جديد "قدمس": ترجمة ثائر ديب وتقديم د.عزمي بشارة؛ الجماعات المتخيلة

-

جديد
جديد دار قدمس:

الجماعات المتخيلة (تأملات في أصل القومية وانتشارها)
تأليف: بندكت أندرسن
ترجمة: ثائر ديب
تقديم: عزمي بشارة
عدد الصفحات: 272كيف أصبح كتابٌ يغطي هذا الكمَّ الواسع من الموضوعات بما لا يتجاوز المئتين من الصفحات سهلة القراءة مصدرًا جامعيًا وفكريًا لا غنى عنه في دراسة ظاهرة القوميات الحديثة؟ لا شك أن عنوانه كان أحد عوامل شهرته. ولكن العنوان يساعد في نشر الكتاب وليس في تحويله إلى مصدر أكاديمي جدي تُرجمَ إلى 30 لغة.

ولا تنتهي التحديات التي يقدمها هذا الكتاب بهذه الظاهرة. فقد قدم تحديًا أكبر من ذلك، إذ إنه أصبح مصدرًا جامعيًا مع أنه لم يطبع من قبل دار نشر جامعية، (لكن فيرسو الإنجليزية تبقى دارًا محترمة). ولم تُْطبَع ترجماته في دور نشر جامعية إلا في حالتين، إحداهما الجامعة المفتوحة في تل أبيب، (والتي طلب مني محاضر يساري أن أكتب مقدمتها قبل ستة أعوام).

فعمومًا اهتمت دور نشر من خارج المؤسسة الأكاديمية في "الغرب" و"الشرق" ومن خارج المؤسسة بشكل عام بطباعة الكتاب. ومع ذلك قلما حظي كتاب بأن يصبح وبحق مقررًا جامعيًا بدهيًا على قوائم الأساتذة والطلبة في الجامعات.

لدينا كتاب يقول عنه مؤلفه إن منهجه أكثر لِبرالية من أن يكون ماركسيًا، وأكثر ماركسية من يعد لِبراليًا. وبرأيي فإن هذا الالتباس هو بالضبط مصدر غنى الكتاب وقوته.

اشتهر كتاب بندكت أندرسن في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، في مرحلة صعود النقاش حول القوميات في وسط أوروبا وشرقها، مع أن دافعه لكتابته كان نشوب حروب أخرى بين دول اشتراكية في الهند الصينية كما سوف نرى. ولكن التاريخ القريب المتمثل بانحلال الاتحاد السوفيتي والمنظومة الأوروبية الشرقية عاد وأكّدَ منطق ‹الجماعات المتخيلة› حتى أكثر مما توقع كاتبه.

وقد سبق أن تناولتُ تلازم موضوعَي القومية والمجتمع المدني في تلك الفترة محللاً أنه ليس مفارِقًا بل هو تلازم نظري ومفهومي، وليس حتى تاريخيًا فقط، وذلك في فصل خاص من كتابي الصادر عام 1996 بعنوان ‹المجتمع المدني - دراسة نقدية". وقد تطرّقتُ هناك إلى النظريات حول القومية ومن بينها نظرية أندرسن، ولذلك لن تكون النظريات في القومية، قبل أندرسن وبعده موضوع المقدمة هنا، واكتفي بالإشارة إلى الفصل عن الفكرة القومية في كتابي ذاك.

عند وضع كتابه في السياق التاريخي لا يكتفي أندرسن بتواضع الباحث الجدي. فهو يقول عن كتابه بنبرة نقدية: إن أهميته العالمية أو عالمية انتشاره تعود لأنه صدر أولاً بالإنجليزية التي تعمل حاليا كنوع من لاتينية ما بعد عهد الكنيسة. ولو أن الكتاب ظهر في هانوي أو تيرانا للفّه النسيان.

ومن المفيد أن يقرأ بعض المثقفين العرب هذه الملاحظة حين يسرعون للاحتفاء بأي كتاب صادر بالإنجليزية والتقليل من شأن ما يصدر بالعربية. لم يفوِّت أندرسن هذه المناسبة ليضع حتى الشهرة الأكاديمية لكتابه في سياق هيمنة اللغة الإنجليزية، مع أنه كتاب جاد ومجدد لو صدر بأية لغة كانت.

لقد سدَّ هذا الكتاب ثغرةً كبيرة بين النظريات التي تعتبِرُ القوميةَ إثنيةً محدثة كما يعتبرها أمثال أنطوني سميث حاليًا، وتلك التي تعتبرها مجرد إيديولوجية برجوازية كما يفعل ذلك منظرون ماركسيون لا يمكن حصر عددهم، وثالثة تعتبرها نتاج المجتمع الصناعي كما في حالة انرست غلنر، ورابعة تضع لها تعريفات حديدية منزوعة من سياق تاريخي ومعممة على العالم بأسره كما فعل جوزيف ستالين مثلاً في كتيب عن مسألة القوميات، وخامسة ترى فيها مجرد اختراع عابر، كما فعل إيلي خدوري من اليمين وهوبسباوم من اليسار[1]. نحن هنا أمام عمل بحثي تخصصي أمين، ورؤية نظرية ثاقبة لا يمكن الاستغناء عنه في دراسة القومية والهوية في العصر الحديث.

لو وقع كتاب عربي بمائتي صفحة تغطي هذا الكم من الموضوعات بين يدي ناقد عربي متوسط لما رحمه حتى قبل أن يقرأه. أما الآن فشهرة هذا الكتاب قد حصَّنته من موقف مسبق كهذا، ونأمل أن تساهم هذه المقدمة في تحصينه أكثر ضد الآراء المسبقة (التي تذم أو تمجد بناء على موقف سياسي إيديولوجي، أو حتى شخصي، من دون أن تقرأ). وسوف نتطرق إلى نقاط القوة الكثيرة وإلى نقاط الضعف القليلة، الهامة منها فقط.
إنّه ليَحْمِلُني على التواضع أن أَعْلَمَ أنَّ هذا الكتاب سوف يصدر بالعربية في لبنان، وبغلافٍ جميلٍ أيضاً، مع أنّه -بسببٍ من جهل مؤلِّفِه- لا يقول سوى أقلّ القليل سواء عن "العالم العربيّ" أم عن "الأمّة العربية" بوجهٍ عام.

ولذلك فإنني شديد الامتنان لكلٍّ من المترجم ودار قُدْمُس. وأَشْعُر، وأنا أكتب هذه الكلمات في جامعة ماليزيا الإسلامية الدولية في كوالا لامبور، أنَّ التوقيت مُوَفَّقٌ كثيراً، فالجدال النظري والسياسي في العلاقة المعقّدة بين الدين والقومية محتدمٌ هنا ومُثَقِّف جدّاً: بالنسبة لي، بالطبع، كما بالنسبة للطلاب الماليزيين، والصينيين، والتشاميين، والإيرانيين، والبنغلادشيين، والنيجريين الملتحقين بهذه الجامعة.

تحياتي الحارّة
بِنْ أندرسن

التعليقات