عزمي بشارة: ربح الحرب لأنه لم يزوِّر نفسه!../ طلال سلمان

عزمي بشارة: ربح الحرب لأنه لم يزوِّر نفسه!../ طلال سلمان
من سقط الكلام أن يقال: ان إسرائيل تحاكم في عزمي بشارة العرب جميعا.. فلو كان عزمي بشارة هو نموذج “العربي” في هذا العصر لما كانت إسرائيل!

من سقط الكلام، ايضا، ان يقال: أن عزمي بشارة يحاكم إسرائيل، نيابة عن العرب جميعا، وسينتصر لهم عليها ويكفيهم شر القتال!

ان إسرائيل تحاكم عزمي بشارة لأنه أصر ان يكون هو ذاته: عزمي بشارة. ابن الناصرة، المتحدر من ترشيحا، الفلسطيني، العربي، المثقف، الواعي، صاحب التجربة السياسية المتميزة، العارف عدوه، المؤمن بقضيته، العصي على التهجين والاستلاب وتزوير الذات للاستمتاع بمزايا واحة الديمقراطية في الشرق الاوسط.

ان اسرائيل تحاكم عزمي بشارة لأنه شاهد نفي لكل ما تمثله وما تدعيه وما روجته وتروجه عن نفسها منذ إقامتها بحد السيف، قبل خمسة وخمسين عاما، وحتى اليوم.

انه شاهد إثبات على عنصرية إسرائيل: توصله أصوات أهله ومناصريه الى الكنيست، ولكن لكي ينفي وجودهم كبشر، كأصحاب حق، كأصحاب قضية، كأصحاب الأرض، وليس ليؤكد هذا الوجود ويعززه تمهيدا لانتزاع الاعتراف به وبهم بأنهم بذاتهم الأصل والأساس وليسوا طارئين أو عابرين في كيانها الثابت والأبدي! بأنه “غيرهم”.

لقد فرض عزمي بشارة ان تواجه إسرائيل عبره مأزقها: ان هي اعترفت به، كما هو، بحقيقته البسيطة، تصدع كيانها القائم فوق اسطورة الدولة العلمانية، وان هي رفضت الاعتراف بهذه الحقيقة فقد اكدت حقيقتها العنصرية القائمة على أساس ديني: دولة اليهود، لأي “عرق” انتموا!

ان عزمي بشارة يتقدم على طريق النصر سياسيا لأنه لم يزور نفسه. لم ينكر عروبته. لم يلتحق ولم يندمج ولم يلفق وجوه التشابه حتى التماهي، سواء بالتاريخ المشترك، ام بالموروثات الدينية المتقاطعة في العديد من المستويات، أنبياء ورسلا وتعاليم ووصايا وشعائر ومناسك.

انه يخوض “الجهاد الاكبر”: انه يواجه عدوه بالعقل، بالعلم، بالمعرفة، بالرأي العام، انه لا يستثير حماسة الرأي العام بل يحرك فيه عقله ووعيه بالواقع الحي كما بالتاريخ الاصلي، بعيدا عن الاسطورة المموهة بالدين او الادعاءات الحضارية المغسولة بدم الضحايا من أبناء الارض الاصليين الذين لم يكونوا ولن يكونوا مثل الهنود الحمر، أقلية بعيدة عن الدنيا وغافلة عما يجري فيها، لا تعرف كل أرضها الواسعة ولا تقدر على حمايتها، ولا تعرف الحد الادنى الضروري من حقائق العصر وبينها عدوانية الأقوياء وسعيهم الى الهيمنة والتوسع واحتكار الثروات والسلطة بقوة السلاح.

انه يحقق نجاحا ممتازا وغير مسبوق لأنه يقاتل عدوه بالسلاح الذي قصر العرب عن استخدامه لتخلفهم ولنزوع حكامهم الى التفرد والى الطغيان والعسف بذريعة المواجهة، ثم الهرب من المواجهة لأن العدو أقوى، ولأنه يهيمن على العالم بقوة المال والاعلام والأفكار وسيطرته على الشركات والمؤسسات والمنتديات والبرلمانات والجامعات ومراكز الابحاث الخ...

انه النسخة الارقى من الثوري العربي. من العقائدي العربي.
انه يجسد الصورة الاصفى للانتفاضة الفلسطينية.
انه يؤكد جملة من الحقائق المنسية او المطموسة عمدا، بينها:

لا يكون فلسطينيا من يخرج من عروبته وعليها. ولا يكون عربيا من ينسى فلسطين او يتركها للاسرائيلي يقرر مصير أهلها وأرضها، ويقرر بالتالي حاضر العرب ومستقبلهم.
ان عزمي بشارة عربي حتى لنكاد نكون مهجنين!
لقد فضحنا بعروبته المصفاة فكشف رعبنا من هويتنا الذي دفعنا الى محاولة التنصل منها، بذريعة انها سبب تخلفنا.
لقد فضح تماثلنا، كرعايا، مع أنظمتنا العاجزة.

فهو شجاع قطعا، لكن شجاعته تبدو أسطورية بالمقارنة مع جبننا وتقاعسنا وهربنا من المواجهة.
لقد أعاد عزمي بشارة الاعتبار الى المواجهة كصراع تاريخي، تتجاوز السلاح الى المنطق، العقل، الفكر، المعرفة التفصيلية بالعدو ومقارعته بفضح التناقض الصارخ بين ادعاءاته وبين حقيقته العنصرية بنزعتها الدموية الشرسة المعادية... للساميين الاصليين في هذه الارض التي درج عليها نوح وسام وسائر الأبناء والأحفاد، وما زالوا يدرجون حتى اليوم!

وبمقدار ما نجح عزمي بشارة في فضح طبيعة النظام العنصري في الكيان الصهيوني فانه قد فضح ايضا بعض أسرار الهزيمة العربية وبينها: غياب الديمقراطية، وتهاوي الاحزاب أمام السلطة، واندثار النقابات تحت ضغط المخابرات، وهشاشة “البرلمانات” معينة او مركبة “بانتخاب” مضبوط،

أعظم سلاح استخدمه عزمي بشارة لكسب معركته أنه ظل عزمي بشارة، وانه أثبت فشل أقوى دولة في المنطقة في ان تبدل من لا يريد ان يتبدل، سواء بالضعف أم بالنفاق أم بالتماهي مع مضطهده.

ببساطة، وبالوقائع العادية، وبكلمات لا تقرع طبولا كشف عزمي بشارة إسرائيل للعالم: لا الكنيست موئل للديمقراطية، ولا الهوية الاسرائيلية المفروضة تشكل حصانة او ضمانة متى اقتربت ساعة الحقيقة، ولا المحكمة طريق إلزامية نحو العدالة... فالاسرائيلي إسرائيلي، بغض النظر عن منبته وموطنه الاصلي ولونه السياسي و”هويته” الفكرية، يسارا او يمينا، عسكريا كان او مدنيا (مع استثناءات معدودة ومشهودة)، والفلسطيني عربي صاحب حق شرعي في الارض والهواء والشجر والزهر والفضاء، في الماء بحرا وبحيرات وأنهارا، وهو ينقض بمجرد استمراره فوق أرضه ذلك المستقدم من البعيد مستعمرا تسميه الدعايات زورا وتزويرا بالمستوطن، وكأنما الارض خالية بلا أهل ولا أصحاب عمروها وفلحوها وزرعوها وشادوا فيها المدن والحضارة ونشطوا في الزراعة والتجارة والصناعة أجيالا إثر أجيال.

أعظم ما في معركة عزمي بشارة هذه البساطة التي تمت وتتم بها، حتى لكأنها تعيد تثبيت البديهيات المنسية.

ولقد ربح عزمي بشارة الحرب الجديدة، وربحنا معه، لأنه ظل عزمي بشارة. ظل هو هو، الفلسطيني حتى نخاع العروبة،

وببساطة أخرجنا من “حيرتنا” المضحكة ونحن نحاول تجنب التسميات الاسرائيلية للفلسطينيين، أهل الارض، الذين أصروا ونجحوا على البقاء في أرضهم... فلقد قسمتهم إسرائيل الى “بدو” و”دروز” و”مسيحيين” و”مسلمين”، اما نحن فقد أسميناهم “عرب 1948”، فكنا كمن يسهم ولو عن غير قصد في إنكار فلسطينيتهم، أي نسبتهم الى أرضهم التي أخذت منهم غصبا.

أما وأن عزمي بشارة أكد بفلسطينيته عروبتنا، وبعروبته انتماءنا الى فلسطين، فلقد هان الأمر قليلا.


"السفير"

التعليقات