سيادة القانون وسيادة الرئيس..

-

سيادة القانون وسيادة الرئيس..
يحتار بعض الأصدقاء في الوطن العربي؛ هل يثير اشمئزازهم فضائح سلوك الساسة في إسرائيل أم تثير إعجابهم سيادة القانون فيها؟! فهي لا تتوقف عند عتبات مقر الرئاسة في حي الطالبية في القدس. الشرطة حققت والصحافة وجدت مواداً تثير الشهية الشعبية، والصور تمتد على طول وعرض صفحات "جرائد التابلو". وظهور المشتكيات الإعلامي ووصفهن لمضايقات الرئيس الجنسية تشكل مواضيع اليوم التالي، وينتظر تقديم لائحة اتهام منها الاغتصاب والإزعاج الجنسي والرشوة. والدوامة لا تهدأ بين قطبي الإعجاب والاشمئزاز ذات، ولكنها حركة دائرية لا تستقر، ولا بداية لها ولا نهاية.

ولا شك أن سيادة القانون سابقة على العديد مما يتشدق به أنصار تقليعة الديمقراطية من شروطها في الندوات. لا ديمقراطية دون سيادة القانون التي تتضمن مبدأ المساواة أمام القانون. وفي حالة متولي الوظائف والمناصب وحاملي المسؤوليات المدنية والعامة العليا يفترض أن يكون القانون أكثر وليس أقل صرامة عندما يتعلق الأمر بمخالفات من نوع الرشوة والإزعاج الجنسي، منذ أن أصبح جناية، والفساد على أنواعه.

لا يجب أن تتوفر مساواة أمام القانون في سيادة القانون فحسب، بل يفترض أن يكون القانون أكثر حزما وصرامة بشأن أمور يعتبرها مواطنون آخرون شأنا شخصيا ولا تعتبر كذلك في حالة ممثلي الشعب أو حكامه الذين تفترض فيهم نظافة اليد والقدوة الحسن والمصداقية إضافة لاحترام القانون. عندما يخالف مسؤول القانون فإنه يقوم بمخالفتين واحدة لقانون وثانية لواجبه ومسؤوليته الأخلاقية والتربوية.

في عصر العولمة الإعلامية تصل أخبار المحاكمات والتحقيقات أيضا إلى مسامع أولئك الذين يعيشون في دول لا يمس فيها القانون من يسجلون أراضي الدولة باسمهم، وتعتبر فيها العطاءات من مشاريع الدولة والترخيصات والعمولات والوكالات شؤونا تخص المحظيين من أقارب الحكام أو مقربيهم أو دافعي الرشوة لهؤلاء، والاغتناء من المنصب رياضة نخبوية مسلم بها مثل الجولف ومثل العضوية في ناد، ولا تحلم سيادة القانون أن تصلهم، أما استغلال المنصب لغرض تلبية حاجات أخرى والإزعاج الجنسي للموظفات والصحافيات وغيرهن فلم يصل بعد إلى درجة الجريمة أصلا.

ومن يعش في دول كهذه ويسمع عن بهدلة رئيس الدولة في إسرائيل وغيره يشعر بإعجاب حتى لو رغب بإخفائه لأسباب وطنية. ومع ذلك نود أن نوجه كلامنا لأولئك محذرين من هذا الإعجاب، ونقول:

أولا، يعتبر عام 1976 عام التحول في تاريخ محاكمات الفساد في النخبة الحاكمة إسرائيل. وفيه انكشفت فضيحة آشر يدلين مدير صندوق المرضى التابع للهستدروت والمرشح لوظيفة محافظ بنك إسرائيل من حزب العمل وقد اعتقل قبل ثلاثة أيام من تعيينه محافظا للبنك وحكم عليه بالسجن مدة خمس سنوات ودفع غرامة مقدارها 30 ألف دولار على منح أعمال محاماة ووساطة وسمسرة وغيرها لمقربيه وأقاربه بحيث يشاركونه بالمقابل المالي الذي يتلقونه لأتعابهم. وفي نفس العام أقدم وزير الإسكان أبراهام عوفر من قادة حزب العمل على الانتحار بعد اتهامه والتحقيق معه بخصوص فساد عندما كان في شركة "شيكون عوفديم" الإسكانية من القطاع العام. وفي نفس العام كشفت الصحافة وجود حساب في بنك خارج البلاد لليئا رابين زوجة رئيس الوزراء يتسحاق رابين في حينه لم تغلقه منذ أن كان سفيرا في أميركا، وفيه عشرة آلاف دولار. ودفعت ليئا رابين غرامة بمبلغ 250 الف ليرة في حينه، وقد خرج رئيس الوزراء في إجازة لأنه لم يستطع الاستقالة من حكومة انتقالية، ولم يترشح لرئاسة قائمة حزب العمل التي قادها عام 1977 شمعون بيرس وخسر الانتخابات. من الجدير ذكره أن المدعي العام، أي المستشار القضائي للحكومة في ذلك العام كان أهرون براك الذي أصبح رئيس المحكمة العليا فيما بعد. ولا شك انه في تلك الفترة شهدت إسرائيل ثورة في مفهوم سيادة القانون.

وتكررت منذ ذلك العام مشاهد المسؤولين الذين يحاكمون بتهم الفساد وأشهرها فضائح الوزير يئير ليفي ثم درعي من حركة شاس. وأخذت تتراكم مشاهد الفساد ليس كدليل على سيادة القانون فحسب بل كدليل على انتشار الفساد: التحقيقات ضد نتنياهو وشارون، الرشاوى والفضائح الجنسية في الجيش. وفي مثل هذه الحالة لا بد أن يقال إن الأخلاق والثقافة السائدة وليس القانون هي وسيلة الحفاظ على سلوك نخبة المجتمع.

ويفترض أن يتدخل القانون في حالات استثنائية لا تحمي منها ولا تردع فيها الأخلاق والثقافة السائدة. ولكن تحول القانون إلى بديل عن القيم السائدة، وتحول الشرطة إلى حامي أخلاق النخبة الحاكمة المجتمع يعني أن الفساد استشرى تماما، ويأتي وقت يتبين فيه أن الفساد وصل إلى صفوف الشرطة، وان وزراء قضاء يتعرضون لمحاكمة: تساحي هنجبي وزير قضاء سابق فاسد يحاكم بتهم تعيينات، دون مؤهلات، بالمئات في وزارات تولاها في السابق، وحاييم رامون يحاكم على إزعاج جنسي. لم يعد الإعجاب بسيادة القانون يغطي على استشراء الفساد السياسي والأخلاقي في المؤسسة الحاكمة.

وثانيا، بنفس المعنى الذي يمنع من الحديث غير المتحفظ عن ديمقراطية لبرالية قائمة على المواطنة في إسرائيل لأنها ديمقراطية لليهود، كذلك لا يمكن الحديث عن سيادة القانون في بلد يحاكم فيه الرئيس على الإزعاج الجنسي وربما الاغتصاب ووزير بتهمة تلقي الرشوة، ولا يحاكم فيه شرطي أو أي رجل أمن على قتل إذا كان المقتول مواطنا عربيا. فالهدف البدائي الابتدائي لسيادة القانون هو حماية الحياة، وأم الجنايات وأبوها هي جناية القتل...ليس هنالك ما يفوقها أهمية عند الحديث عن سيادة القانون.

في الـ 29 من أكتوبر عام 1956 قامت كتيبة من حرس الحدود الإسرائيلي بقيادة شموئيل ملينكي التابعة لشعبة بقيادة الكولونيل يسسخار شدمي بقتل 48 مدنياً عربياً بينهم نساء و 23 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 8 - 17 سنةً. و قد أفادت مصادر أخرى بأن عدد الضحايا بلغ 49 و ذلك لإضافة جنين إحدى النساء إلى عدد الضحايا. أمرت الكتيبة بإطلاق النار على كل من يخالف منع التجول. وعندما سأل الجنود ملينكي: "ماذا عمن لم يسمع بحظر التجول" أجابهم بعربية مكسرة "الله يرحمو". وهكذا أطلقت النار على من عاد من عمله إلى بيته قرية كفر قاسم في ساعات المساء ولم يسمع عن منع التجول. جمعوا وحصدوا بالرصاص عند مدخل القرية. وقد أصدرت أوامر شبيهة في قرى أخرى ولكن الآمرين على المستوى الميداني لم يصدروا أوامر بإطلاق النار. حوكم11 جنديا شاركوا في إطلاق النار على المواطنين وحكم عليهم بالسجن 17 سنة. ولكنهم حازوا على عفو بعد ثلاث سنوات لم يقضوها في السجن أصلا بل في نزل للجنود. وبعد إطلاق سراحه عاد ملينكي إلى الخدمة في حرس الحدود وتمت ترقيته. أما شدمي الذي ادعى ملينكي انه تلقى الأوامر منه مثل بقية الضباط ، ومنه سمع لأول مرة عبارة "الله يرحمو"، فلم يحاكم بل تعرض لتأديب عسكري حكم عليه بدفع قرش واحد غرامة.

نحيي قريبا ذكرى مجزرة كفر فاسم. ولكن من ذلك الحين سقط ستة شهداء يوم الأرض برصاص الشرطة، وسقط شهداء هبة القدس والأقصى في بداية أكتوبر 2000، ورغم توصيات لجنة تحقيق رسمية لم يحاكم أي شرطي أو ضابط وتم العمل على إخفاء الأدلة. ومنذ أكتوبر قتل 20 مواطنا عربيا برصاص الشرطة إما على حاجز داخل الخط الأخضر أو بادعاء رفض التوقف أو عند الاعتقال أو بدون أي سبب، ولم يحاكم شرطي واحد حتى اليوم.
لا سيادة قانون في إسرائيل عندما يتعلق الأمر بمقتل عربي، ولا مبرر للإعجاب بسيادة القانون.

ثالثا، إذا كان البعض من دول سيادة أو جلالة أو سمو الحكام يصر على الإعجاب بدول سيادة القانون فلديه أمثلة طازجة من الأسبوعين الأخيرين من دولة لم تغتصب وطنا بأكمله، ويعتبر فيها القتل جناية بغض النظر عن هوية المقتول. وإذا لم يستطع البعض ضبط حاجته للإعجاب فليعجب بسيادة القانون في السويد مثلا. ليس كل ما فيها يثير الإعجاب، ولكن في السويد وقبل أن تحاكم وبمجرد اتهامها استقالت ماريا بوريليوس وزيرة التجارة الخارجية السويدية بعد ثمانية أيام من تعيينها لأنها لم تدفع رسوم التلفزيون الرسمي الممول من ضرائب الناس، ولأنها دفعت لمربية أطفالها أجرتها نقدا لتوفر الضرائب. أما سيسليا ستيجو شيلو وزيرة الثقافة فقد استقالت بعد عشرة أيام من توليها المنصب وبعد توجيه تهم مماثلة لها. لم تنتظرا المحاكمة ولا نتائجها، استقالتا من منصبيهما...لأنهما لم تدفعا ضريبة سنوية صغيرة. وهي في الواقع رسوم يدفعها المواطن سنويا لتمول التلفزيون الرسمي ليبقى خارج تأثير الدولة المباشر ولتكون هنالك محطة واحدة على الأقل خارج تأثير قوانين السوق والعرض والطلب...سبب إضافي للإعجاب في هذه الحالة.

لديكم ثلاثة أسباب للإعجاب. سيادة قانون، استقالة عند مجرد الاشتباه قبل المحاكمة، وتهم لا تحسب فسادا بالمعنى الذي تعرفه المنطقة... يعتبر فاسدو دول المنطقة من مقاولين وتجار أسلحة وقابضي عمولات من المسؤولين وأبنائهم وأقاربهم تهما من هذا النوع إما مزاحا ثقيلا أو إهانة وتقليل شأن لا تخطر بالبال.

التعليقات