عزمي بشارة ومشقة أن تكون عربياً../ صقر أبو فخر

عزمي بشارة ومشقة أن تكون عربياً../ صقر أبو فخر
تحجر الفكر القومي الكلاسيكي عند مقولات تبلورت في الثلاثينيات. حاملو هذا الفكر سبب التحجر. ممارستهم الدكتاتورية، حالت دون التجديد والاضافة. عدم اعترافهم بالجماعات وحقوقها فتتت الأمة ولم توحدها. تجربة القوميين في الحكم أساءت الى الديموقراطية وحقوق المواطن. ثم، لماذا تحجر الفكر الأوروبي، واستمر في النظر الى فلسطين كوطن للضحايا اليهود؟ وما كان جدوى ان يقوم الفلسطيني نفسه على أنه ضحية، بدل ان يتقدم كمقاوم يطالب بحقوقه؟

في أيامنا هذه تحتدم في العالم العربي تفاعلات سياسية واجتماعية خطيرة من شأنها ان تقلب كثيرا من المفاهيم الراسخة والعقائد الفكرية شبه المقدسة. فالعملية الانفصالية الجارية في اليمن اليوم تطرح على العقل السياسي العربي معضلة فكرية وسياسية وأخلاقية جدية. صار الانفصال مطلباً شعبياً بعدما كان فضيحة وعاراً.

والانفصال في اليمن ليس مثل انفصال سوريا عن مصر في سنة 1961، أي انفصال اقليمين عربيين متباعدين جغرافياً، ولكل واحد منهما هوية تاريخية مميزة، بل هو انفصال جزء من اليمن عن الجزء الآخر، حيث لا توجد هويتان تاريخيتان منفصلتان على الإطلاق، وإنما مجرد هويات محلية فحسب كما هو موجود في أي كيان عربي.

من الممكن تفهم الدعوة إلى انفــصال المجــموعات القومية والاثنية عن القوميات الكبرى مثل انفصال جنوب السـودان المســيحي ـ الأرواحي عن شمــاله الاســلامي، او انفــصال الأكراد عن العرب في العـراق، لكن، لا يمكن فهم السعي الى انفصال عدن عن صــنعاء. والتـذرع بالهيمـنة والقمع وغياب الحــرية يبدو ملفــقاً تمـاماً في الطراز اليمني للانفصال.

إنه، بلا شك، عالم عـربي يتغير بسرعة، وتخضه هذه التغيرات المتـسارعة حتى فـقدان الصـواب لدى كثيرين من الأفراد ذوي الخبرة السـياسية. لكنه تغير معاكس للتجربة السياسية والفكرية الحديثة بمختلف اتجـاهاتها العقائدية، هذه التجربة التي أينعت على أيدي أعلام كبار في العالم العربي أمثال ساطع الحصري وقسطنطين زريق وميشال عفلق وأنطون سعــادة وخالد بكداش وخليل السكاكيني وعلي الوردي وكمال جنبلاط وعبـد الله العلايلي وكثيرين غيرهم. انه تغير مهين بالفعل في بعض وجوهه، فبعض العنصريين الجدد لا يتورع عن استعمـال عبارة «البــلدان الناطقة بالعربية»، او «الاستعمار السوري للقامشلي»، بل غيّروا اسم القامشلي السريانية التاريخية إلى «قامشلو».

عربي في هذا الزمان؟

لماذا وصلت «الفكرة العربية» إلى هذا المنحدر؟ هل لأن الفئات الاجتماعية التي تمكنت، لأسباب شتى، من الاستيلاء التدريجي على السلطة انقلبت على وعودها لتصبح على هذا المقدار من الانحطاط؟ وكيف استطاعت هذه الفئات الصعود التسللي إلى قمة السلطة في الأساس؟ وما هي التحولات التي اعتملت في داخل المجتمع وأتاحت لهذه الفئات ان تتحكم برقاب الناس وعقولهم وأجسادهم ومصائرهم؟

عزمي بشارة يحاول أن يتصدى لهذه المشكلات بالتفكيك والتعليل والإيضاح واكتشاف الأسباب ورصد الغايات. وفي سياق هذه المحاولة أصدر كتاباً جديداً وسمه بعنوان «أن تكون عربياً في أيامنا» وقد جعله في ثلاثة أقسام (15 فصلاً) تناول فيها عددا من القضايا الحيوية والخلافية معاً. وهذا الكتاب، بتفصيلاته الكثيرة، عبارة عن جولة نقدية في القضايا الراهنة التي تخض العالم العربي. وسنركز في هذه القراءة على مدخلين: القومية والعروبة والمواطنة، الخطاب الحقوقي والخطاب السياسي وفلسطين.

القومية والمواطنة

يفرّق عزمي بشارة بين القومية والعروبة. فالقومية لديه هي رابطة لـ «جماعة متخيلة. لكنها ليست متخيلة من لا شيء، بل من عناصر قائمة في الواقع مثل اللغة والثقافة وعناصر التاريخ المشترك» (ص16)، وهي «غير العروبة القائمة منذ ألفي عام» (ص17). إذا، العروبة لدى عزمي بشارة هي معطى تاريخي مستقل، إلى حد بعيد، عن الارادة، بينما القومية انتماء سياسي وثقافي مرتبط مباشرة بالخيار الحر للأفراد والجماعات. وفي هذا الميدان، ما الذي يميز الفكر القومي العربي عن غيره من الأفكار؟ ما يميزه، بحسب عزمي بشارة، هو أنه «يعترف بوجود قومية عربية لديها الحق في ان تصبح أمة ذات سيادة (...). وأفضل تعبير عن إرادة هذه الأمة هو الديموقراطية. وان الوجه الآخر لسيادة الأمة هو مبدأ المواطنة المتساوية وحقوق المواطنة، وأن الحقوق الاجتماعية مثل التأمين الطبي والتعليم المجاني وحقوق العامل هي جزء من عملية بناء الأمة» (ص14).

وبهذا المعنى فإن عزمي بشارة يؤسس مفهوم الأمة الحديثة على القومية والمواطنة والعدالة الاجتماعية معا، وهي قضايا قلما التفت اليها منظرو القومية الكلاسيكيون. وفكرة المواطنة المتساوية تقدم لنا مدخلا عصريا لحل مشكلة الأقليات غير العربية على الأرض العربية، فضلا عن كونها مسألة حيوية لا يمكن إدارة الظهر لها في عالمنا المعاصر.

لقد تحجر الفكر القومي الكلاسيكي عند مقولاته التي تبلورت في ثلاثينيات القرن العشرين فصاعداً، ولم يتمكن إلا في حالات قليلة جدا وجزئية من إضافة مفاهيم حديثة الى منطلقاته الأولى، كمساهمات ياسين الحافظ، على سبيل المثال، ونديم البيطار إلى حد ما. هنا، في هذا المجال، يرى عزمي بشارة «ان العائق الأساس أمام تطور الفكر السياسي المنطلق من وجود قومية عربية لها الحق في أن تتحول إلى أمة ذات سيادة، هو ممارسات حاملي هذا الفكر في دول مثل مصر وسوريا والعراق (...). كما أن تجربة القوميين في الحكم تشكل عائقا أمام التجديد في قضايا الديموقراطية وحقوق المواطن» (ص14 و15). وأبعد من ذلك فإن عزمي بشارة يصر على الاعتراف بالحقوق الجماعية للقوميات الأخرى في العالم العربي، فكما أن «القومية العربية هي جماعة متخيلة كجماعة سياسية، كذلك فإن هنالك جماعات أخرى غير عربية تعيش في الأقطار العربية، ولأعضائها ليس فقط حقوق مواطن في الدولة العربية، بل يجب الاعتراف بحقوق جماعية للجماعات التي تصر على تعريف نفسها غير عربية عبر حركاتها القومية ضمن الدولة القائمة» (ص18).

الخطاب الحقوقي وصناعة السلام


يعوِّل الفلسطينيون كثيراً على الاهتمام الدولي بقضيتهم، ويصرفون طاقة كبيرة من جهدهم لاطلاع الاوروبيين والعالم على تفصيلات القضية الفلسطينية وحقائقها ووقائعها، وهم يحسبون الاهتمام الأوروبي بهم اهتماماً جدياً حقاً. وفاتهم ان هذا الاهتمام، في معظمه، إنما هو اهتمام بإسرائيل وبمصيرها بالدرجة الأولى، وبالمسألة اليهودية في نهاية المطاف. وكلما ازدادت حركة التحرر الوطني الفلسطيني حضورا في المنتديات الدولية ازداد اهتمام الغرب بها. وتبدو هذه المعادلة بدهية في الميدان السياسي الواقعي. لكن ما لا تكشفه الوقائع للوهلة الأولى هو أن هذا الاهتمام الدولي هو، في جوهره، اهتمام بمصير اليهود واسرائيل أولا وأخيرا، واستثني من ذلك بعض الفئات الأوروبية الشعبية من أصحاب الضمير الأممي والانتماء السياسي المعادي للامبريالية. ويرى عزمي بشارة ان السلوك السياسي للفلسطينيين يُظهر تصورا فاضحا في مخاطبة الرأي العام الغربي، فهو ما يزال يشدد على صورة اللاجئ المسكين، أي «الضحية».

لم تنفع تلك الصورة في التأثير في الرأي العام في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية إلا جزئياً، وبحصيلة لا تتناسب على الاطلاق مع الجهد المبذول فيها، لأن «الضحية» التاريخية التي ما تزال راسخة في الذهن الأوروبي والأميركي، هي اليهود، لكنها الضحية التي انتصرت.

ويقول عزمي بشارة ان الفلسطينيين لم يتعلموا الدرس حتى الآن، أي ان تقديم الفلسطيني كضحية مسكينة لا يفيد البتة، وكان عليهم ان يقدموا الفلسطيني لا كضحية، بل كإنسان مضطهد يسعى إلى إزالة الظلم الذي حاق به، انه إنسان معاصر يقاوم في سبيل هزيمة العنصرية والاضطهاد القومي، ومن أجل انتصار الحرية والديموقراطية والمبادئ الانسانية.

في جانب آخر كان من الواضح ان عملية السلام التي بدأت في مؤتمر مدريد سنة 1991، ثم اتخذت مسارا جديدا تماما مع اتفاق أوسلو في سنة 1993، تحولت، بالتدريج، الى صناعة دولية. ويعتقد عزمي بشارة ان المنتجات الجديدة لهذه الصناعة عبارة عن ندوات ومؤتمرات وورش عمل وحوارات ومفاوضات ووفود وتقارير ودراسات وأوراق عمل وجمعيات أهلية تجهد في سبيل نيل المساعدات المالية من الهيئات الدولية المانحة.

وهنا، في هذا السياق، يلعب الفلسطينيون، من دون ان يدروا في بعض الأحيان، دور الكومبارس أو «الردّيد» الذي يقتصر شأنه على مرافقة المغني الأصلي لا أكثر. وصار الفلسطينيون في هذا الميدان مثل الملح في الطعام: لا بد منه أحيانا، لكنه غير ضروري في الوقت نفسه.

ان الاهتمام الدولي بالفلسطينيين، ولا سيما باللاجئين منهم، والاندفاع المحموم لإيجاد مخارج لمشكلتهم كالتوطين او استيعابهم في مجتمعات جديدة، وهو ما يعني التهجير والتوطين معا، يعكس السعي الدولي للتخلص من آخر عبء على المسألة اليهودية التي ما زالت جزءا من الهوية الأوروبية والفكر الأوروبي الحديث. ولاحظ عزمي بشارة أنه كلما ازداد الاهتمام الأميركي بالفلسطينيين، ازداد الضغط على العرب وعلى الفلسطينيين لتقديم مزيد من التنازلات، والذريعة دائما هي إزالة العوائق أمام جريان التسوية السياسية نحو مستقرها المجهول (ص 146 ـ 147).

[[[

ما زال عزمي بشارة صانعاً للأفكار، وهي أفكار حيوية وسجالية ما برحت تعانق أسئلة الواقع بحرارة، وليست مجرد أفكار تأملية منفصلة عن الواقع على غرار أفكار المشايخ او الأفكار التي شاخت. وهذا الكتاب الجديد هو شوط إضافي في المسيرة الفكرية المديدة لعزمي بشارة، وهو شوط فيه الكثير من الرؤى التي تستدرج العقول إلى التفكير والاستيقاظ والمساجلة.

الكتاب: أن تكون عربياً في أيامنا
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية ـ 2009 ـ بيروت


"السفير"

التعليقات