مساهمة في النقاش حول كتاب «في المسألة العربية»../ عمر كوش

-

مساهمة في النقاش حول كتاب «في المسألة العربية»../ عمر كوش
همومنا في البلدان العربية تتعدد وتتشعب، ويتداخل فيها الديموقراطي مع الوطني والقومي. ومن تعدد الهموم وتداخلها ينتج أحياناً الخلط وعدم الوضوح في الرؤية، وأحياناً أخرى الاشتباك والسجال على ذات الأفكار والكلمات.

لكن مهما كانت شدة الاشتباك ووطأة السجال، فإن محركه يستحق الثناء إن أفضى إلى فتح باب النظر في قضايا أساسية، تسهم في تقدم العمل العربي، الوطني والقومي. وهو أمر نأمل حصوله لدى مناقشة ما طرحه عزمي بشارة في كتابه «في المسألة العربية» من طرف مثقفين ديموقراطيين وعلمانيين وقوميين، وكاتب هذه السطور يزعم أنه واحد منهم، ذلك أن النقاش حول الديموقراطية والقومية والمواطنة يكتسب أهمية كبيرة في هذه المرحلة التي تعصف بمنطقتنا بشكل عام، حيث الالتهاب والانقسام المذهبي والطائفي بلغ مرحلة غير مسبوقة، وينذر بما هو أسوأ، وكأن المخططات والمشاريع الهادفة إلى إعادة تكوينها السياسي والاجتماعي والاقتصادي قد بدأت تأكل أكلها.

غير أن ما ينقص السجال في ثقافتنا العربية، أحياناً، هو التحلّي ولو بقدر بسيط من ما يسميه عزمي بشارة «التواضع المعرفي»، الذي يفضي في نهاية المطاف إلى إعطاء كل ذي معرفة حقه، من دون الإقلال والبخس بالجهد الفكري المقدم والرأي المطروح، وبالتالي عدم التسرع في إطلاق أحكام القيمة التي تجعل الجهد البحثي في الكتاب «لا يضيف كثيراً إلى الأفكار المتداولة في أوساط الباحثين في العقدين الأخيرين في شأن الديموقراطية والتحول الديموقراطي في العالم العربي»، حسبما زعم كرم الحلو، الذي أمعن في الحكم على الكتاب بوصفه لا يشكل «خطوة نوعية باتجاه الخروج من إشكالية الديموقراطية»، وكأن المطلوب هو الخروج من الإشكالية أو اعتبار ما جاء به صاحب الكتاب قولاً نهائياً!

إن أول ما يقتضيه التواضع المعرفي هو تثمين المفكّر فيه من طرف صاحب الكتاب، وتثمين كل من يبحث ويفكر في مناقشة «المسألة العربية»، وخصوصيتها، وعلاقتها بالديموقراطية والمواطنة ودولة القانون وسوى ذلك كثير.

ويمتلك هذا التواضع وجاهة إضافية حين يمتد إلى مختلف مواقف الحياة وتفاصيلها. ذلك أننا في الحقل الثقافي نسعى إلى الاستنارة والتنوير في ظلمات حياتنا العربية. ورب معترض هنا على كلمة «العربية» أو «القومية»، وكأنه لا يحق لنا كمثقفين عرب، في سوريا ولبنان وفلسطين وسواها، أن نكون قوميين وفي ذات الوقت ديموقراطيين وعلمانيين، فيما يحق للفرنسي أن يكون قومياً وللأميركي ولسواهما. مع أنني أعتقد هذا الحق ليس فعلاً إرادوياً، بقدر ما هو حق طبيعي، وفي متناول الجميع.

يشكل الكتاب «محاولة لفهم معوقات التحول الديموقراطي»، وهي محاولة تبدأ بطرح الأسئلة الحارقة حول وجود استثنائية عربية، وماهيتها ومركباتها وحمولاتها، وتجد تلك الأسئلة مرجعيتها الفكرية في ما طرحه قسطنطين زريق وساطع الحصري وياسين الحافظ وسواهم، وفي أفكار مختلف من انحازوا إلى الخيار الديموقراطي، وبعضهم من انحاز بشكل سياسوي ومن باب «فقه النكاية»، في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين المنصرم.

يدخل ضمن هذا السياق أطروحات ونضالات المجموعات التي «انخرطت في العمل الوطني المعارض على أرضية برنامج ديموقراطي ووطني»، حسبما ذكر ياسين حج صالح في تعليقه على الكتاب. إضافة إلى أن الكتاب يمتاز بأنه كتاب مفكر فيه، من جهة أنه يحفل بالفكري والجديد، ويمتلك مستوى من الكتابة يفيض بالمتعة الفكرية، ويبعث على لذة في القراءة، بالمعنى الذي تحدث به رولان بارت.

لا تظهر قراءة الكتاب ان ما فكّر فيه عزمي بشارة لم يكن واضحاً في تصور حل ديموقراطي للمسألة العربية، كونه حاول أن يقدم حلاً ديموقراطياً للمسألة القومية، وفي ذات الوقت مقاربة قومية لقضية الديموقراطية، وهو يعي تماماً أن ذلك الحل المنشود لا يمكن أن يرى النور «من دون مشروع سياسي وطني، وأجندة ديموقراطية وطنية، ومن دون ديموقراطيين ينتظمون لطرح مشروعهم الديموقراطي وتصورهم لمستقبل كل بلد».

والقول بضرورة طرح البرامج الديموقراطيّة من خلال «أجندة قومية وطنية، لا من خلال أجندة تدخّل استعماري عسكري»، يملك أنصاراً كثر بين أوساط الديموقراطيين والقوميين والإسلاميين العرب. وبالتالي ليس على الديموقراطيين الانتظار بأن تقوم نظريّات الانتقال إلى الديموقراطيّة بعملهم، بل لا بد من تنظيم الجهود وطرح البرامج والأجندات للوصول إلى الحل المأمول. والأحرى بالقوميين أن يعوا ضرورة طرح برامج ديموقراطيّة، وعدم انتظار الوحدة العربية على طريقة «غودو» بيكيت، والكف عن الدفاع عن الأنظمة التسلطية التي تمتطي حصان القومية، وتمارس أبشع الممارسات القطرية والانعزالية، وتنهج نهج الإقصاء والتهميش لكل صاحب رأي مختلف.

لقد فهم القوميون «الأشاوس» القومية العربية فهماً قسرياً، إلحاقياً، يعتمد اللغة كأساس جوهري لانتماء الجماعة القومية، وبالتالي لم يؤقلموا مفهوم القومية حسب التربة العربية وتعيّناتها وناسها في كل بلد عربي، بل لجأ المنظرون منهم إلى التحليق اللغوي الميتافيزيقي، الناكر للتاريخ، والكاره لقيم المواطنة والديموقراطية والحريات، ففشلت كل الدعاوى مع فقدان الفضاء الديموقراطي والممارسة الديموقراطية.

ويكشف واقع الحال العربي أن الدولة القطرية في نسختها الاستبدادية والشمولية لم تبنِ أمة مواطنين، ولم تنشئ قومية بديلة، بل كان البديل هو تنمية وتقوية الطوائف والعشائر والنعرات الجهوية. فيما تعتبر القومية العربية هوية حداثية للأغلبية وكشرعية مجتمعية تسمح بالتعددية السياسية في داخلها، بوصفها عاملا مساعدًا في بناء الدولة الديموقراطية، بمعنى أن القومية تنفي ذاتها في الأمة كجماعة المواطنين.

وعليه فإن عدم حلّ المسألة القومية، ولو على مستوى الوعي، والعمل ديموقراطيًا في تعارض معها جعل الدول العربية تستند إلى الاستبداد، وأفضى ذلك إلى ارتداد المجتمع إلى مجتمع طائفي وعشائري سياسيًا وليس اجتماعيًا فقط.

إن عزمي بشارة يؤكد في أكثر من موضع على وجود استثنائية عربية وليس إسلامية، حين يتعلق الأمر بالانتقال إلى الديموقراطية، فالخصوصية عربية، لذلك جرى ووضع عنوان فرعي للكتاب هو «مقدمة لبيان ديموقراطي عربي». وعليه تأتي هنا ضرورة تجديد الفكر القومي ديموقراطياً، على خلفية أن القومية مفهوم حديث، والسياق الذي يعيق تشكلها عربياً، أي تحولها إلى كيان سياسي يعبر عنها، هو ذات السياق الذي يعيق تشكل أمم عربية، الأمر الذي جعل عزمي بشارة يلخص المسألة العربية في مقولة «ان الذي يعيق تشكل الأمة العربية هو نفسه ما يعيق تحول الأقطار العربية إلى دول ديموقراطية»، ويبني عليها مقولة الفصل ـ النبيه والجديد ـ ما بين القومية والأمّة، بحيث تتحول الأمة إلى أمّة المواطنين، ضارباً عرض الحائط التطابق بين القومية والأمة الذي يتبناه القوميون العرب وخصوصاً الإيديولوجيون منهم.

غير أن معيقات التحوّل الديموقراطي لا تشكّل خصوصية عربية، وهي لذلك لا تُفهم لوحدها، من جهة أن المطلوب هو شرحها وتبيان أهميتها كعوائق، وتوضيح القصور الناتج عن فهم دورها في المسألة العربية، والتي نجدها في الدولة الريعية، والعشيرة، والثقافة السياسية السائدة والإيديولوجيا القومية وغيرها، وهي معوقات باتت تشكل أكثر من إعاقات للتحوّل الديموقراطي، كونها تحولت إلى عناصر مدمرة في عملية انحلال مجتمعي.

أعتقد أن النظر إلى الكتاب بوصفه مساهمة في تحليل المسألة العربية المفتوحة، يفتح باب تطوير الفكر الديموقراطي والنظرية الديموقراطية من خلال دراسة الحالة العربية، وتطوير الفكر العربي من خلال دراسة نظرية الديموقراطية وتاريخها، ثم تطبيقها في السِّياق العربي. وهو أمر يفتح بدوره باب النقاش النقدي مجدداً حول الديموقراطية والقومية والمواطنة، بوصفها قضايا واستحقاقات تنتظر حلاً في الحالة العربية، التي يكشف واقعها الراهن عجزها، وعجز قوى الممانعة المنحازة إلى الاستبداد المقيم في بلداننا العربية.

التعليقات