الثقة الحضارية بالذات لا تهزها عنصرية الآخرين../ د. عزمي بشارة

رومني أهم في الولايات المتحدة من مخرج تافه، وليبرمان أهم من رسام كاريكاتير دنماركي. فلماذا لم تخرج المظاهرت حين ألقى رومني كلمته في القدس وخلفه الأقصى مؤكدا أنها العاصمة الأبدية لإسرائيل

الثقة الحضارية بالذات لا تهزها عنصرية الآخرين../ د. عزمي بشارة

كتب المفكر العربي د. عزمي بشارة على صفحته الخاصة على الفيسبوك":

الثقة الحضارية بالذات لا تهزها عنصرية الآخرين.. ومع ذلك يجب أن يكون الموقف من العنصرية حازما.

إدانة العنصرية ضد الإسلام والإساءة المتعمدة لرسوله يجب أن تكون أمرا مفروغا منه. والأهم هو الفهم أن تشويه صورة نبي الإسلام ليس صدفة، فهو يركّز المواقف العنصرية ضد العرب والإسلام عموما عبر تجميعها في بؤرة واحدة هي شخص النبي عليه السلام. وهذا ليس مجرد مسّ بالمقدسات أو تطاول عليها، فهؤلاء لا يعترفون بهذه المقدسات أصلا، بل يقصدون التعميم مباشرة على ثقافة العرب والمسلمين عبر تركيز القدح والذم في شخصية تاريخية ودينية محورية. وبموجب هذا التفكير العنصري الجوهراني يمكن استنتاج كنه الثقافة العربية الإسلامية من شخصية النبي كما يعرضونها. وبالعامية الأميركية: "إذ كان نبيهم يبدو هكذا فيمكنك أيها المشاهد أن تتخيل ماذا يكونون؟". ووراء هذا كله لا تقف ثقافة عنصرية فحسب، بل ثمة أيضا من يستفيد سياسيا من هذه التعئبة.

هذه الإهانة وهذه العنصرية موجهة لكل مسلم، ولكل عربي سواء أكان مسلما أم غير مسلم.

ساد في الماضي وهم قديم في بعض المسيحية الأوروبية أن العرب يعبدون محمدًا، كما هو حال المسيحيين الذين يعتبرون المسيح تجسدا لله، ومن هنا أُطلقت عليهم تسمية "المحمديين" (على وزن المسيحيين) لقرون طويلة. (كما ساد عند بعض المسلمين وهم بأن المسيحيين يعبدون الصليب لأنهم يحملونه رمزا، ويرسمونه). النبي في الإسلام هو إنسان، وكتب السيرة كلها تظهر قوته وضعفه وصفاته عموما كإنسان. ولكن المس به في الغرب لا يتم من منطلق أنه إنسان معرّض للنقد، بل من منطلق عنصري وبأدوات التشويه والتجريح والكذب للحطّ من شأنه ولتشويه صورة العرب والمسلمين عموما.

الموقف من هذه العنصرية ليست مسألة مواسم بل قضية تحتاج إلى موقف مثابر وعمل متواصل ضد العنصرية والإسلاموفوبيا في الغرب. ظواهر مثل قسّ عنصري يعلن أنه سوف يحرق القرآن (يعلن؟ ولماذا يعلن؟ لأنه يبحث عن الشهرة والرواج لأفكاره وقد ساعده كثيرون على ترويجها بالضجة التي أثيرت حوله)، ورسام كاريكاتير نكرة من الدنمارك، وغيرها ظواهر هامشية. ولكن الأخطر منها هو العنصريّة التي تميز تيارا رئيسيا في الثقافة الغربية لا يتسم بالضرورة بغرابة الأطوار كهؤلاء. وخلال هذا الجهد في مواجهة العنصرية في الغرب، وقبله وبعده، لا بد أن تدان أي ظاهرة عنصرية ضد الديانات الأخرى والطوائف الأخرى في بلداننا (ضد المسيحيين، وضد السنّة، وضد الشيعة، وقد ظهرت في العالم العربي مظاهر عنصرية إقليمية وطائفية ضد العرب). وهي موجودة ويعبر عنها من حين لآخر في كتب ومحاضرات، ومؤخرا في وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى في الإعلام، ويبرّرها بعض المثقفين، من غير غريبي الأطوار. إذا لم ندن هذه العنصرية فسوف نفقد مصداقيتنا. الموقف من العنصرية موقف كوني شامل.

ونضيف:

إذا كان بوسع رسام عنصري، ولكنه سخيف وتافه ومنسي أن يثير آلافا مؤلفة بل عشرات الآلاف للخروج إلى الشارع، وإذا كان بإمكان مخرج عنصري وتافه أن يغضب الملايين. فلم لا يفعل ذلك ويصبح مشهورا؟ هؤلاء عنصريون وسيكونون بمنتهى السعادة أنهم قادرون على التحكم بغضب الملايين وأجنداتهم السياسية.

وهل بوسع هؤلاء أن يمسوا فعلا بالرسول الكريم؟ ومن هم أصلا؟

الكلام العنصري لا يزعزع إيمان أحد، ولا يمكن لأحد أن يضعف عقيدة دينية وحضارة قوية لمجرد أنه يعبّر عن عنصريته، ولكن تنافس مرشحي الرئاسة الأميركية في تملّق إسرائيل يساهم في تهويد القدس ودعم إسرائيل، وسياسة أميركا في العراق هدمت البلد، وكذلك عمليات قصف الطائرات بدون طيار في اليمن.

رومني أهم في الولايات المتحدة من مخرج تافه، وليبرمان أهم من رسام كاريكاتير دنماركي. فلماذا لم تخرج المظاهرت حين ألقى رومني كلمته في القدس وخلفه الأقصى مؤكدا أنها العاصمة الأبدية لإسرائيل. هذا، ليس قسًّا غريب الأطوار، بل مقرر سياسات. ويقوم المستوطنون في الضفة الغربية والقدس بالإساءة للإسلام والمسلمين في ما أصبح بالنسبة لهم رياضة يومية. فماذا نفعل إزاء هذه الأفعال المؤثرة فعلا؟

لا يؤثر في الدين شتائم ورسوم وفيلم رديء في بلاد أخرى. ومع ذلك يجب أن لا يمّر أي تعبير عن العنصرية، سواء أكان هذا الفيلم أوغيره من المظاهر العنصرية بصمت في الولايات المتحدة وغيرها. يجب أن يقوم العرب والمسلمون في تلك البلاد برفع الدعاوى ضد التحريض العنصري، وخوض النضال المدني لتغيير هذا الأمر في تلك البلدان، لا سيما وأن وسائل الإعلام والسينما الأميركية تسيء لصورة العربي والمسلم عموما. وقد أصبح المسلمون والعرب في أميركا أكثر تنظيما، ووعيا لمسؤوليتهم. وانتشار العنصرية أو التسامح معها أمور مصيرية بالنسبة لهم ولأبنائهم وبناتهم. والمس بالمقدسات من قبل علمانيين من ثقافة أخرى هو ليس موقفا دينيا ضد المقدسات، بل عنصرية.

من حق كل عربي أن يشعر بالاستفزاز من العنصرية، أما ردات الفعل العفوية في بلادنا، فما هي إلا دليل على عدم وضوح رؤية وغياب الثقة بالنفس. ولا يجوز تملق هذه الظواهر، وإن كانت تتضمن مشاركين يرون أنها مناسبة للتظاهر ضد السياسات الأميركية عموما في قضية حساسة. لم أر أحدا يتظاهر في الغرب ضد حرق مقر الصليب الأحمر في بنغازي مؤخرا، أو ضد مظاهر مختلفة من المس بالمسيحية والمسيحيين في كتب ومنشورات كثيرة دينية وغير دينية لا مجال لذكرها الآن، فلا أعتقد أنه يهمهم كثيرا ماذا نقول عنهم. والمفترض أن تهمنا نحن لأنها تمس بثقافتنا نحن، ولأنها تمس بالعلاقات بين أبناء المجتمعات العربية ذاتها.

تعرض بعض المحطات الفضائية العربية أفلاما أميركية فيها صور نمطية عنصرية للعرب. ويرى أبناؤنا مثل هذا الأفلام التي يظهر فيها العربي إرهابيا ومتخلفا وغدارا، أو شريرا وغنيا في صالونات بيوتنا يوميا. حبذا لو عبّرنا عن موقف شعبي من هذا.

وحبذا لو خرجت المظاهرات الآن ضد تهويد القدس أو تضامنا مع الشعب السوري وتأييدا له بعد كل هذا القتل، بدل أن يصبح مقتل 150 سوريا خبرا ثالثا بعد السفارة الأميركية في ليبيا، وبعد التظاهرات في اليمن. هذا أجدى من الانشغال بفيلم بذيء لم نره ولن نراه، ولم نسمع به إلا من الإعلام. ومن الأفضل أن يقوم المواطنون العرب والمسلمون في البلاد التي أنتج فيها الفيلم ذاته بطرح الإساءة للمقدسات وللعرب والمسلمين عموما بأدوات النضال ضد العنصرية في أوروبا وأميركا ذاتها.

أما نحن فلنناضل ضد الاستعمار وضد الاستبداد الذي يمس بالمسلمين وغير المسلمين، ولنبن حرية بلادنا وتقدمها، ولنقف ضد المسّ الفعلي الاحتلالي بالمقدسات الدينية، وبالأرض والإنسان، فآخر ما يهم شعوب واثقة تبني مستقبلها ومشاريعها الوطنية والقومية والحضارية هو ماذا يقول العنصريون عنها وعن دياناتها.

التعليقات