هوامش (فصول.. عزمي بشارة)../ طلال سلمان

-

هوامش (فصول.. عزمي بشارة)../ طلال سلمان
القائد السياسي شاعراً: «فصول» عزمي بشارة
لا تستعاد الطفولة وسنوات الصبا إلا شعر!
كيف لك ان تصف راحة يد امك مبللة بماء الورد وهي تحاول ان تطفئ ارتفاع حرارتك وقد تلمستها بشفتيها حين انحنت لتقبلك فتوقظك صباحا؟!

كيف لك ان تروي مطاردتك الفراشة كي تمسك بها فتقدمها شهادة كفاءة لتلك البنَيّة التي قرأت في عينيها اهتماما بك من دون أترابك ولم تكن تملك اللغة لتقول اهتمامك؟

كيف لك ان تكشف اسرار جلوسك ساعات أمام حسون في قفص، تتحرش به كي يطلق تغريداته فيطربك، فاذا ما انتشيت أخذت قلمك لتكتب ما سوف يكون رسالة حب إلى من أشارت عرضا الى انها تبتهج عند سماعها قيثارة الحسون تملأ الأفق من حولها؟

وكيف لك ان تروي اعترافات المراهق فيك، وكيف كنت تسافر في الحلم فتنفتح امامك أبواب بهجة يمتنع عليك أن تجهر بها، فتكتفي بأن تخبئها في صدرك، فتتزايد ضربات قلبك حتى تلهث تهيبا من ان يكتشف الأب انك قاربت ان تدخل عالم الرجل فيه، فيختلط خوفه عليك بخوفه منك، وقد أدرك انك تدفعه بشراسة البراءة فيك نحو الكهولة؟

كيف لك ان تستذكر خصومات الغيرة مع أترابك او مناكفات التنافس على قلوب الصبايا، وهي ما يؤكد بلوغك الشباب واكتنازك بالحق في ان تكون عاشقا او معشوقا او العشق جميعا؟

ثم، كيف لك أن تروي لأبنائك كيف انتصرت أمهم عليك وعلى نساء أخريات كنت تجول بينهن كديك الحي، متوهماً أنهن جميعا عاشقات، ثم أخذن يتخلين عنك الواحدة بعد الأخرى ذاهبات الى دُور السعادة وقد تركنك لقلق الغيرة في قلب حنون العظمة.

في «فصل» علي عن عزمي

تداعت هذه الخواطر الساذجة وأنا أقلب بفضول صفحات ما يمكن اعتباره ديوان شعر، وصلني من دون تقديم، ومن دون إهداء من الصديق الكبير عزمي بشارة الذي جبت صفاته النضالية، وموهبته ككاتب غني بثقافته غناه بتجربته النضالية الاستثنائية، وكمحاضر يحبس أنفاس جمهوره حتى يفرغ من طرح أفكاره بلهجة اللائم لمن لا يعرفها، والمقرّع لمن يحاول أن يجادل فيها.

«الكتاب» يحمل عنوان «فصول»، وقد أصدره «المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء في المغرب وبيروت»، الغلاف الأول من تصميم جنى طرابلسي، في حين أخلي غلافه الأخير لأبيات اختارها عزمي بشاره بقصد مقصود:
«فلنقرأ آية الكرسي/ او «ابانا الذي» سوانا وغادرنا/ وكنا حسبناه لم يخلق سوانا/ لا فرق ان جرى ما جرى/ او وقع حتى سقط/ او قامت او جلست القيامة او شُبّه لنا/ فعلي عصامي مخضرم/ ونعني بذلك انه عالق في اللامكان بين النقطتين/ في اللازمان بين اللحظتين».

اما «علي» فلسوف يرافقنا على امتداد «الديوان» فنراه «عزمي» وإن أنكره أو موهه او أحبه حتى كاد يكونه.
القصيدة الأولى بعنوان «حقيبة»، وهي قد توضح ما خفي في الصفحات المئة والسبعين التي ستنتشر فيها «اعترافات علي»، والتي تغطي سنوات طفولته وشبابه الأول وبعض المستقطع من سنوات شبابه الثاني.

هنا أنت أمام عزمي بشارة جديد غير «كل» من عرفت، ومن عرفت على أي حال، ليس واحدا: ففي هذا المناضل الفرد تجتمع مواهب وقدرات متعددة. إنه القائد الحزبي داخل فلسطين المحتلة، الذي ابتدع تنظيما عربيا، ثم ابتدع لتنظيمه موقعا، مفيدا من «ديموقراطية» الاحتلال الإسرائيلي ذاته. لقد قاتله بسلاحه: أفلا يدعي أنه «الديموقراطية الوحيدة» في المنطقة؟ حسنا، ليفرض عليه أن يثبت صحة هذا الادعاء في كل حين. ولما انتشر الحزب في أوساط «فلسطين الداخل» وتحت رقابة الاحتلال، وعبر الصراع مع قوانينه وبها، كان عليه أن يواجه الاتهامات من «عرب الخارج»، بمن فيهم الفلسطينيون، كما من «رفاق السلاح» في الداخل، الذين تورط بعضهم في الترويج لديموقراطية المحتل على حساب قضيته، وبذريعة غياب الديموقراطية في الوطن العربي.

ثم ان عزمي بشارة «داعية» يتنافس فيه المثقف مع القائد السياسي مع المجدد في الفكر القومي، وقد أغنته تجربته الفريدة في بابها في مواجهة الاحتلال في حرب قد تكون أشرس من تلك التي تخاض بالسلاح، ثم إنها مفتوحة ما استمر الاحتلال:

«هذا ليس كل الأماكن / أعند الذكريات تلك التي لا تباح/ ترافقه كظله، والظل لا يؤنس، لا يباح ولا يزاح/ لكن توضح الوحشة صحبته/ تبين للواحد وحدته/ مثل صدى للصمت/ مثل طيف للشرود. وقاره مشهر بالعبوس/ الى جانب مسافر محايد/ محكوم مثله كالبوم بالتحديق إلى الأمام/ كما يليق بالغرباء اذ يتجاورون/ في داخل كل منها مسافة وحقيبة وقلب على سفر/ في الذهاب يطول الطريق/ بحكم تعريف الترقب للعناق/ في الإياب تطيله عضة/ من حكم تعريف الفراق».

الجمال حي يرزق

في هذا الديوان يتخفف عزمي بشاره من أثقال شخصياته التي تجبرك على أن تظل متيقظا تتابع حدته في المناقشة، وأفكــاره الجديــدة أو المجددة في العروبة، والتي يستهجن عدم تنبــهك إلى إيمانك بها من قبل أن تقال، ويأخذك في رحلة مع الحب:

«أن تجده كان يعني بالضرورة أن يجدها/ وأن تحياه يعني أن يعيشها ايضا/ ... لم يرد حبهما في الحساب/ ليس في عمره ولا بعد هذا الغياب/
في الطريق من قبلة ما احتوتها/ كي تصفع الباب من خلفها/ وهي في الردهة تنتحب/ خطفت هويته بدل الحقيبة/ حملها عن غير قصد في السنة الألف لجنونهما المشترك».


المعادلات الرياضية تظل مسيطرة على فكر الدكتور في علم النفس والمتصدي لتجديد العروبة والفكر القومي بالاحتياج والضرورة قبل المنطق:

«أمسك بالنظرات كي لا تفلت/ كي لا تشيح بوجهها فتعود للتحديق مقطبة/
وحين تنفرج الشفتان/ أعرف أن الجمال حي يرزق/ وأن صبانا لن يخجل بنا».


لكن هذا المفكر الذي يدخل الفلسفة من بابها العريض، والذي لا يعرف كيف يستكين، فيوزع «بطالته» بعدما فرض عليه الاحتلال أن يبقى خارج فلسطين مطارداً باتهامات تبرر اغتياله إذا ما عز اعتقاله، يعيش حالة قلق دائمة:

«وحده غاضبا من ذاته، سئما من هشاشته، ريح بلا هدف تكفي لتذروها/
همس الهواجس يسني ما تبقى/ لكنه عاجز عن الإفلات من كبريائه/
من يستل يقظتي من عمق هذا الليل/ من ينتشلها من الدجى/ من يطفئ أرقي بمصباح/ من لي بمساء يحجز ليلتي دون بابه فأمضي وأبيت عندها دونها/ فلا يبلغ أذني وعيدها أن أنتظر وأنها تدور وأنها تدور ولكنها إليّ لا محالة عائدة...».


واضح أن عزمي بشارة لا يعترف بأوقات الفراغ، بل إنه إن اضطر الى ممارسة هذا الترف في انتظار الغد، استعاد أمسه ليستعيد منه ما كان يشغله مما مهد لما يشغله الآن وسيشغله غدا:

«لا عادت، ولا طلب منها أن تعود/ اكتظ المكان بوحدته/ امتلأ الههنا بالفراغ/ تزاحمت عزلة المغترب/ طفحت/ غصت بها الشقة، وما لبثت أن انكمشت وانزوت مثل فأر هارب خلف الأريكة./
شبابيك من عيون مشرعة للقلق وعيون من شبابيك مفتوحة للترقب.. ما زال ضوء القمر القديم ينبعث من أحد المساكن/
يقال إن رجلا أهداه لطفلته في عيدها الثامن/ قبل أن يرفع يديه مستسلما».


ما أزاح الآن ولا الأوان

النضال ولادة السعادة، لكنه لا يمسح وقائع الوجع داخل وطن يمتنع عليك أن تسميه باسمه، وأن تستمد منه معنى وجودك:

«في كل منعطف يلمح علي ذاته/ يهيم على وجهه في المعابر/ فاحصاً متفقداً/ تائها كالقط بين الخيارات/ يسيل الكلام من كل فتحة في رأسه/
ليس بينه وبين ذاته مسافة ولا زاوية نظر/
وخلف صباً يذكره به/ يلمح والدين مرعوبين/ خشية عليه من حب مبكر/
حين يتأملانه يختلط عليهما الجزع بالكبرياء/ ويطمئن احدهما الآخر بقلق».


قبل ذلك كان علي قد سأل نفسه بالتداعي الحر: «إلى أين يمضي من هنا/ وما أزاح الآن ولا الأوان/ ولا بحث خلف الزمان وتحت المكان إلا للتحرر من تداعيات العقل/ رجاء ينثرها فينظمها الخيال».
لكن أحلام علي المتعبة «تنحني في طريق العودة إذ تحث الخطى صعودا كالسلحفاة على معدة خاوية وحقيبة ملأى/ إلى بيوت من الصفيح رابضة على سفوح حميمة/ أو ربما ترعى وفي الحـــالين تنتظر».


ها هي الطفولة تعود إلى علي أو يعود إليها أو يستعيدها، فترانا أمام لوحة في وصف أهل فلسطين التي كانت فلسطين وستبقى فلسطين:

b>«صراع مع الأهل والمدرسين/ وصبا يصر على السراويل الطويلة
ليخفي جراحا وندوبا بلون الحارة/ فيبدو أكبر من عمره/
قبلة أم بطعم البابونج/ ورائحة نار المدفأة/ وعلى منضدة قرب السرير ضمادات نظيفة/ وتفاحة كاملة حمراء له وحده».

يقدم إليك عزمي بشارة الخاتمة التي يمكن أن تكون البداية «في رحلة قصيرة/ أعرض قليلا من حياة طويلة مستطيلة/ اتخذت النفي هوية/ ويستمر البياض/ يصل البياض حد الزرقة ويبلغ الصمت الكلام/ إن التعصب من صنوف الغباء/ ولديه بعض ما يهب».

هي صورة جديدة لعزمي بشارة، يقدمها عن ذاته الأخرى التي استقرأناها من دون تفاصيلها في من نعرف منه، هذا المتعدد في كفاءاته، القاسي في أحكامه على المتهالكين سقوطا ولم يدفعهم أحد، المستميتين على سلطة لا تصنع وطنا، المصالحين عدوهم على أهلهم.

عزمي بشارة الذي يتنفس السياسة ويحكم عليها بلغة العالم، ويمارسها كما يجب ان يمارسها بقوة الحالم، ويقاتل بحقه في وطنه بقدرة المثقف العارف بشؤون العالم، والذي ما زال يدهشه ان يجد في العرب من يريد الهرب من هويته فيحاول اغتيال العروبة، يُطل في هذه الصفحات التي ليست ذكريات تماما، وليست قصائد حب (قديم) تماما، وليست منشورا يوزعه (علي) الذي وُلد كبيرا، ليقول لنا ما لم تتسع له المحاضرات والكتب والمناقشات المفتوحة والمجلد الجديد الذي فتحه للمستقبل باعتباره العروبة.

هي مفاجأة ممتعة من رجل يفاجئنا دائما بمزيد من الكفاءات، وكلها يحتاج إلى شجاعة الذي قدم كل ما يملك ولم يطلب من أحد أن يعوضه، وما زال يرى وطنه في مدى الذراع، وإن تاه عنه الكثيرون بالقصد، أو بعمى الغرض، أو بجهل الذات والتاريخ والجغرافيا والدين معاً.

مــن أقــوال نســمة

قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أن تخوض مغامرة حب فتفشل فيها، أرحم من ان تظل واقفا عند محطة الشوق تتفحص عروض الراغبين بينما قطار الزمن يعبر بك. لا تخف الغرق في بحر الحب. إرم نفسك فيه تجد من يرمي إليك قلبه لينقذك.

"السفير"

التعليقات