إسرائيل وفلسطينيو 1948 و«رأس الذئب الطائر»../ محمد خالد الأزعر

إسرائيل وفلسطينيو 1948 و«رأس الذئب الطائر»../ محمد خالد الأزعر
جاء في التقرير السنوي لمركز مكافحة العنصرية داخل إسرائيل أن معدل الفقر بين المواطنين العرب هو 57 في المئة ويرتفع بالنسبة لشريحة الأطفال إلى 82 في المئة، وهي أرقام تبلغ ثلاثة أمثالها عند اليهود !. لكن ما أزعج أصحاب التقرير بصورة أقوى أن بيانات العام 2006 تؤكد أيضاً «صعود الخط البياني لعداء الأوساط اليهودية للعرب في الدولة إلى نقطة الخطر، وعلى نحو غير مسبوق..».

من بين الحيثيات التي أوجبت هذا الانزعاج وأوردها التقرير أن 51,2 في المئة من اليهود يعتبرون زواج يهودية من عربي خيانة عظمى لإسرائيل والشعب اليهودي؛ 30,7 في المئة يكرهون حتى سماع من يتحدثون العربية في الشارع ؛ 75,2 في المئة لا يوافقون على السكن المشترك مع عرب؛ 61,3 في المئة ليس لديهم استعداد بالمطلق لمصادقة عرب؛ 50 في المئة يكرهون العمل تحت إمرة مسؤول عربي؛ 56 في المئة يجزمون أن العرب مصدر تهديد أمني وسكاني للدولة؛ 51 في المئة يقترحون تشجيع العرب على الرحيل نهائياً من إسرائيل. ويتضح من التقرير عموماً أننا بصدد معدلات مرتفعة علي جميع الصعد المذكورة بنسبة لا تقل عن 10 في المئة قياساً بالسنوات السابقة.

كان المفترض أن تحفز هذه المعلومات المؤسسات والنخب الإسرائيلية المعنية إلى تحري أسباب البغض المتزايد من جانب يهود الدولة ضد «عربها»، سعياً للمعالجة واتقاء للفتن الداخلية، غير أن ما حدث هو العكس.. نفهم ذلك من العناية الإسرائيلية الفائضة على كافة المستويات داخل الأروقة السياسية وخارجها بتقرير آخر أصدرته دائرة الشاباك (الأمن الداخلي) بالتزامن مع جهد مركز مكافحة العنصرية، وفيه تم تصنيف فلسطينيي 48 كخطر إستراتيجي ينبغي التصدي له بكل حزم.

لم نلحظ هذه المستويات الخشبة في عين يهود الدولة التي يوثقها تقرير العنصرية، لكنها لاحظت بكل بجاحة قشة في عين الوسط العربي يتحدث عنها جهاز أمني كل مهمته التحريض والبحث عما يدين هذا الوسط ويكدر حياته. ولو كان للإنصاف والموضوعية مقام في إطار هذه المقاربة، لاعتبرت نزعات الكراهية وميول التفوق ضد العرب المومأ إليها في تقرير العنصرية سبباً كافياً لتفهم ردود فعل هؤلاء العرب العدائية التي يشير إليها الشاباك.

بمعنى أن جفاء الأقلية الفلسطينية تجاه إسرائيل ما هو إلا نتيجة طبيعية للتجليات التمييزية في سلوك الأغلبية اليهودية الحاكمة والمتسيدة والقوية. هذا دون الاستطراد إلى دور الاحتلال المرير والقمع الدامي الذي تمارسه هذه الأغلبية في الضفة وغزة في تهييج خواطر هذه الأقلية العاطفة بقوة على أبناء أرومتها الوطنية والقومية.

تقرير العنصرية يوجب مقاربة قضايا فلسطينيي 48 وأوضاعهم وعلاقاتهم مع القطاعات اليهودية بمنظورات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية. ولأن إسرائيل الدولة لم تألف التعامل بهكذا منهجية مع أي شريحة فلسطينية، فإنها سرعان ما جنحت إلي الأخذ بالوصايا الأمنية التي يروج لها الشاباك.

هذا هو المناخ الأشمل الذي ينبغي أن ندرك في سياقه الغارة المتفاعلة علي قدم وساق بحق الناشط عزمي بشارة وجماعته في حزب التجمع الديمقراطي والموالين له. فالتهديدات المرفوعة في وجه هذه القامة البارزة بسحب جواز السفر ورفع الحصانة النيابية والمحاكمة، انحدارا إلى التلويح بنزع المواطنة الإسرائيلية عنه وربما «تطفيشه» أو طرده خارج وطنه الأم، مجرد عينة منتقاة بعناية لما يمكن أن تؤول إليه أحوال العرب من طلاب الديمقراطية الحقة والمساواة في دولة «ليست لكل مواطنيها».

أنها رسالة إلى من يهمهم الأمر بأن إسرائيل إذا ما أجبرت فإنها ستختار الصهيونية والنقاء العرقي اليهودي على أن تكون دولة ديمقراطية بالمفهوم المتواتر والمستقر في عوالم الآخرين (الأغيار!).

والحق أن هذه الرسالة بتجلياتها الراهنة، ما يتعلق منها بتفضيل الحل الأمني العنيف أو الإغارة على بشارة وشروحاته الحالمة والطامحة إلي «دولة كل مواطنيها»، ليست من مبتكرات حكومة ايهود أولمرت. .فإهمال التقارير التحذيرية العقلانية، التي تنصح القطاعات اليهودية بشيء من التوازن الديمقراطي في التعامل مع العرب، تقليد حكومي إسرائيلي ثابت. لنتذكر كيف تنكرت أنماط من هذه الحكومات لآراء الداعين بدعوة الانفتاح الديمقراطي مع الأقلية العربية غداة أحداث يوم الأرض الدامي منذ 1976 إلى يومنا هذا، وكيف جرى الاستئناس عوضاً عن ذلك بالأفكار العدائية للمستشار ميرون بنفنستي.

أيضاً لنتذكر أن حكومات ما بعد هبة فلسطينيي 1948 الموازية والمزامنة والداعمة لانتفاضة الأقصى في باكورتها (خريف العام 2000) نبذت مقترحات الخبراء الاسترشادية الرامية لإرضاء بعض تطلعات العرب وحقوقهم الديمقراطية، فيما انحازت إلى تقرير لجنة أور، التي تبنت التفسير الرسمي للهبة وبررت قتل العرب برصاص الشرطة وحملت القيادات العربية، ومنهم عزمي بشارة، مسؤولية إلهاب مشاعر الجماهير.. الأمر الذي عزز النوازع العنصرية اليهودية ضد القطاع العربي وقياداته إلى المستوى اللعين الذي رصده تقرير العنصرية لعام 2006.

كذلك لا جديد في التصويب على بشارة بالذات ومحاولة النيل منه وإخراجه من ميدان نضال فلسطينيي 1948، فإرهاب هذا الرجل الفذ، نموذج الأكاديمي والمثقف العضوي صعب المراس، ربما أدى لقنوط وترويع من هم دونه من قيادات الأقلية العربية طاقة على الحركة والإبداع الكفاحي.

لا ندري إلى أي مدى ستفلح النخبة الصهيونية الإسرائيلية في سوق بشارة إلى دور رأس الذئب الطائر، لكن الرجل معروف بصلابته وقدراته على منازلة المتربصين به. ثم إن رؤاه وأفكاره انطلقت بغير رجعة ولم تعد حبيسة صدره وربما آتت أكلها ولو بعد حين مثل أية كلمة طيبة أصلها ثابت.

توحي مقاربة إسرائيل لقضايا فلسطينيي 1948، ولا سيما التكرارية المملة لمسلسل التعرض لـ «بشارة» بأن نخبة الحكم الصهيوني من الذين يستمعون القول فيتبعون أسوأه.. غير أن مقاربة الحركة الوطنية الفلسطينية لهذه القضايا ليست بدورها مبرأة من الوقوع في أخطاء ظاهرة.

لماذا ارتضت هذه الحركة بانفصال مسار فلسطيني 1948 عن المصير الفلسطيني العام؟. ما الحكمة في إيداع هذه الشريحة في جوف المشروع الصهيوني وكيانه؟. ما علة تعلق بشارة وصحبه بدولة كل مواطنيها بين يدي كيان استيطاني يجاهر بعنصريته وبأنه دولة لليهود فقط؟. وإلي أين تؤول هذه الدعوة والعاملين عليها؟!. أليس محيراً بالفعل أن يبقى النضال الوطني الفلسطيني حبيس مسارات متعددة، بما قد يفضي إلى مصائر متعددة؟!. هذه أسئلة جديرة بالنظر وقد نعود لمعالجتها.

"البيان"

التعليقات