"أَنْ تكونَ عربيًّا في أيَّامِنَا" لـ د.عزمي بشارة

-

صدر عن مركز دراسات الوَحدة العربية كتاب تحت عنوان "أن تكون عربيًّا في أيامنا" للدكتور عزمي بشارة. وقدَّم بشارة بين دفَّتَيْ كتابه الجديد مجموعة من الدراسات والمحاضرات قدَّمَها في الفترة من منتصف عام 2007 حتى بداية عام 2009، وفيها ربط مسألة النهضة بالهُوية العربية والحداثة، وربط مصير القومية العربية بمدى قدرتها على تقبُّل مهمات وتحديات المجتمع الحديث والعصر الحديث، ومواجهة هذه التحديات.


يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام رئيسَة هي: "قضايا عربية"، و "المتغيرات الأمريكية في نهاية مرحلة بوش"، و "فلسطين والقضية الفلسطينية".


وما يميِّز موضوعات هذا الكتاب:


أولًا: براعة الباحث في ربط مسألة النهضة بالهُوية العربية والحداثة، وربط مصير القومية العربية بمدى قدرتها على تقبُّل مهمات وتحديات المجتمع الحديث والعصر الحديث، ومواجهة هذه التحديات بمشروع. كما يربط بين مهمة تجديد الفكر العربي بمشروع بناء الأمة، وتحديد مطالب وبرامج في هذا الاتجاه تكون مفهومة للناس، ويمكن للناس ربطها بمصالحهم المادية والحقوقية كمواطنين.


ثانيًا: ما تحمله فصول الكتاب ـ وهي ستة عشر فصلاً ـ من بُعد فكري جديد، وأسلوب تشخيصي تحليلي، إضافة إلى ما تجلى فيها من نبض حيوي يشير إلى ضرورة تجديد الفكر، إن كان ذلك في القضية العربية عمومًا، أو القضية الفلسطينية.


يؤكد الباحث عزمي بشارة في كتابه على أنَّ عملية تجديد الفكر يقوم بها أفراد، وترتكز على التقاطع بين مسار حاجات تُنْتِجُهَا العملية الاجتماعية التاريخية، ومسار تاريخ الأفكار. ويقدم تفسيرات معمَّقة للفكر الذي يدافع عنه، يقطع بأنَّ الطريق إلى الوحدة العربية هي الديموقراطية، وبأنَّ الفكرة القومية ليست تقليديَّة، بل هي فكرة حديثة، مؤكدًا على أن القومية العربية حاجة عملية ماسَّة وبراجماتية في الوصول، ليس فقط إلى مجتمع حديث قائم على الانتماء الفردي، بل أيضًا لتزويد المواطن بهُوِيَّة ثقافيَّة جامعة تحيِّد غالبية الطوائف والعشائر... عن التحكُّم في انتماء الفرد السياسي.


أن تكون عروبيًا في أيامنا


وتحت عنوان "أن تكون عروبيًّا في أيامنا" في القسم الأول من الكتاب، يعتبر بشارة أنَّ هذه الجملة تعني أن تعرف نفسَك كعربي في فضاء الانتماءات السياسية. فالقومية العربية ليست أيديولوجية شاملة، بل هي انتماء ثقافي يدَّعِي العروبي عَبْرَهُ أنه أصلح من الطائفة والعشيرة، لتنظيم المجتمع الحديث في كيان سياسي، ويثبت الواقع البائس في الدول العربية أنَّ هذا الانتماء أكثر فاعلية من الانتماء القُطري لتوحيد كل شعب عربي، وهو بالتالي أضمن لوَحْدَتِه من اختراع هُوية وطنية على أسس طائفية أو عشائرية.


أن تكون عروبيًّا لا يعني أن تجعل الانتماء إلى القومية أساسًا للمواطنة، بل يعني أن العروبة أساس حق تقرير المصير وبناء الدولة. والعضوية في الدولة أو الأمة تعني المواطنة المتساوية إن كان المواطن عربيًّا أو غيرَ عربي.


بحسب بشارة، أن تكون عربيًّا، لم تعنِ، ولا تعني ضرورة أن تكون ديمقراطيًّا. لكن التجربة التاريخية أثبتت أن نظام الحزب الواحد، مسنودًا بتعدد الأجهزة الأمنية وانتشارها في جسد المجتمع، لم يحقق وحدة، بل شوَّهَ حتى بِنْيَةَ الدولة القُطرية التي بُنِيَتْ في مرحلة المدِّ القومي. ومن يدعو إلى الوَحدة العربية لا بُدَّ من أن يستند إلى إرادة الغالبية الساحقة من الأمة، وإنَّ خيرَ تعبير عن إرادة الأمة وأقصرَ طريق لحق تقرير مصيرها هو الديمقراطية، وشرطها حقوق المواطن والحريات المدنية.


ومن يريد أن يكون عروبيًّا في أيامنا يجب أن يسعى إلى التعبير عن إرادة الأمة بالديمقراطية. وهذا لا يعني أن يدعو إلى الديمقراطية ويبشِّرَ بها، بل أن يكون صاحب برنامج سياسي واجتماعي مطروح للناس كخيار ديمقراطي.


ويضيف الباحث: أن يكون الإنسان عربيًّا لم يعنِ بالضرورة أن يؤمن بالعدالة الاجتماعية، لكن التجربة التاريخية أثبتت أن توسيع الهُوة بين الغني والفقير يفتِّت الأمة، وأن في ظروفنا لا تُبنى أمة يتلقى أبناؤها التعليم بمستويات مختلفة، وبرامج تدريس مختلفة، ولغات مختلفة، أو يتلقى مرضاها العلاج طبقًا لوضعهم الطبقي». ويؤكد بشارة أنه يجب في عصرنا جمع الفكرة القومية مع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ويُفضل أن يكون هذا الجمع أصليًّا، وليس أداتيًّا تُمْلِيه الحاجة. وبما أن الاستعمار وإسرائيل قد حددَا موقفًا ضد العروبة هويةً لشعوب المنطقة ودولها، وموقفًا ضد الاتحاد العربي بدأ بفصل الشرق عن الغرب، ومن السَّطْو المسلَّح على فلسطين، ونهاية بالاستفراد بكل دولة عربية على حدة، في شؤون الثروة والثورة والاستراتيجية، وأخيرًا ما يسمى بعملية السلام، لذلك فأَنْ تكون عروبيًّا يعني بالضرورة أن تدعم المقاومة.


لكن الباحث يستدرك بأن ذلك لا يعني أن تتغنى بالمقاومة وتترك ممارستها للتيارات الدينية، وهذه مسألة يجب أن يحسمها التيار القومي. يجب تقريب التيارات الدينية المقاوِمة من الفكرة القومية العربية في الحضارة الإسلامية، ويجب تنبيه المقاومة من خطر المذهبية على التواصل بينها وبين مجمل الأمة. ولا بد من التحذير من أن المقاومة ضد الأجنبي بذاتها ليست ثقافة تحررية بالضرورة، ولا تشمل برنامجًا لما بعد التحرير، وأنها لا تبني الوحدة القومية بالضرورة. لكن هذه التحذيرات في مجملها لا تكفي إذا لم يمارس العروبيون الوحدويون، المعارضون للطائفية والمذهبية، المقاومة بأنفسهم.


المتغيرات العالمية والفكر العربي


كما قدَّم بشارة في القسم الثاني من كتابه قراءة لأحوال المنطقة، منطلقةً من قراءته للأوضاع العالمية بعد انتهاء حكم جورج بوش والمحافظين الجدد، مذكِّرًا بأنَّ القيادات المحلية التي نمت كحليف لأمريكا، تتبيَّن ضرورة تغيير سياستها. من هذا المنطلق، يمكننا قراءة الكلام عن المصالحة العربية، فهي إعادة جدولة للخلافات العربية حتى تتَّضح سياسات أوباما. كما اعتبر بشارة الرئيس الأمريكي الجديد أوباما ظاهرة صوتية فقط، لكن الظاهرة الشعبية التي أدَّت إلى التغيير في أمريكا هي الجديرة بالاهتمام. ويرى أنه مع فشل سياسات المحافظين الجدد، برز واقع دولي جديد ليس فيه معسكر بديل عن القوة الأحادية، بل إنه يُفسح المجال أكثر للدولة الوطنية ولإرادة الشعوب، إلا أن تحالفات الأنظمة العربية مع أمريكا واستسلامها لها، حالتا دون استغلال العرب الظرف الدولي هذا، فيما تحاول إيران وتركيا التفاهم لمَلء الفراغ في المنطقة.


أما الأقطار العربية، فتكتفي بمشاريع أنظمة لا يتوافر لديها مفهوم لأمن قومي، ولا مشروع بناء اقتصاد وطني، ولا أدوات للتعبير الشرعي عن الرأي العام المحلي، وقنوات لتأثيره في السياسات، بل يتوافر لديها مفهوم الحفاظ على أمن النظام الحاكم.


ولا ينشأ في هذا الوضع القائم حتى مشروع تعاون لبلورة مفاهيم الأمن القومي المشترك أو المصالح المشتركة. ويعتقد الكاتب أنه وحتى الآن، لم يتم الانطلاق من حقيقة مهمة، هي أنه سوف يكون على العرب أن يعيشوا مع الجيران الأتراك والإيرانيين الذين لن يذهبوا إلى مكان آخر. ومن الأفضل أن تكون العلاقة علاقة صداقة وتعاون.


أما بالنسبة إلى التجديد في الفكر القومي العربي، فيؤكد الباحث وجود تحديات؛ أبرزها أن الفكر العربي، الذي يحمل صفة القومي، ليس فكرًا موحدًا، لهذا فإن التجديد لن يكون موحدًا أيضًا. والعناصر المشتركة التي تميِّزُه عن غيره من التيارات الفكرية العربية قليلة جدًا.


ويؤكد أيضًا بشارة أن العناصر المشتركة القليلة التي تجمع حاملي الفكرة العربية هي التي تصنع الفرق بينها وبين بقية التيارات. لكنه، بحد ذاته، غيرَ كافٍ لتأسيس فكر؛ فلا فكر يجمع بين الفكرة القومية إذا كانت ديمقراطية ليبرالية وفكرة قومية فاشية، لأن القومية المشتركة بذاتها ليست فكرًا، بل انتماء أو تسييس لانتماء. ويتابع بشارة أنه يمكننا تصوُّر حامل فكرة تسييس الانتماء القومي هذه كقاعدة للحركة المطالبة بالسيادة فاعلًا ديمقراطيًّا، ويمكن تصوره فاعلًا سياسيًّا وفاشيًّا. وإذا تحولت الحركة القومية من إدراك لهوية ثقافية جامعة تقيم جماعة متخيَّلَة وتُسَيِّسُهَا إلى أيديولوجية صافية، فهي في هذه الحالة لا يمكن إلا أن تكون شمولية وهزيلة في الوقت ذاته. سوف تكون شمولية لأنها سَتَتُوقُ إلى تحديد موقف من كل ظاهرة بناء على مبدأ واحد، وهزيلة لأنها سوف تفعل ذلك بناءً على مبادئ محدودة وضامرة لا تحمل إجابات كثيرة.


يشير بشارة إلى أن العائق الأساس أمام تطوُّر الفكر السياسي المنطلق من وجود قومية عربية لها الحق في أن تتحوَّل إلى أمة ذات سيادة، هو ممارسات حاملي هذا الفكر في الحكم في دول مثل سوريا ومصر والعراق. وهذا عائق أساس مسَّ ويَمَسُّ جوهر الفكرة ذاتها، أي فكرة الأمة ذات السيادة، ذلك لعدم تمكنهم من تحقيق وحدة حتى فيما بينهم عندما حكَموا دولًا متجاورة. وكل محاولة لإيجاد مبررات لعدم إنشاء الوَحدة بين الدول تزيد من التورط في الفضيحة السياسية. إضافة إلى أن تجربة القوميين في الحكم تشكِّل عائقًا أمام التجديد في قضايا حقوق المواطن، والرقابة الشعبية على السلطة والحريات المدنية تخدش مصداقية التجديد الفكري الذي يضطلع به غيرهم من العروبيين في هذا الشأن.


يعتبر الباحث أن تطوير الفكر القومي العربي يحسم موقفه إلى جانب الديمقراطية وحقوق المواطن الاجتماعية والمدنية، ويتحقق من خلال الممارسة التي لا تطرح الأسئلة فحسب، بل تخفف من طوباوية الإجابات النظرية التقريعية الغاضبة، التي تشكِّل وجه اللغة الخشبية الآخر.


يعلن عزمي بشارة أن التجربة العراقية أثبتت أن الاحتلال من الخارج تحت شعار الديمقراطية، وفي عملية تصادم مع عملية بناء الأمة، لا يُنْتِج ديمقراطية. والحديث عن فشل الهوية القومية في تشكيل وفاق وطني وضرورة إقصاء الهوية القومية العربية إلى مستوى الهويات الطائفية والمذهبية هو نمط من الاستنتاج. فما فشل وثبت فشله هو إقصاء الهوية العربية من جهة، أو تحويلها إلى أيديولوجية من جهة أخرى، بدل التعامل معها كأساس لبناء الأمة في أول مراحل الاستقلال. ومن يتنازل عن القومية العربية بحجة أنها هوية أخرى مثل الهوية المذهبية والطائفية وغيرها مدعيًا أنها يجب أن تفصل عن الدولة مثل الهوية الطائفية والمذهبية والعشائرية، لا يميز حداثيَّة القومية، ولا يرى أنها جماعة يمكن تخيُّلُها بأدوات الحداثة. فهي ليست هُوية جماعة مباشرة، وهو بتحييدها يحرِّم صَيْرُورَةِ التطوُّر من عنصر أساس في تشكل الدولة الحديثة، ومرحلة مهمة في عملية بناء الأمة، وصولًا إلى فصل القومية عن الدولة في أمة المواطنين.


القضية الفلسطينيَّة.. قضيَّة الأمَّة


ويرى بشارة أن مسألة الصراع مع إسرائيل والقضية الفلسطينية، هي قضية الأمة، وليست قضية الفلسطينيين أو مشكلتهم التي ينبغي أن يتعاملوا معها، وأن يتدبروا أمرهم بشأنها، وهذا موضوع القسم الثالث من الكتاب.


وتحت عنوان "فلسطين.. هل من أُفُق؟".. جاء أبرز فصول الكتاب، حيث يلفت بشارة إلى رمزية إصرار العرب والفلسطينيين على الاحتفال بالذكرى الستين للنكبة، وتمسِّكهم بحق العودة، وإلى أنَّ الخلافات الفلسطينية ليست نتاج الصراع على السلطة، بل هي ثمرة أوسلو، وعملية التسوية والانفصال المفهومي لحركة التحرر عن ذكرى النكبة. وذكَّر بأنَّ القضية الفلسطينية هي قضية عربية، وبأن المسألة العربية غير المحلولة هي جوهر القضية الفلسطينية.


والكتاب في مُجْمَلِهِ مساهمةٌ يقدِّمها المفكر الفلسطيني عزمي بشارة في إطار مسألة تجديد الفكر العربي، ورغم صعوبة تلخيص ما جاء فيه، فإن العمل ـ كما جاء في الخاتمة ـ يربط مسألة النهوض بالهوية العربية الحداثيَّة، ويربط مصير القومية العربية بمدى قدرتها على تقبُّل مهمات المجتمع الحديث وتحدياته. كما يربط مهمَّة تجديد الفكر العربي بمشروع بناء الأمة، وتحديد مطالب وبرامج في هذا الاتجاه تكون مفهومةً للناس، يمكنهم ربطها بمصالحهم.


وبهذا ينضمُّ كتاب "أن تكون عربيًا في أيامنا" إلى قائمة كتب الدكتور بشارة التي أثرى بها المكتبة العربية، وتضم 12 كتابًا تُرجمت إلى اللغات العبرية والإنجليزية والألمانية.

التعليقات