* تكاتفنا حول بشارة حماية لأنفسنا../ حسن عبد الحليم

-

* تكاتفنا حول بشارة  حماية لأنفسنا../ حسن عبد الحليم
لقد بات واضحا أن التهم «الأمنية» التي توجهها أجهزة الأمن الإسرائيلية للمفكر عزمي بشارة ما هي إلا اتصالات مع أصدقاء وكتاب وصحفيين في الوطن العربي ولكن خطورة تلك االتهم تكمن في أنها ملفقة وصادرة عن "الشاباك"، وتؤكد تجارب الماضي أنه في مثل هذه الحالات ليس هناك خروج مجاني ..

لقد تعودنا على اتهامات الشاباك كبالون «ينفس» شيئا فشيئا خلال عدة مراحل تمتد على فترة زمنية طويلة، ولكن أن «تنفس» الاتهامات مرة واحدة فور الإعلان عنها فهذا يعود إلى الثقوب الواسعة في حياكة الملف التي تكشف عن عورة القائمين عليه وعن الدجل إلى درجة استهبال العقول.. ونحن مدركون تماما أن تلك التهم تستهدف الوعي الوطني، وتهدف إلى خلط الأوراق من جديد وتحديد قواعد جديدة وحدود لمساحة حركتنا.

التهم الموجهة لبشارة هي تهم لنا جميعا لأننا عرب فلسطينيون نرفض التوسل والاستجداء، والنظر إلى الجرائم الإسرائيلية من الجانب الإسرائيلي للمعادلة ومعاداة أعداء إسرائيل، والترويج لديمقراطية زائفة. ولأننا ننظر إلى القضية الفلسطينية من خلال كوننا فلسطينيين وإلى القضايا العربية من خلال كوننا عربا وليس من النافذة الإسرائيلية. أعداء إسرائيل ليسوا أعداءنا وأصدقاؤهم ليسوا أصدقاءنا. وإذا اعتبر اللقاء مع أحرار ومثقفي العرب مخالفة أمنية ولقاء مع عميل أجنبي فالمشكلة فيمن يوجهها وليست فينا..

تذكرنا الذكرى الـ59 للنكبة، بحقبة الحكم العسكري في المناطق المحتلة عام 1948، وتضع المجتمع العربي الأصلاني أمام واقع جديد، يتطلب التمسك بالمنجزات والثوابت والالتفاف حول عزمي بشارة وعدم شخصنة القضية، واعتبارها قضية سياسية من الدرجة الأولى، قضيتنا جميعا..

كنا دائما على ثقة أن تغييب البعد التاريخي عن العلاقة بين الأقلية التي كانت أكثرية وبين الأقلية التي أصبحت أكثرية اغتصابا، يخلق علاقة مشوهة، وواقعا مصطنعا، وهوية دون ملامح لأناس كانت ملامحهم ساطعة ذات يوم، أمام مغتصب يفاخر بديمقراطية تسري على قسم من المواطنين؛ هم قوة احتلال، وهي(الديمقراطية) في حقيقة الحال صورة أخرى للـ "أبرتهايد" مهما حاولوا تجميلها.. ومهما بهرت بعض العرب الذين يرون نصف الحقيقة ونصف الصورة ونصف المعادلة ويغيبون واقع الاحتلال والتمييز والكيل بمكيالين والسلب والمصادرة في دولة تعرف نفسها بأنها دولة اليهود، قائمة على أنقاض الفلسطينيين.

الهوة بين الخطاب الصهيوني ونظرتنا للأحداث هي كالبعد بين إحياء ذكرى النكبة والاحتفال بيوم والاستقلال لإسرائيل. وما الهجمة التي تعرض لها د. عزمي بشارة من قبل المؤسسة الصهيونية سوى دليل على تلك الهوة العميقة التي بيننا وبينهم، الأمر الذي يدفعنا لرفع صوتنا أكثر وأكثر وبذل الجهود وتوحيد المواقف والخروج من الدائرة الحزبية الضيقة والالتفاف حول بشارة كقائد ورمز..

في دولة ليست لنا أقيمت على وطن نحن أصحابه الأصليون، مع كل ما رافق ذلك من قتل وتهجير واحتلال وقمع، ونكبات لا حصر لها، اتفق على تسميتها مجتمعة "نكبة"، تريدنا المؤسسة الصهيونية "طفرة" مشوهة تجمع ما بين متناقضات لا يمكن أن تلتقي إلا عند دنيء أو عميل أو فاقد لوعيه أو ربما لإنسانيته ونحن لسنا كذلك، رغم أن في داخلنا قلة ممن هم كذلك.

مطلوب من فلسطينيي الداخل، إسرائيليا، أن يكون خطابهم السياسي ضمن الإطار العام للخطاب الإسرائيلي، وأن يحبوا ما تحبه المؤسسة الصهيونية ويكرهوا ما ومن تكرهه وأن يعادوا من تعادي! مطلوب منا أن ننظر إلى الأحداث بعيون إسرائيلية وأن لا نتضامن مع القضايا العربية بل أن ننظر إليها من خلال اندماجنا في خطاب اليسار الصهيوني، ومن خلال ميزان مصلحة إسرائيل وتأثير الأحداث عليها وعلى صورتها وسمعتها..

حاولت المؤسسة الصهيونية على مر العقود الماضية جعلنا حمائل وطوائف، وجن جنونها حينما وجدت أن هناك من يحمل لواء الطائفة الواحدة نظرية وممارسة ونهجا في مسيرة راسخة قدمت خطابا جديدا. أرادتنا إسرائيل أن نكون «جسرا للسلام» وكانت تهدف بذلك لأن نكون جسرا للتطبيع مع العرب دون أن تقدم تنازلات للشعب الفلسطيني ودون أن تتصالح معه. وحينما رأتنا نتواصل مع شعبنا وأمتنا من خلال البعد الوطني والقومي ونحمل أفكارا لا تروق لها خرجت عن طورها .. وذهبت ترسم حدود الأشياء من جديد وحينما وجدت في المقابل من يحسن استخدام أدواتها لجأت إلى السلاح الأخير "الأمني" ضد بشارة

حاولت الدولة العبرية خلال العقود الماضية ترسيخ الدونية لدى العرب، وحملهم على القبول بأسرلة كاملة دون أن تكون الدولة حتى لمن قبلوا بتلك الأسرلة صاغرين، لأنها دولة اليهود. وتتوقع منا أن نقدم الولاء صبحة وعشية، مجردين من تاريخنا وثقافتنا وأخلاقنا، وأن نرضى بالفتات الذي يلقى لنا وأن نراه غنيمة وإحسانا، ونسبح بحمد الدولة، وأن نشعر تجاهها بالامتنان، وأن نعبر عنه بابتذال.. وحينما وجدوا أن هناك من يواجههم بكبرياء لم يعهدوه وأنه خرق قواعد اللعبة بدأوا اللعبة بقواعد جديدة.. والمستهدف ليس بشارة وحده بل أيضا فكره ونهجه وما بناه...

وقد أكدت شولميت ألوني، يوم أمس الخميس، أن «الشاباك عمل على تلفيق ملف لبشارة لكون الأخير ذا تأثير واسع وثقافة عالية وذا كبرياء وخطيباً متميزاً، وأنشأ علاقات مع العالم العربي». مضيفة: "لهذا السبب لم يستطيعوا تحمله ورغبوا في التخلص منه عن طريق تلفيق ملف له". وكانت ألوني في السابق قد حذرت من حياكة ملف ضد بشارة، قبل أن يعلن عن القضية. يذكر أنها تتحدث من منطلق حرصها على «الديمقراطية الإسرائيلية».

هناك جهات عربية غرقت في الأسرلة وتتماشى مع ما هو مطلوب منها صهيونيا رغم أنهم يمثلون أمام العرب أدوارا أخرى.. متأثرين بمخاتير حقبة الحكم العسكري.. فما زال هناك مخاتير من تلك الحقبة إلا أنهم لبسوا وجوها أخرى فهم اليوم على هيئة مسؤولين أو أعضاء كنيست أو حتى صحف.. أما الذين يعتاشون على الأموال الصهيونية علنا واعتبروا في المؤتمر الصحفي للشرطة، يوم الأربعاء الماضي، الذي خصص للتحريض على بشارة تحت عنوان الكشف عن التهم، أن «الجانب المالي من التهم هو ما يهم الوسط العربي»، فهم يعتاشون على أموال الدعاية من المؤسسات الصهيونية والدعايات لعمير بيرتس وباراك وبنيامين بن العيزر إلى آخر قائمة القتلة، وعلى أموال حزب العمل وكديما والليكود. ويفاخر هؤلاء بـأنهم «عرب إسرائيل» ويشاركون في حرب الشاباك ضد عزمي بشارة وهم جند له دون خجل. أود أن أسأل هؤلاء الأقزام الغارقين في "صهينتهم" المتباهين بمغتصبهم وحاملين ألويته.. من أشرف مال الأحزاب الصهيونية الذي تغرقون به أم المال العربي لحركة وطنية شريفة إذا توفر؟ وهل التبرعات العربية إذا توفرت للحركة الوطنية «فضيحة» بينما أموالهم الصهيونية التي تلطخهكم عفيفة..؟ أي منطق وأي سقوط ما بعده سقوط.
نعرف أن الشاباك والشرطة يحاولان ترويج تلميحات مغرضة. ومن يعرف أساليب الشاباك ومراحل استهدافه للوطنيين الشرفاء يعرف أن بث التلميحات والإشاعات المغرضة عن طريق متحدثيهم وعملائهم وأذنابهم تشكل مرحلة هامة من مراحل الاستهداف.. فلا تكونوا يا أقزام جنودا للشاباك ضد أحرار شعبكم وأشرافه واخجلوا قليلا إذا تبقى فيكم بعض من الخجل وأشك في ذلك..

إن ما تطالبنا به المؤسسة الصهيونية وعملاؤها وأذنابها- هو المستحيل بعينه لأننا الجزء الباقي من شعب شرد وهجر ويرزح قسم منه تحت نير احتلال هذه الدولة. إن تضامننا مع القضايا العربية يأتي من منطلق عروبتنا، ومع القضية الفلسطينية من خلال فلسطينيتنا، لا نخبئ ذلك ولا نخجل بذلك.. لأننا يجب أن نخجل إذا كنا غير ذلك.. الدولة التي نحمل نصف مواطنتها قامت على أنقاض شعبنا وما زال أقرباؤنا وإخوتنا في مخيمات اللجوء يحملون مفاتيح منازلهم، لهذا لا يمكن أن نتصالح مع الدولة ما لم تتصالح مع الشعب الفلسطيني وفق الرؤية الفلسطينية لحل الصراع وضمن إطار المساواة الكاملة ودولة لجميع مواطنيها بكل تبعاتها وإسقاطاتها.. وبرموز مشتركة.

لهذا مطلوب منا الالتفاف واحتضان وتبني «قضية بشارة» باعتبارها، قضيتنا جميعا.. واعتبار أن الهجمة تستهدف صوتنا ومنجزاتنا ومشروعنا الوطني والقومي.. وليس شخصا بعينه.. بشارة هو قائد المسيرة وعلينا أن نتكاتف حوله لأننا بذلك نحمي المسيرة ونحمي أنفسنا ونضع قواعد جديدة للتعامل، من أجلنا ومن أجل أبنائنا وأجيالنا القادمة..



التعليقات