوابق في الضفة الغربية وفي دول عربية جرى فيها بهذه الطريقة إبعاد كمّ كبير نسبيا من المثقّفين، خاصة العلمانيين واليساريين عن دائرة العمل السياسي والوطني، أو إخضاع عملهم لأجندة صناديق الدعم الغربي.

ويجرى بشكل واضح حرمان المؤسسات ذات الأجندة الوطنية المستقلة من التمويل بما فيها المؤسسات الثقافيّة والبحثيّة التي تضع نصب أعينها إجراء أبحاث بأجندة وطنيّة مستقلّة. وكان الملفت هو دخول حتى صناديق دعم مالي يهودية أميركيّة صهيونيّة ساحة العمل في أوساط العرب في الداخل بعد الانتفاضةِ الثانيةِ، وذلك بعد أن كان دعمها يقتصر في الماضي على المجتمع اليهودي. و يمكن النظر إلى هذا الإجراء كخطوة استثنائية لأسباب سياسية متعلقة بدعم "الاعتدال" و"تشجيع" نزعات التعايش مع الصهيونيّة عند العرب، دون تغيير سياسة الدولة ذاتها.

يزداد الواقع تركيبا إذا، ولكن التركيب يفرز في تطوره نفس الصراعات على مستوى أعلى. فنفس القوى التي كانت تعارض تطوير رؤية بديلة لرؤية المؤسسة الحاكمة لمستقبل عرب الداخل كشعب، استسلمت لرغبة العرب أن تكون لهم مؤسسات وجمعيات مثلا. ولكنها تحاول الآن التحكم بها عبر التمويل وغيره، وتحوّلها إلى أدوات رقابة وسيطرة وتكريس نهج "اعتدال"... ينطبق صراع الأضداد هذا على كافة التطورات. فقد استسلمت الدولة لمطلب العرب في تحصيل حصص من الوظائف وفرص العمل، بعد مجموعة قوانين قام كاتب هذا المقال باقتراحها وتمريرها في البرلمان. فهي بدل أن ترفض المبدأ تحاول الآن أن تتحكّم بالعدد والنوع ومواقف الناس الذين يتم تعيينهم، كما تطالب بالولاء وفرض الخدمة الوطنية الإسرائيلية على الشباب العرب في المقابل. لا يتوقف التطور بعد تحقيق مطلب ما، بل يعاد إنتاج نفس أطراف التناقض ونفس الصيرورات المتناقضة على حلبة أخرى على مستوى أعلى.

لقد تزامن الوعي بحقوق المواطنة وتصعيد المطالبة بالمساواة مع ازدياد الوعي الوطني عند المواطنين العرب أنفسهم. لم تأت الوطنية على حساب المطالبة بالمساواة بل تكامل المطلبان في الصيرورة التاريخية بغض النظر عن وجود أكثر من تناقض بينهما على مستوى المفهوم. فواقع الناس الحياتي أكثر تركيبا. وتقع قوى سياسية عربية ضحية هذا التناقض على مستوى المفهوم فتعتبر أن الابتعاد عن الوطني هو شرط تحقق المدني، والعكس صحيح.

مع نشوء الحاجة إلى ضرب هوية المواطنين العرب الوطنية، خاصة بعد أن أصبحت بنظر المؤسسة تشكل تهديدا، تبنّت إسرائيل ومعها الحالة الإسرائيلية في المجتمع العربي في الداخل مجموعة آليات للتعامل منها العودة إلى وسائل قديمة ومجرّبة لتفسيخ الوعي الوطني بواسطة إحياء نفوذ ممثلي النعرات الطائفية والعشائرية. وآليات أخرى منها وضع حدود جديدة قانونية لشرعية العمل السياسي العربي، بالترهيب المباشر وبتشريع القوانين الملائمة. ومنها أيضا إطلاق النار على المتظاهرين ومحاولة ردع وترويع الناس ثم إقامة لجنة تحقيق لاحتوائهم ثم عدم احترام نتائجها، ثم إثارة نقاش حول عدم احترام نتائجها، ثم إلقاء اللوم على الضحية وهكذا... ولكن الطريقة الجديدة التي بزّت قريناتها هي محاولة التأثير على مستوى الثقافة السياسية والسلوك السياسي والأخلاق والقيم السائدة.

يجري في الثقافة السياسية "العربية الإسرائيلية"، وبحجة النزعة الواقعية والعملية نشر وتكرار تصور يختزل الناس إلى مجرد ساعين لتحقيق مآرب فردية، بما في ذلك من إلحاق ضرر بصورة الإنسان نفسه... وعلى هذه الصورة يراد أن يصمم شكل القيادة السياسية كقيادة نيابية برلمانية مطلبية تحقق مطالب فردية بواسطة العلاقة الجيدة مع الوزارات الإسرائيلية، وهذا هو مقياس "شطارة" النائب في ظل هذه الثقافة السياسية.

القيادة السياسية هي قيادة سياسية أولا. ويقاس عملها حسب الظرف التاريخي بقدرتها على إثارة قضايا ومعالجتها بموجب الخط السياسي الذي انتخبت على أساسه، وبقدرتها على المطالبة بتحسين ظروف حياة الناس وفضح سياسية التمييز، وتنظيم النضال ضدها وطرح بدائل لها، والحفاظ على الموقف الوطني والعقلاني في آن. ولكن نزعة الحياة على الهامش كنصف عربي وبنصف حقوق تؤدي أيضا إلى نزعة العزوف عن السياسة إلى درجة زرع السؤال في أوساط البسطاء عشية الانتخابات للبرلمان: "وما حاجتنا إلى قيادة سياسية؟".

لقد صادروا الدولة والوطن. ويريدون تلهية السكان الأصليين بصراع على السيطرة على بلديات ومجالس محلية ضامنين بذلك أمرين: تفسيخ المجتمع ومنع تطور مؤسسات قيادية مركزية في عملية بناء وتشكل شعب، وحشر العرب في الصراع على جزء ضئيل من مقدرات ومصادر وإمكانيات الدولة التي يعيشون فيها.

في مقابل التهمة الموجهة للوطنيين أنهم يهملون حقوق الناس المدنية والانشغال بقضية الشعب الفلسطيني يمكننا أن نجرم أنه في التاريخ القصير لعرب الداخل من فرّط بالموقف الوطني فرط أيضا بالحقوق المدنية وتمسك بفتات المائدة في إطار نظام من الواسطة والزبونية للمؤسسة الصهيونية له ولأقاربه ومقايضتها بمواقف. كان الموقف الوطني دائما هو شرط التمسك بالحقوق المدنية.

لأن الابتعاد عنها هو ابتعاد عن حياة الناس، وتشرنق داخل الشعار السياسي، وتحويل القوى الوطنية إلى قوى هامشية في المجتمع العربي في الداخل. لقد تحول التيار الوطني إلى تيار رئيسي لأنه فهم ذلك.

1. نشأت داخل الأقلية العربية في إسرائيل طبقات وسطى جديدة وقطاعات عمالية وأجيرة واسعة وفئات مثقفين مرتبطة بالمواطنة الإسرائيلية وبتوسيع الحقوق في إطار هذه المواطنة؛
2. ولّدت عملية مصادرة الأرض وزوال الزراعية العربية اندماجاً معيشيا على هامش الاقتصاد الإسرائيلي، ولم تنشأ خلال السنين الستين الماضية عملية إنتاج عربية أو اقتصاد عربي مستقل يشكل أساساً لنزعة انفصالية من أي نوع؛
3. ازداد الوعي العربي المحلي للطاقة الكامنة في المواطنة سياسياً واجتماعياً خاصة على مستوى الحقوق؛
4. طرأت تحولات هامة على السياسة والمجتمع والاقتصاد أدت إلى ارتفاع مستوى المعيشة بشكل مطرد في العقدين الأخيرين بما في ذلك مستوى معيشة المواطنين العرب وذلك رغم اتساع الهوة بينهم وبين اليهود بالمقاييس النسبية؛
5. توسّعت حقوق المواطنة بشكل عام نتيجة لسلسلة من التشريعات اللبرالية وقرارات المحكمة العليا بما يتلاءم مع تطور المجتمع اليهودي الإسرائيلي نفسه. ومؤخرا حصلت ردة حقيقية في عملية اللبرلة هذه حين بدأت القوى العربية الوطنية بالاستفادة منها. فعادت إلى حدودها المقصودة أصلا، وهي حدود المجتمع اليهودي.

إضافة لهذه التطورات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية علينا أن نأخذ بعين الاعتبار متغيّرين أساسيين كان لهما أعظم الأثر على المزاج السياسي للمواطنين العرب:
1. أزمة المشروع القومي العربي منذ بداية السبعينيات، هذه الأزمة التي وصلت قمتها في حرب الخليج الموسومة "حرب الكويت"،
2. ولوج حركة التحرر الوطني الفلسطيني بعدها وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي "عملية السلام" كعملية تسوية تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، وهبوط توقعاتها من العمل الوطني داخل الخط الأخضر إلى درجة الاقتصار على توقعها أن يدعم العرب في الداخل "العملية السلمية" وأن يدعموا مواقف السلطة الفلسطينية في المفاوضات.

لم يعد بإمكان الحركة الوطنية ولا بإمكان التيار القومي إدارة الظهر لموضوع المواطنة. فهو لم يولها الأهمية اللازمة عندما احتلت مكاناً أقل أهمية على جدول أعمال المواطنين العرب، فتصدّرت العمل المطلبي قوى انتهازية أو قوى متأسرلة وصهيونية. ولقد لوحظ فعلا ازدياد قوة نزعة اندماجية ترافق مطلب المساواة منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وكادت هذه النـزعة تؤدي إلى زوال الفرق بين أحزاب اليسار الصهيوني والأحزاب العربية. ومع إقامة التجمع الوطني الديمقراطي حصل انقلاب في الخطاب السياسي العربي في إسرائيل باتجاه تأطير مطلب المساواة ضمن مشروع دولة المواطنين بحيث اشتُقَّت منه مطالب "مساواتية" لم تخطر ببال القوى السياسية الفاعلة في المجتمع العربي حتى ذلك الوقت، كما طرحت أفكار ترمي إلى تجذير الهوية العربية الفلسطينية على مستوى الخطاب السياسي مما اضطر القوى السياسية الأخرى الفاعلة على الساحة العربية إلى مجاراة التجمع والتراجع عن لهجتها الاندماجية. كما حصل انقلاب آخر على مستوى آخر وخطاب مختلف مع انشقاق الحركة الإسلامية وقيام ما سمي بتيار "الحركة الإسلامية الشمالية". وهذا يتطلب مبحثا خاصا.

ليس خيار الانفصال واردا عند العرب داخل الخط الأخضر. وهو غير وارد جغرافياً، ولا اقتصادياً، ولا سياسياً. فالعرب هنا لا يعيشون على وحدة جغرافية واحدة أو اثنتين كما هو الحال في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا يشكلون وحدة اقتصادية تعيد إنتاج ذاتها، ولو نسبياً، باستقلال عن الاقتصاد الإسرائيلي. ونشاطهم السياسي، بما فيه إقامة الأحزاب، يتم ضمن حدود وحقوق المواطنة.

من ناحية أخرى إن الصفة العربية الفلسطينية للمواطنين العرب سابقة على قيام الدولة الصهيونية. هذه صفة جماعية، وليست فردية. وهي سابقة تاريخياً على صفتهم كمواطنين في إسرائيل، وذلك رغم مطلب الاعتراف بهم كجماعة قومية ضمن القانون الإسرائيلي، بحيث يترتب على هذا الاعتراف حقوقاً جماعية تعترف بها الدولة العبرية كحقهم في الحكم الذاتي. ولكن علينا أن نتذكر أن قوميتهم ليست مرهونة بهذا الاعتراف.

ولذلك قبل أن تضطر هذه الدولة إلى التعامل مع المجتمع العربي في إسرائيل كجماعة قومية يتوجّب على المجتمع العربي أن يطرح ذاته كجماعة قومية أصيلة منظمة في مؤسسات وليس كمجموعة من الطوائف أو الأقليات.

لا بد إذا من طرح المواطنة ليس بتناقض وإنما بتناسق مع الموقف السياسي والقومي بحيث لا تتحول مطالب المساواة إلى عملية أسرلة وصهينة وتهميش. والتقدم في النضال المطلبي لا يتم إلا ببوصلة "دولة المواطنين" التي تشير إلى تناقض مع صهيونية الدولة.

فقدت القرية العربية في الداخل منذ النكبة اقتصادها الزراعي دون أن تطور اقتصادا آخر. وهي إضافة إلى ذلك لم تفقده لصالح مدينة عربية مفتوحة لهجرة الريف إليها. ولم تشهد القرية هجرة حقيقية إلى المدينة على أثر خراب الزراعة بفعل مصادرة الأرض، بل بقيت القرية في مكانها دون زراعة ودون اقتصاد تتضخم وتنتفخ وتصبح بلدة، ثم مدينة في عرف وزارة الداخلية الإسرائيلية. وهي تأوي ليلا عمالا وموظفين يعملون نهارا في اقتصاد المدينة اليهودية. أما الاقتصاد المحلي الوحيد فما هو إلا مهن وخدمات تقدم إلى هؤلاء العاملين المنتجين في الاقتصاد اليهودي.

هجّرت النكبة البرجوازية التي كانت صاعدة في مرحلة الانتداب، كما هجر الإقطاع ونخبة المدينة الثقافية والبيروقراطية مع المدينة الفلسطينية ذاتها في عملية التهجير في النكبة. وبعد عقود فقط نبتت برجوازية جديدة وفقيرة العدد على هوامش الاقتصاد الإسرائيلي من قطاعات مثل مقاولات البناء والوكالات والتجارة بالجملة. وهي لم تؤسس، ولا تؤسس لاقتصاد عربي جديد، وليس بوسعها ذلك. بل هي جزء من الاقتصاد الإسرائيلي، مثلها مثل بقية القطاعات الاقتصادية التي يقطن المعتاشون عليها في القرية العربية.

وفقط بعد مرحلة طويلة نشأت القوى الاجتماعية الجديدة من أبناء الطبقات العاملة والمزارعين الذي درسوا في ظل الحكم الإسرائيلي، وفي جامعاته، وتحولوا إلى فئات مهنية وطبقات وسطى/دنيا تقطن في القرية غالبا، ولا تندمج بالطبقة الوسطى اليهودية وتشكِّل أساسا لنشوء ثقافة جديدة، ومن ضمنها ثقافة وطنية ناطقة باسم غالبية المجتمع العربي.

القرية العربية المزدحمة والتي فقدت القرية ولم تصبح مدينة هي أحياء فقر مزدحمة في محيط المدن اليهودية. وهي في غياب الكيانية السياسية العربية تطوِّر ثقافة وعنف أحياء الفقر، كما تطور رد الفعل الوطني الذي يحاول ليس فقط أن يبلور برنامجه بل أن يصله مع تاريخه ومع محيطه الذي تفصله عنه الحدود.

ولا جدوى من محاولة تأسيس اقتصاد عربي في داخل أراضي 48 مستقل عن الاقتصاد الإسرائيلي مثلما لا يمكن تأسيس اقتصاد جزائري في فرنسا. ( مع عدم المقارنة تاريخيا وثقافيا وسياسيا). ومجرد التفكير بذلك هو استقلال عن الواقع والمنطق، ناهيك بعملية الإنتاج ذاتها والسوق والعملة والأسعار والبنوك وغيرها. وحتى البطالة والصحة ومخصصات الشيخوخة تعتمد على نظام التأمينات والضمانات القائم في الاقتصاد الإسرائيلي المرتبط بوجود دولة.

المواطنة الاقتصادية قائمة، وهي من الدرجة الثالثة أو الرابعة، ولكنها قائمة حتى لو تم التخلي عن المواطنة السياسية غير المتساوية أيضا. فالارتباط بالكينونة الإسرائيلية في غياب كيان آخر هو ليس ارتباط سياسي متعلق بالتصويت في الانتخابات فقط، بل يمتد من الغذاء والدواء والضرائب والمواصلات ورخص البناء وحتى مخصصات التقاعد والشيخوخة والتأمينات الصحية.

ولكن من ناحية أخرى، إذا تم التسليم بان التطور يجري في الإطار الإسرائيلي القائم فقط ودون أي تدخل أو تخطيط عربي مستقل فسوف تكون النتائج وخيمة، وقد كانت وخيمة حتى اللحظة. قد يرتفع مستوى معيشة المواطنين العرب حينا وينخفض حينا كحالات متأثرة بمعدلات النمو والركود وغيرها. ولكن العملية الأساسية المثابرة والعنيدة تبقى تهميش الاقتصاد العربي في الداخل، كهامش لمركز، وكمجرد ظاهرة مرافقة للتطور والأزمات في مراكز الاقتصاد الإسرائيلي اليهودية.

والوجهة الأساسية هي تحويل القرى إلى بلدات مكتظة دون تخطيط بحيث تدفع نوعية الحياة لتشبه جميعها أحياء فقر كبرى ، أشبه ببلدات السود towships في جنوب أفريقيا في عهد نظام الفصل العنصري، الابارتهايد، ولتصبح الحياة فيها على المدى البعيد من ناحية الجريمة والعنف الموجه نحو الداخل وردود فعل المجتمع على الحداثة متراوحة بين الأصولية والانحلال، بين سياسات هوية محلية وطائفية وعشائرية ومحاولات الاندماج فردي في الحياة الإسرائيلية وضحالة الحياة الثقافية جحيما لا يطاق داخل جيتو.

ولذلك ورغم كون العرب جزء من الاقتصاد الإسرائيلي إلا أن الوجهة يجب ألا تتلخّص في ترك الحبل على غاربه والاكتفاء بالتنظيم السياسي. فالتطور العفوي هو تطور خاضع ومتأثر يتشكل بموجب حاجات المركز اليهودي الاقتصادية وقواعده وقوانينه وليس بموجب حاجات المجتمع العربي. والسوق في النهاية هو سوق يهودي.

من أجل ذلك يلزم وجود جسم تخطيط عربي، يخطط لنوع المطالب التي تطرح على الدولة العبرية، ونوع المبادرات المطلوبة من المجتمع.

ولكي يكون الغرض واضحا، وبعيدا عن أي التباس، لا أتحدث هنا عن جمعيات تخطيط مختصة بمجلس إدارة معين وتمويل خارجي، مع احترامي للجمعيات ودورها، ولا عن مهرجانات ولا مؤتمرات ولا ورشات عمل ولا غيره. الحديث هنا عن شكل من أشكال السلطة التنفيذية التخطيطية في إطار نوع من الإدارة الذاتية للمواطنين العرب، لا أقل. ولا ينفع في مثل هذه الحالة أقل من ذلك. وطبعا يتطلب وجود هيئات تخطيط معتمدة وجود هيئات منتخبة ذات شرعية تضع السياسات التي يتم بموجبها التخطيط. ولا مناص من انتخاب المواطنين العرب لهيئة من هذا النوع مباشرة، مع دفع رسوم بالحد الأدنى لنوع من برلمان لعرب الداخل مع ميزانية لهيئات وجهاز موظفين. وليس المطلوب أن يفصلهم عن الحكم المركزي ولا أن يعطل المطالبة بالمساواة، بل بالعكس المطلوب هو أن يوفر الإجابة على تهميشهم وتميزهم. وهو غير قادر على القيام بمهامه إلا كخاص ضمن العام، وإلا كحالة ارتباط وانفصال في الوقت ذاته. فهو في حالة الاقتصاد مثلا يدرك أنه جزء من الاقتصاد الإسرائيلي وهو لا يتمكن من الانفصال عنه، ولكنه لهذا السبب بالذات عليه أن يجد جوابا على حالة دفع مواطنيه نحو الهامش على مسار تطور مشوّه هو عبارة عن ظاهرة جانبية، أو مضاعفات مرافقة لكون الاقتصاد والتخطيط هو إجابة على حاجات الاستيطان واستيعاب الهجرة اليهودية والأجندة الصهيونية عموما، وليس على حاجاته.

لا شك أن التناقض قائم في واقع العرب في إسرائيل إن كان في العمل السياسي أو بالعزوف عن العمل السياسي. والمواطن الواعي يواجه هذا التناقض في كل خطوة في السياسة وخارج السياسة. وقد أدى هذا التناقض بين الحفاظ على الهوية القومية ومطلب المساواة الكاملة إلى تأزيم القوى السياسية العربية وإلى تأزيم شخصية "العربي الإسرائيلي" المشوّهة اللاعبة على حبلين والمسترخية على تقاطع هامشين: هامش الأمة العربية وهامش المجتمع والسياسة الإسرائيلية، لاعبة دور الضحية في كل سياق، أو دور الإسرائيلي في سياق مطلب المساواة، والوطني الفلسطيني في سياق دور الضحية.

هنالك طاقة هدامة في التناقض الذي يأسر ويتملك غير الواعين لوجوده، ولكن التناقض الجدلي القائم في مواطنة العرب في إسرائيل قد يتحول إلى قوة دافعة على مساري الصراع؛ مسار المواطنة الديمقراطية والصراع ضد الصهيونية، والتأكيد على الشخصية العربية الفلسطينية المستقلة إذا كانت القيادة السياسية تعي وجوده وتعمل على أن تملكه بدل أن يملكها.

التعليقات