* عزمي بشارة كشاهد على طبيعة "الدولة"../ طلال سلمان

* عزمي بشارة كشاهد على طبيعة
بد من قراءة لبنانية أمينة لتقرير لجنة فينوغراد التي شكلتها الحكومة الإسرائيلية لتحديد أسباب فشل حربها على لبنان، في الصيف الماضي، وصولاً إلى تحديد المسؤولين، سياسياً وعسكرياً، عن ذلك الفشل الذي رأى فيه البعض نقطة تحوّل خطير في دور إسرائيل ومستقبلها في المنطقة.

ولا تستهدف القراءة الأمينة المقارنة بل المفارقة التي تطرحها مساءلة إسرائيل أبطال حربها على فشلهم المدوي، مع تعامل بعض القوى السياسية في لبنان، وبينها بعض السلطة، مع المقاومة التي كانت بسالة مجاهديها بين الأسباب المباشرة «للهزيمة» التي هزت إسرائيل هزاً عنيفاً لا يشكّل هذا التقرير إلا قمة جبل الثلج، أما النتائج السياسية والعسكرية فلسوف تتوالى تباعاً وقد تبدّل في الاستراتيجيات والتكتيكات الحربية على المستوى الدولي وليس الإسرائيلي فحسب.

القراءة اللبنانية تثير المواجع وتنكأ جراحاً لما تزل نازفة، خصوصاً وأنها تفتقد وحدة المنظور ووحدة اللغة ليمكن الوصول إلى نتائج واحدة تفيد هذا الوطن الصغير في مستقبل الصراع الذي لم ينته مع الحرب الإسرائيلية في تموز الماضي، والذي سيبقى مفتوحاً برغم كل قرارات مجلس الأمن التي توالت بوتيرة متسارعة بهدف تضميد الجراح الإسرائيلية ونقل المساءلات والمحاسبات إلى لبنان لتعميق الانقسام فيه..

أما على هامش التقرير وانعكاساته فيمكن استذكار حدث ما زال مفتوحاً، قد لا يبدو شديد الصلة بالتطور الإسرائيلي الجديد، مع أنه ـ إذا ما دققنا النظر ـ يقع في صميم سياقه وليس على هامشه: وعنوان الحدث ببساطة المحاكمة التي تحضّرها إسرائيل للمناضل العربي عزمي بشارة.

وببساطة يمكن الجزم أن هذه «المحاكمة» التي افتعلت، وفي هذا الوقت بالذات، والتي تدرّجت نزولاً من السياسة إلى الأمن، بهدف تجريد عزمي بشارة من ملامحه الأصلية وتحقير تاريخه النضالي بتحويله إلى «مخبر» وإلى «مهرّب» أو «مبيّض أموال»، إنما تشكّل الوجه الآخر لمساءلة حكومة إيهود أولمرت.. حماية لطبيعة إسرائيل العنصرية ولصورتها كالقوة الجبارة الوحيدة فوق هذه الأرض.
وخطورة عزمي بشارة، في هذه اللحظة، أنه «شاهد من الداخل»..

ومع أنه لم يقل في الحرب وأبطالها أكثر ممّا قاله التقرير، إلا أنه بموقفه قبل أقواله كان الدليل على ما هو أخطر بكثير: إنه «الشاهد العدل» على النهج العنصري العدواني الذي تعتمده هذه «الدولة» التي أساسها ـ أمس واليوم وغداً ـ الجيش، هي التي قامت بالحرب، وتستمر بالحرب، ولا يمكنها أن تعيش إلا إذا اطمأنت إلى أن عدوها قد عجز نهائياً عن الحرب واستسلم، بالمطلق، وبغير شروط.

خطورة عزمي بشارة والدور الذي لعبه، قبل هذه الحرب وخلالها وبعدها، أنه فضح ما لم يتطرق إليه تقرير فينوغراد، بطبيعة الحال، أي تلك الادعاءات التي زيّنت إسرائيل دولياً كنموذج غربي متقدم للديموقراطية في صحراء التخلف العربي.
.. وإنه دليل حي وملموس وكاشف لعنصرية هذه «الدولة»، وهي سمة دائمة، كانت بين «المبرّرات» التي قُدّمت لإقامتها بالقوة، وبالتواطؤ الدولي الشامل، على أرض شعب فلسطين، وهي تقدم اليوم وستقدم غداً لتمكينها من الانتصار على كل من يعترض على مشروعها اللاغي ليس لفلسطين فحسب، بل لهوية هذه المنطقة جميعاً ولطموحات شعوبها المشروعة إلى بناء مستقبلها الأفضل فوق أرضها.

إن عزمي بشارة نائب عن «الأقلية العربية» في الكنيست الإسرائيلي... لكن محاولته لمواجهة النظام من داخله قد اصطدمت بالحائط العنصري المسدود، وهكذا وفي لحظة واحدة أعادته العدائية الإسرائيلية ذات الطبيعة العنصرية إلى صورته الأصلية كعدو..

لقد كشف عزمي بشارة، وبشجاعة، فضيحة إسرائيل، وأسقط التمويه والزيف والوجوه المستعارة عنها.
إن تقرير فينوغراد يندرج في سياق المحاسبة الذاتية، وتوكيد الطبيعة الديموقراطية للدولة العنصرية، والشفافية ومصارحة الإسرائيليين بالحقائق، ولو موجعة..

لكن ذلك يقدم للإسرائيليين وحدهم.. أي للمستعمرين المستقدمين بالأمس فقط من روسيا، الذين صاروا في غمضة عين إسرائيليين، للفالاشا الذين صيّرتهم ـ هم الأفارقة ـ إسرائيليين، للألمان، للبولنديين، للمجريين، للفرنسيين، للبريطانيين (أصحاب الفضل التاريخي)، للأميركيين، خصوصاً للأميركيين..

أما أهل الأرض والتاريخ، أهل الشمس والبحر والهواء والنجوم،
أما مَن زرعوا الصخر واستنبتوه زيتوناً وبرتقالاً ودروباً إلى الأنبياء ورسالاتهم السماوية..

أما هؤلاء فلا يحق لهم أن يشاركوا في القرار، وبالتالي في تأمين سلامتهم كعائلات وأطفال ومنازل توارثها الأحفاد عن مئات الأجداد، وإن كان من «واجبهم» أن يتحمّلوا نتائج الحروب وهم قابعون في خانة «المتواطئين مع العدو» و«المشكوك في وطنيتهم»!

التقرير يفضح تقصير الحكومة والجيش بوزيره وقادته.. أما عزمي بشارة فيفضح طبيعة «الدولة»، بادعاءاتها الديموقراطية، ونموذجها الحضاري، والذي زرع ـ ولو بالقوة ـ في صحراء الدكتاتورية..

التقرير يفضح العجز عن الحرب، أما عزمي بشارة فيفضح العجز عن «السلام»، حتى لو جاءهم به العرب صاغرين، لأنه ضد طبيعة إسرائيل.

وإذا كانت «الدولة» بصدد محاسبة سياسييها والقادة الذين فضحوا قصور جيشها، وهزوا صورتها بوصفها القوة التي لا تقهر وصاحبة القرار في شؤون المنطقة ومصيرها، فإن عزمي بشارة قد كشف عجز هذه «المستعمرة الاستيطانية» عن أن تكون «دولة طبيعية»، بالمعنى المألوف والمعروف، وأن يكون «المستعمرون» الذين استقدموا من أربع رياح الأرض «شعبها» البديل من شعبها، صاحبها، بشهادة أن أديم الأرض من أجساد أجداده وأجداد أجداده... ولو كره تجار الهزائم، ومتعجلو الاستسلام في القمة قبل السفح.


"السفير"

التعليقات