عزمي بشارة: وطن في حقيبة وقلبٌ على سفر

-

عزمي بشارة: وطن في حقيبة وقلبٌ على سفر

يضع حياته بين دفتي كتاب ويحمله معه كحقيبة سفر.. هي «فصول» تختزل انطباعات وأفكار عزمي بشارة في كتابه الأخير الصادر عن المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء.. كتاب ليس شعراً وليس نثراً ولا قصة ولا رواية وإنما كل هذه الأساليب معاً مستخدمة في تقنية نصوص وفصول الكتاب إذ يعتمد الكاتب الكثير من المجازات الشعرية والتفاصيل الروائية والتكثيف القصصي والمشهد المسرحي في ما يمكن أن نسميه الكتابة الجديدة التي تشبه هذا العصر حيث يبتعد المؤلف عن السياسة المباشرة ليقدم شخصية الأديب الذي يمتلك رؤياه وفلسفته الخاصة للحياة والحب والحرب والخيانة والخيبة والحنين والغربة وكل العناصر التي تدخل في ثقافة الشاعر وتجافي فكر السياسي عادةً.. وعزمي بشارة هنا في هذا الكتاب يؤكد من جديد أن عداوة الصهيوني لم تأكل قلبه وأن الإنسان بداخله ما زال ينبض بالحب والنبالة والرومانسية، وهذا تماماً ما يحتاجه إخوتنا في فتح وحماس لكي يتوقفوا عن الصراع ويحافظوا على جذوة الإنسان بداخلهم لكي لا يقعو في حفرة الإسرائيلي الذي تحول من ضحية إلى جلاد خلال نصف قرن.. وفيما يلي ننشر الفصل الأول من الكتاب بالاتفاق مع الصديق د. عزمي بشارة ولنا عودة..:


حقيبة يد


هنا ليس كلَّ الأماكن
أعنَدُ الذكرياتِ تلك التي لا تباحُ
ترافقه كظله
والظلُّ لا يؤنِسُ
لا يبارحُ، لا يُزاحُ
لكن توضحُ الوحشةَ صحبتُه
تبيِّنُ للواحدِ وحدتَه
مثل صدىً للصمتِ، مثل طيفٍ للشرودِ
تُحكِمُ القبضَ على الإدراكِ
تلصَقُ كالهاجسِ باللحظة
وبالأفكارِ كالكلمات، كاللغةِ
تخِزُهُ كالشكوكِ إذ تطفو
وحين يغرقُ في النومِ
ترسبُ في اللاوعي في الغفوةِ...


أقصى بقاعِ الأرضِ تلك التي
كان يقصِدُها منهكاً حرّاً وحيداً
مثلَ جنديٍّ عائدٍ من هزيمة
كالعودة يمتدّ إليها الرواحُ
ومهما طالَ فيها المكوث
لا يُفرِغُ حقيبتَه في خزانة
يَستَلُّ منها النهارَ مطويّا
يقدّمه الصباحُ
وفي المساءِ يعيدُ إليها الأمانة
يُلقي فيها النهارَ كما تُرمى الفُراغةُ في الحاوية...
وقارُه مشهرٌ بالعبوسِ
إلى جانبِ مسافرٍ محايد
محكومٌ مثلُه كالبومِ بالتحديق إلى الأمامِ
كما يليقُ بالغرباءِ إذ يتجاورون
في داخل كلٍّ منهما مسافةٌ وحقيبةٌ
وقلبٌ على سفر
ويبتلعُ كلٌّ مع ريقِه التذمّرَ من وجودِ البشرِ
مثلما يبتلعُ الجبانُ شتيمةً، أو كما
يزدرد المهذّبُ حتى السّعالَ الذي «لا يليقُ»
في انقطاع رتابة النَفَسِ، وفي كلّ تنهيدةٍ
يفضحُ ضيقَه الضيقُ بما
يحرِفُ النظرَ
عن تجاهلِ ما يدورُ...


في الذهابِ يطولُ الطريقُ
بحكم تعريف الترقّبِ للعناقِ
في الإياب تطيلُه غصّةٌ
من حكمِ تعريفِ الفراقِ
الوجهُ محتقنٌ رغم أنّه أحسّ بوادِرَها في الذهابِ
الأنفُ كأنما تخدَّر بعدَ لكمة
والعينان زجاجُ نافذتَينْ
وخلفَ البريقِ يكادُ الدمع يختنقُ...


هنا كان يأتي ويمضي
هنا المصيرُ شخصيٌّ، له أو عليه
عبءٌ له على وجهِ الخصوصِ
ومصيرُ الشقيّ، كمصيرِ الغنيّ، ليس محجوزاً
فهو ينسلُّ خجلاً بما وضع عند المدخلِ
كما ينسلُّ من يخفي هُويّته
من عيونٍ سوف تعرفُه
أو يتسلّل كاللصّ ليلا
من الشٌبَّاكِ،
أما صاحبُ الحظِّ السعيدِ
فيوقّعُ على استلامِ مصيرِه في رزمةٍ
لا يقتنيه مفصلاً على مقاسِه
بل يُشتَرى محزَّماً في بالةٍ
ويعايَنُ المتاعُ الرثُّ حين تُفتَحُ في المنزلِ
كما تُفحص الثيابُ البالية


يمكنُ رتقُ الخرقةِ أو شدُّها بالحزام
ثم التظاهرُ بالرضى
أو اعتمادُ وجهٍ مكتئب
واستحضارُ ملامحَ مهترئةٍ تناسبُ المقامَ


(ملاحظة:
لا يدعو الثوبُ صاحبَه للانكماش فيه بيأس
ولا يمنعه من التباهي و«التقمّز»، إذا رغبَ،
فالمصيرُ بعدما يقعُ
يغدو محايداً بشأن مصيرِ صاحبِه)
أصبح في ذاته اثنينْ
حين صارتْ هواهُ،
لم يعد دونها نفسَهُ
حين أصبحَ وحدَه
لم يعدْ هو ذاتُه...


جمعها من كلِّ ثانيةٍ
من كلِّ لونٍ وحرفٍ
استنزفَ الأبجديةَ في حكايةٍ
تَفنى وهي تُحْكى
كالنار، تنْفَدُ حين تُروى
لا تروى مرتَيْن
وقد رُويتْ وانتهت...


مفارقاً جاء اللقاءُ،
لا يعني الفراشةَ لماذا دنت وانحنت فجأة
هذه فطرةُ الفراشات والزهور
وهو ليس فراشة
لم يدنُ لقضاء وطَر أو غريزة
لكنها سحرتْه أو ملَكتْه أيْمانُها
فماذا جرى؟ ولماذا جرى ما جرى؟
يعنيه ويسكنُه التساؤلُ...


بدا التعارفُ عاديّاً كيفما اتّفق
بين الخجل والصمت والإحراجِ
وقولِ شيءٍ لكسرِ الهدوءِ، أو للتظاهرِ بالوثوقِ
لم تمرَّ سوى ثوانٍ
وحضر الغيبُ
صار كليَّ الحضورِ
خاب تمويهُ الجليِّ بالكلماتِ والصوتِ
باء الحديثُ بالفشل
فلتت أطرافُ الحديثِ وبانَ ما يُخفي
كانت النظراتُ تختَلَسُ
صار يُختلَسُ السفورُ
وما لبث أن حلَّ السكونُ
والاطمئنانُ للصمتِ...


مصادفاً كان اللقاءُ
وليس مفارقاً أن وجدَ فيها
ما فقده وكاد ينسى أنه افتقدَ
وبقي مندهشاً بما وجدَ
أما هي، فكأنها تحررت للتوّ،
أفلتت في لحظةٍ من يأسِها من العثور عليهما
وربما وجدا أخيراً ما انتظرا طويلا...


هنا ليس أيَّ الأماكن
هنا فُقِدَ الفُضولُ وصمدَ التساؤلُ
كيف ارتُكِبَ بعد تمديدِ العمرِ هذا التفاؤلُ
فلا الحياةُ مباراةٌ، ولا في زمنٍ إضافيٍّ تسمحُ بالفوز
تذكرةٌ للذهابِ بلا إيابٍ
لا تشملُ التعويضَ
ولا تقبَلُ التمديدَ
ولا الفُرَصَ الجديدة
ولا تتيحُ في الزمانِ «بدل الضائع»
تسجيلَ الهدفِ،
أيصِحُّ أن يُشرِقَ وضحُ الغروبِ؟
ربما تُؤلَفُ الغرائبُ
ويشرِقُ حتى الغروبُ
إنما في المألوفِ إذ يغدو مدهشاً
تكمن المعجزاتُ
ولا معجزة
فربما تأخرَّ حبُّهُما قليلا
أو ربما كان ما اكتشفاه أفضلَ
من أن يكونَ حقيقةً
وسرعانَ ما ندمت أنها عثرت عليه
فهو ليس حليةً موروثةً فُقِدَت
ولم يخطر المفروغُ منه ببالِها
فمثلاً
أن تجدَهُ كان يعني بالضرورة أن يجدَها
وأن تحياه يعني أن يعيشَها أيضا
ومثل انشطارِ الواحد
تُطلِقُ وحدةُ الاثنين بعد هذا العمر ثوراتٍ
ويوقظ العشقُ أشباحاً قديمة
ومخاوفَ ربما كانت دفينة...


تجرأت حتى المخاوفُ
وانبرت عقدٌ قديمة
تآلفتْ ومضت تثور عليه...


فما وجهُ الغرابةِ في أنها
لم تمسك بموجتِه الأخيرةِ قبلما ارتدّت
لم تحتمل أصلاً تكسُّرَها
فكيف تمسك بالريحِ والماءِ،
ومن ذا الذي يقبض على زبد؟
رفضت تخلِّيَهُ الجريحَ
لم تَرْجُ
لم تمسك بأهدابِ الثيابِ
ما رأت في عمرِها
ولكن طالما سمعت عن امرأة تُرِكَت وحيدة
وعن رجلٍ ارتدَّ
متذمّراً شاكياً أو مزمجراً متوعّدا
كأنه المنبوذ والمتروك فعلا
لكنّها بعد حريةٍ دفعت ثمنَها
لن تصيخَ السمعَ لثرثرة النساء المحبطات عن الرجالِ
ولا هي هنّ
ولا هو همُ
وهي ليست محضَ مستقبِلٍ للثرثرة
ولا فريسةً للطرائفِ
لا مدهوشةً دائمةً، ولا دهشةً مُستدامةً
ولا تعزِّزُ الراويَ بفغر الفم
فهي ثورتُه وملجأُه
وهي السلامُ المستحيلُ بين الرصانة والحنانِ،
والانطلاقِ والانكفاءِ
وهي اللقاءُ الذي كانَ ينتظرُ...
وهو الذي ذرفها من بين يديه
مَن هزمَ ذاتَه، هيهاتِ ينتصرُ
وهو يعلمُ أنه المندحرُ
لكنه لا يزفُّ الخسارةَ متظاهراً أنها الظفرُ
وهو يعرف أن ضالّته الوحيدة
تلك التي اختزلت ما أراد
لم تحلِّق بعدَه حرّةً خارج القفص
بل هامت على وجهها مثله
لا تنظر للخلف ولا تُلوي عليه
خيبة كخيبات البشرِ
ينجو منها بجلده من يؤمنُ، أو يسلِّمُ بالقدرِ
ولنا، ولمثلنا تدنو نهايةُ الدنيا وتمتثلُ
وتنجلي بعد حين وتنسحبُ
وحين تنقشعُ لا يعود المرءُ إلى البداية
بل يمضي كثَّ المشاعرِ
يعلوه غبارٌ عالقٌ من بلادِ النهاية
وخيباتٌ تمرَّغَ بها
ومرارات عاد ينفضها عن المعنى المكابرِ
وفي العينين بعضُ ذاك الوميضِ ينطفئُ...


لم يندهش من ضيقِها المتهالكِ
فمذ ذابت شكائمُه
في زرقةِ السِّحْرِ
ثورانه يومان في الأسبوع
ولكن أيُّ يومين؟ لا تعرفُ
وخلافاً للحيْضِ توقيتُه لا يُحسَبُ
تضاءلَ الفرقُ بين الحبِّ والغرقِ
كان يخنقُ الفرقَ بأمِّ يديه
وتلاشت الهنيهةُ الفاصلةُ بين النشوةِ والبكاءِ
غص الفرح بذاته فانهمر
في حمّى الشراكة بالوسادة رقّتْ كوابحُه
فلم تلجمْ جماحَه
وإذ تدفّقت زالت حواجِزُه
كما كانت تلين محرِجَةً صباهُ
بإطلاق هواه على هواه
حين تبخّرَت بفعل كأس واحدة وعينين،
باسمتينْ؟ (ربما)
وربما حزينتينْ، (من يدري؟)
لم يكترثْ في حينه، لم يعنِهِ الأمرُ
ففي تبادلِ النظراتِ كمن الجوهرُ...


لم يَرِد حبُّهما في الحسابِ
لا، ليس في عمرِه الحالي
ولا بعد هذا الغيابِ
فليس غريباً أن وهنت «أناه»
وفُلَّ الحزمُ، وخارت قواه
شتّت عصرهما زمانه
وأنساه المآل والاتجاه
ربما يدركُ الحبُّ أن هبوبَه العفويَّ لم يحسب خطاه
ولكنه يغفل أنه ينزعُ السحرَ
ويودي بالرهافةِ حين يشتدُّ
ويجهلُ أنه يطفئُ شعلةً صمدت طويلا
وباتت بعد تكرُّرِ الإضرامِ تخمدُ
وما أدراه متى أو كيفَ صار من الجمرِ الرمادُ
وما لاحظ النارَ يوماً ولا رأى في ما كان جنّتَهُ دخانا
وحين أدركها أخيراً راح يخمدُها بصبِّ الزيتِ
بكاتمِ شفتين وقبلة
بعد الرمادِ وقبل الوداعِ راحَ يعالجُ الصدمةَ
والذهولَ بالاغتيالِ...


في الطريقِ من قبلةٍ ما احتَوَتها
كي تصفعَ البابَ من خلفِها
وهي في الردهةِ تنتحبُ
خطفت هويّتَه بدل الحقيبة
حملتها من غير قصد
في السنةِ الألفِ لجنونِهما المشتركِ
لم ينتبه منهما أحدٌ للفرقِ...
وخَرِسَ صاحبنا كأنه المشجبُ
جمد في مكانه مشجباً عاريا
كانت تُعَلَّقُ عليه هوية...
***




التعليقات