في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي لـ د.عزمي بشارة../ سليمان تقي الدين*

-

في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي لـ د.عزمي بشارة../ سليمان تقي الدين*
هذا الكتاب جهد نظري لتأصيل مفهوم الديمقراطية عربياً. لكن أسلوبه سجالي، وتفكيكي للأفكار التي يعتبرها غريبة، أو طارئة، أو متحاملة وغير موضوعية، أو غير واقعية. يحرث في الأرض العربية نفسها لكنه يعقد المقارنات الضرورية مع السياقات الغربية للمسار الديمقراطي بشكل خاص، أو غير الغربية. وهو نقدي لكل المفاهيم التي تتصل بالقضية الديمقراطية. وعلى الرغم من الغنى الكبير للجهد النظري والتشعبات التي يذهب فيها، والاستطرادات أحياناً، لتوضيح فكرة ملتبسة بثقل الأيديولوجيا، فهو يستدرك أيضاً ويترك قضايا أُخرى مهمة معلقة لكتاب آخر، منها نظرية التقدم والتنمية، إلخ.

عزمي بشارة في هذا الكتاب مناضل ومفكر. والجهد الفكري الذي يبذله لا يهدف إلى تشييد نظرية جديدة في المسألة الديمقراطية، وإنما إلى البحث عن مسار ديمقراطي عربي. والهدف الأساسي في نهاية المطاف هو تكوين وعي لمشكلات بناء الديمقراطية العربية. إنه يريد، بصراحة، التأسيس لحركة سياسية عربية ديمقراطية هدفها الأساس ما يعتبره حلقة مركزية في قضية العرب الآن من منظور ديمقراطي، أي "المسألة العربية".

الموضوع الأساسي للكتاب هو الديمقراطية، لكن محاوره الرئيسية ثلاثة:

(1) المسألة القومية العربية: أي عدم إنجاز دولة الأمة بصفتها حقاً ديمقراطياً للعرب (حق تقرير المصير).

(2) الدولة: دولة الأمة أو الدولة القطرية. أي عدم بناء الدولة الحديثة القائمة على قاعدة المواطنة بصفتها قصوراً سياسياً تاريخياً يجب حله على قاعدة الديمقراطية، وبوسائل ديمقراطية.

(3) الهوية: الهوية القومية بصفتها مطلباً سياسياً يأتي من المستقبل ولا يستعاد من الماضي. الهوية القومية كمشروع وليس كمعطى ثقافي موجود تاريخياً ومتلازم مع وجود الأمة.

في معالجة هذه المحاور ينطلق بشارة من المعايير الديمقراطية التي هي قيم إنسانية وحصيلة حضارية مكتسبة من رحاب الثقافات جميعها، والتي تتمحور حول حقوق المواطنة وتتجلى في الحق الانتخابي والحريات العامة والفردية، وفي حقوق العمل، وفي فصل السلطات، وفي القضاء المستقل، إلخ.

يعالج الكتاب في فصوله العشرة الإشكاليات التالية:

= الديمقراطية الجاهزة والديمقراطيون، ونقد إسقاطات المسار الديمقراطي من ميدان سياسي واجتماعي على ميدان آخر، والمقولة التي تربط الديمقراطية بالليبرالية، وخصوصاً النيوليبرالية (الأمنية السياسية المعاصرة). ويعالج أيضاً فكرة تصدير الديمقراطية أو نشرها بواسطة البوارج والمدافع، من خارج سياق الأجندة الوطنية.

= بؤس نظريات التحول الديمقراطي، وخصوصاً تلك النظريات المركزية (الأوروبية أو الأميركية)، أو تلك التي تفترض شروطاً لها علاقة بالنظرة إلى استعدادات الشعوب. ويعالج هنا معوقات الديمقراطية بشكل مستفيض ولافت وعميق في فصول مستقلة على النحو التالي:

¨ معوق الدولة الريعية: حيث الدولة هي مالكة الثروة الوطنية وهي التي توزع الدخل على المواطنين، وتأثير ذلك في المساءلة والمحاسبة ومسألة الولاء للسلطة والتبعية.

¨ معوق الثقافة. وهذه إشكالية كبيرة يزعم فيها منظرو النيوليبرالية استحالة ملاءمة الديمقراطية مع الثقافة الإسلامية. ويحسم بشارة هنا هذا الجدل بقوله إن الأديان جميعها تتناقض مبدئياً مع الديمقراطية (السيادة الإلهية وسيادة الأمة). لكن في التاريخ الواقعي، فإن الثقافة الدينية والطقوسية الدينية هما اللتان تمارسان فعل التناقض وليس الدين. والثقافة هنا هي متحرك وليست معطى جامداً.

كنا نتمنى هنا إحاطة أوسع بالفكر السياسي الإسلامي ونظرته إلى المسألة الديمقراطية. لقد تناول المؤلف نماذج فكرية مناهضة للديمقراطية ولم يتناول بعض المجتهدين الجدد الذين وفقوا بين الديمقراطية والإسلام، فضلاً عن التجربة التركية كنموذج. في المقابل لم يتناول المؤلف قط النموذج الإيراني كتجربة لحكم الحركات الإسلامية، ولم يشرّح أفكار الحركات الإسلامية المعاصرة.

¨ معوق القبيلة والبنية القبلية. وقد أفاض الكاتب في شرح التناقض بين الحقوق الجماعية (التي تتحول إلى امتيازات) وبين مفهوم الدولة بصورة عامة، حتى إنه رأى في البنية القبلية نقيضاً للتيارات الفاشية الشمولية. وتناول قضايا مهمة على هذا الصعيد رافضاً قراءة التاريخ العربي كأنه "ماضي الغرب"، كما رفض نظريات التطور التاريخي المتعددة (نمط الإنتاج الآسيوي – الاستبداد الشرقي). لكن هذه الإشكالية تحتاج إلى تفكيك أكبر.

¨ المعوق القومي والديني وإشكالية الهوية. وهنا عالج عزمي بشارة بشكل رئيسي النظريات القومية، ولفت إلى إهمال الفكر القومي مسألة الأقليات، وأثار قضية عدم اعتراف المشاريع الاستعمارية في الماضي والحاضر بالهوية القومية المنجزة سياسياً، ووعد بتوسيع معالجته مسألة الدين في كتاب آخر.

نقده الفكر القومي كأيديولوجيا، في حلّته الرومانسية، كان مهماً ولو أنه تناول الأفكار أكثر مما تناول التجربة القومية نفسها. فالحقيقة أن حجم الموضوعات المطروحة يفيض كثيراً عن كتاب واحد. وفي هذا السياق عالج مسألة الهوية بشكل جديد غير مسبوق، واعتبر أن الهوية القومية "طوبى" بالمعنى السياسي، أي مشروع مستقبلي يرتكز على معطيات موضوعية تاريخية. واعتبر أن القومية مرحلة تاريخية وليست صيغة نهائية للتاريخ؛ وهذه مقولة مهمة جداً. ووضع المسألة القومية العربية كمرحلة من التطور التاريخي وكمطلب ديمقراطي أسوة بتطور المسألة القومية في الغرب.

¨ المعوق المتعلق بالمواطنة بين التجانس والتعدد. وهنا كانت له مساهمات جديدة مهمة من وحي التجربتين العراقية واللبنانية. فالتعددية الطائفية والدينية التي ترتفع إلى مرتبة التعددية السياسية تتحوّل إلى مأزق للمجتمع والدولة وليس العكس، ولا تبني مساراً ديمقراطياً. إن تعدد الجماعات على قاعدة الهويات الفئوية نقيض للديمقراطية، لأن الديمقراطية أساسها حقوق المواطنة. وعندما تترسخ حقوق المواطنة يمكن للجماعات أن تمارس حوارها الثقافي الحر فيما يتعلق بهوياتها الفئوية. أمّا عكس ذلك فيؤدي إلى هيمنة فئة على الفئات الأُخرى. هذا الفصل مهم جداً واستباقي جداً لمسار التفكك الطائفي الذي يدفع به المشروع الأميركي في المنطقة.

= أخيراً يتناول الكاتب مسألة الديمقراطية والجماعة السياسية والهوية. وهو يؤسس في هذا الفصل لفكرة أن الإشكالية الديمقراطية الآن هي مسألة عربية وليست شرقية أو إسلامية عامة.

هذه الإشكالية تاريخية، أي أن لها علاقة بالمسار التاريخي للعرب. وهنا يتوقف الكاتب عند آثار الفعل الاستعماري (سايكس – بيكو) ونشوء الدولة القطرية. وهو لا يرفض الدولة القطرية بمنظور عدم تطابقها مع حدود الأمة، بل ينظر إليها كمشروع فاشل في تحقيق الديمقراطية – المواطنة.

وهذه معادلة تنفتح اليوم على إمكانات تفكك الكيانات القطرية نفسها أمام صعود الهويات الفئوية (الطائفية – المذهبية – القبلية). من هنا يأتي استنتاج رئيسي هو ضرورة البناء الديمقراطي كشرط للمسار الوحدوي، والعكس صحيح؛ أي لا بد من هوية قومية لحماية المسار الديمقراطي. وهنا بيت القصيد في خلاصة عزمي بشارة عن المسألة العربية، وهو ما يعالجه في الفصلين الأخيرين (المسألة العربية والديمقراطية، والديمقراطية كقضية سياسية، أي خصوصية الإصلاح العربي).

الكتاب تأسيسي في الفكر العربي على صعيد معالجة مسألة القومية العربية من منظور ديمقراطي. لقد تضمن الكتاب أفكاراً كثيرة، وطرح إشكاليات يصعب تلخيصها في عرض موجز.

الإشكاليات التي تناولها الكتاب متعددة، لكنها لم تشمل موضوعات أُخرى لها علاقة بالموضوع. لقد وعد الدكتور عزمي بشارة بمعالجتها في كتاب آخر، كمسألة التقدم العربي أو التنمية والديمقراطية والمسألة الدينية. لكن الكتاب أغفل معالجة دور الاستعمار في إعاقة حل المسألة العربية، والمقصود هنا تحليل هذا الدور وليس ذكر المسألة الاستعمارية التي تناولها من دون شك لكن بلا تحليل. كما أغفل في معوقات الديمقراطية مسألة الحروب الإقليمية، ولا سيما الحروب العربية – الإسرائيلية، ودورها في إعاقة الديمقراطية وبروز النزعات العسكرية في المنطقة.

إنه كتاب مهم، ويشكل قاعدة معرفية لبناء حركة سياسية عربية ديمقراطية.

"عن مجلة الدراسات الفلسطينية
الدورية الصادرة عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية"

التعليقات