23/01/2015 - 22:03

شاهد على النّقب / رأفت عوايشة

​المشهد الأوّل: انعدمت الرّؤية، أهو الغاز؟ لا أستطيع التّنفّس، لا نستطيع التّنفّس، الرّؤية، الشّمّ أو السّمع... انقطعت الحواسّ، اختفت وذابت، بدأت بالرّكض، بدأنا كلّنا بالرّكض لنهرب من منطقة الغاز.

شاهد على النّقب / رأفت عوايشة

المشهد الأوّل: انعدمت الرّؤية،  أهو الغاز؟ لا أستطيع التّنفّس، لا نستطيع التّنفّس، الرّؤية، الشّمّ أو السّمع... انقطعت الحواسّ، اختفت وذابت، بدأت بالرّكض، بدأنا كلّنا بالرّكض لنهرب من منطقة الغاز. في كلّ متر تقطعونه ترون إنسانًا آخر يركض لينجو بحياته! ماذا تتوقّعون؟ عشرون ألف إنسان في مساحة صغيرة ومئات قنابل الغاز من جميع الجهات. عشرات المشيّعين مُلقون على الأرض بين القبور، مصابون بالاختناق، كالجثث متمدّدين، جثثٌ فوق الجثث!، أنظر حولي وأركض هاربًا من الغاز، وعند الوصول إلى تلك الحالة الّتي تطالبك قدماك فيها بالاستسلام، وتنذرك رئتاك بسيطرة الغاز على جسدك، تقع على الأرض، تخذلك قدماك وتبدأ بالزّحف، هو الاختناق ذلك الّذي يشبه الغرق بلا ماء، هو المسيطر وهو السّلطة والحاكم، لكنّك في النّهاية تستجمع كلّ ما فيك من قوّة، تقف بصعوبه وتركض ثمّ تركض ثمّ ...

المشهد الثّاني: 'المقبرة'، أو ساحة المعركة أو ساحة المجزرة إن أردتم. بدأ المشهد بوجوهٍ ممتلئةٍ بالحزن، وصلاةٍ مشبعةٍ بالألم، ابن السّبعين وابن السّبعةِ، الجدّ بجانب الحفيد، يذكرون محاسن الشّهيد ويغمرونه بالدّعاء، النّاس ملتصقة يبعضها لضيق المساحة وعدم اتّساع المقبرةِ لهذا الكمّ الهائل من المشيّعين. ماذا تتوقّعون؟ عشرون ألف إنسان في حيّز صغير. المقبرة ليست معدّةً كما ينبغي بمقاعد مريحة أو حتّى بقسم للمدخّنين، فكان على  من يريد التّدخين أن يخرج خارج حدود المقبرة  المحدّدةِ بحائطٍ صغير ارتفاعه ستّون سنتميترًا تقريبًا، سيطر علينا إدمان النّيكوتين ودفَعَنا لتجاوز حدود الموت واللّجوء إلى منطقة المدخّنين، هاربينَ من رائحة الموت الّتي تملأ المكان، انضممنا إلى جموع المدخّنين الّذين هم بالعشرات، أُشعلت السّجائر حتّى اللّحظة الّتي رمى فيها كلٌّ منّا سيجارته دون أن يكملها.

المشهد الثّالث: 'الشّرطي'، فجأةً ترتفعُ الأصوات ويعلو الصّراخ؛ 'الشّهادة يا رجال'، 'إلّي بيعاود هامل'،'يلا يا زلام'، كلامٌ أيقظ فينا كلّ شيء. وهنا ظهر الملثّم الفلسطينيّ من وسط الجنازة للمرّةِ الأولى منذ استشهاد سامي الجعّار ليعلن للمحتلّ الّذي جاء مستفزًّا ومستبدًّا منخدعًا بسلاحه وسلطته ظنًّا منه أنّه سيمرُّ مرور الكرام بين أبناء البلد المُغتصَب وشبابه الغاضب الثّائر، لا لن يمرّ وعجرفته وطغيانه سينتهيان هنا، هنا في مقبرة الشّهيد سامي الجعّار. يتدافعُ الشّباب ليلقِّنوا ذلك المجرم درسًا في احترام حرمةِ الميّت ومعنى الشّهادةِ ومنزلةِ الشّهيد. لكنّ المجرم مستمرّ بعجرفته، كان الحلّ بالنسبة له هو إطلاق النّار من فوّهةِ سلاحه النّتن الجبان، أطلق رصاصه في الهواء ظنًّا منه أنّ الخوف سيجعل الشباب تتراجع ونسي أنّهم رفعوا شعار الشّهادةِ عنوانًا لقبولِ التّحدّي الّذي فرضه علينا، نعم لم يتراجع أحد منّهم خطوةً إلى الوراء...

المشهد الرّابع: 'الحدود'، أمطرت السّماء قنابلَ كثيرة، وتحوّل الهواء إلى ضباب ممزوجٍ برائحة لا تُحتمل، أطلق العدو الرّصاص المطّاطيّ وقنابل الصّوت بين الشّباب المتجمّعين في المقدّمة فهربوا إلى الخلف، قفزوا من فوق 'الحدود'، واختبئوا تحت جدار بارتفاع خمسين سنتمترًا يختبئ خلفه المئات خوفًا من الّرصاص، وهناك رأيت 'الجدّ' ذاك الرّجل الكبير في السّنّ مختبئًا وراء الحدود وفاتحًا يديه على مصراعيهما وفيهما يختبئ أربعة صبيه صغارُ في السّنّ خائفين من أصوات الرّصاص اللّعينة، شعرت بإحساسهم بالبرد أكثر من الخوف لقربهم والتحامهم بجدّهم، صرخ الجدّ مخاطبًا إيّاي: 'قرِّب يا ولدي إِلبد عندي' بمعنى أن اقترب وأختبأ بجانبه ففهمت أنّ الأطفال أو قسمٌ منهم ليسوا أحفاده لكنّ يديه اتّسعت لهم جميعًا وحاولت حمايتهم كقلبهِ الخائف عليهم...

المشهد الخامس: 'الشهيد' أنا لصديقي: 'مفيد كم معتقل في؟'، لماذا هذا السّؤال بالذّات؟ أهو لأنّ سقف التّضحية عندنا مبنيّ على الاعتقال؟ أهو لأنّ عقلي يرفض أن يؤمن أنّ هذا العالم مظلم، وأنّ واقع شعبنا مظلم؟ أو لربّما لأنّي لم أتخيّل يومًا أن يسقط شهيدٌ في جنازة شهيد...

سقط سامي الزّيادنة ابن الاثنين وأربعين وجعًا، الأب والزّوج، شهيداً في جنازةِ سامي الجعّار ابن الاثنين والعشرين ربيعًا. قُتل سامي الكبير على يد الجبناء أنفسهم الّذين قتلوا سامي الصّغير. وترك ذلك علامة استفهام لدى عشرين ألف مشيّعٍ قد قالوا في قرارة أنفسهم: 'كان ممكن أكون أنا محلّه'. ترًكَنا المُغتَصِب في أزمةٍ مع أنفسنا وترك لنا تساؤلاتٍ عديدة أهمّها هل تحتمل رهط خسارة ابنًا آخرَ؟، هل سنترك دماء سامي تذهب هدرًا؟

 أُعلن خبر استشهاد سامي الزّيادنة من مستشفى بئر السّبع فخرج ابنه من باب المستشفى منكسرًا مندفعًا محطّمًا وغاضبًا يصرخ بحرقةِ وحش جريح: 'قتلوا ابوي، قتلوا ابوي'، اندفع نحو كلّ رمز للسّلطة أمامه باحثًا عن الانتقام لوالدهِ الشّهيد... فصاغ بحرقته واندفاعه لنا جوابً على كل أسئلتنا الانتقام والحساب في دولة حكمها قانون الغاب ..

الغرقُ يا سادة لم يكن في الماء، غرقنا بدماء الشّهيدين سامي وسامي، غرقت رهط بدماءٍ طاهرة، دماءٍ ثائرة، من القادم يا ترى؟ أنا؟ أم هو، أم هي، أم أنتم؟ فجميعنا مُستهدفون!

التعليقات