19/09/2013 - 18:00

هناك في لندن، التقيتُ به لأوّل مرّة/ نصري دكور

دخلتُ إلى المقبرة ونظرتُ إلى القبور والأضرحة، فرأيتها بعيدة متناثرة. أيقنتُ أنّ إيجاد القبر ليس بالأمر السهل، وأنّ رحلتي هذه قد تطول كثيرا. تنقّلتُ بين القبور والأضرحة وأنا اقرأ أسماء أصحابها الذين ينتمون- كما أنا- لهذا الوطن العربي الكبير. فهذا وُلد في بغداد، وذاك في طرابلس الشرق، وتلك في اليمن. شواهد قبور تروي قصص أصحابها الذين لسبب أو لآخر، تركوا أوطانهم الأصلية، وجمعهم تراب الغربة، في مقبرة تبعد آلاف الكيلومترات عن مساقط رؤوسهم. إنتابني شعور قويّ بالغرُبة وأنا اقرأ الأسماء، وبدأتُ أفكّر وأسأل نفسي: من كان هؤلاء؟؟ ما الذّي دفعهم للهجرة؟؟ كيف طاف بهم الزمان وأصبحوا أسماءا عابرة في مقبرة غريبة؟؟ هل ما زال لدينا أمل نحو مستقبل أفضل يمنع أمثالهم من الهجرة لكي نكسبهم في أوطاننا؟؟

هناك في لندن، التقيتُ به لأوّل مرّة/ نصري دكور

نصري دكور

هناك في مقبرة بروكوود حيث ما زال يقيم منذ استشهاده في ٢٩.٨.١٩٨٧. بعيدا عن الشجرة، بعيدا عن فلسطين، بعيدا عن كل شيء.

قرأنا كثيرا عن ناجي، وعن حنظلة، وعن الانحياز للفقراء، لمن هم تحت. عن المخيّم وعن قريته الشجرة وعن العودة، وعن فلسطين. التقينا به في كل مكان: في كتاباتنا، أقوالنا، أحلامنا، وحتّى في ملابسنا التي تحمل رسوماته. لكنّي ولأوّل مرّة، ذهبت لكي ألتقي به، على الرغم من المسافة الفاصلة بين عالمَينا.

استقلّيتُ القطار من محطة ووترلو في وسط لندن، وبعد ٤٠ دقيقة تقريبا وصلتُ إلى محطة القطار في بروكوود. قال لي أحد المحليين إنّ المقبرة موجودة بجانب محطّة القطار، فتوجّهتُ إليها.

دخلتُ إلى المقبرة ونظرتُ إلى القبور والأضرحة، فرأيتها بعيدة متناثرة. أيقنتُ أنّ إيجاد القبر ليس بالأمر السهل، وأنّ رحلتي هذه قد تطول كثيرا.

تنقّلتُ بين القبور والأضرحة وأنا اقرأ أسماء أصحابها الذين ينتمون- كما أنا- لهذا الوطن العربي الكبير. فهذا وُلد في بغداد، وذاك في طرابلس الشرق، وتلك في اليمن. شواهد قبور تروي قصص أصحابها الذين لسبب أو لآخر، تركوا أوطانهم الأصلية، وجمعهم تراب الغربة، في مقبرة تبعد آلاف الكيلومترات عن مساقط رؤوسهم. إنتابني شعور قويّ بالغرُبة وأنا أقرأ الأسماء، وبدأتُ أفكّر وأسأل نفسي: من كان هؤلاء؟ ما الذّي دفعهم للهجرة؟ كيف طاف بهم الزمان وأصبحوا أسماء عابرة في مقبرة غريبة؟ هل ما زال لدينا أمل نحو مستقبل أفضل يمنع أمثالهم من الهجرة لكي نكسبهم في أوطاننا؟

استمرّيت على حالتي هذه قرابة الساعة، أفكّر وأتنقّل بين القبور، وفجأة، وقعت عيناي على قبر رخامي أسود، على مقربة من مدخل المقبرة الذي دخلتُ منه، نسيت وقتها غُربتي وتساؤلاتي، وقرأتُ الاسم على الشاهد، مرّة وأخرى. إنّه هو، إنّه ناجي العلي.

اقتربتُ من القبر رويدا رويدا، ومع كل خطوة خفق قلبي بقوّة أكبر، انحنيتُ أمامه وقبّلتُ الشاهد، كان حضوره رهيبا، قويّا، جبّارا، تماما كما هو حنظلة في رسوماته.

كانت صورته أمامي، على الرغم من غيابها من على شاهد القبر، وشعرتُ للحظة أنّه موجود في عالمي، نظرتُ إلى القبر للحظة، كان قبرا عاديّا مثل باقي القبور، تغطّيه باقة من الزهور لا غير. هكذا كان في حياته، عاديّا كما كل الناس، وهكذا هو قبره، أردتُ أن أهديه شيء، أي شيء، يشتمّ منه رائحة فلسطين، ولم يكن معي غير كوفيّة فلسطينيّة وقلادة حنظلة، تركتهما على القبر، بعد أن كتبتُ على الكوفية عبارته المشهورة "أنا مُنحاز لمن هم تحت" هكذا كان ناجي، وهكذا هو قبره: مُتواضع، ومنحاز لمن هم تحت.

بعد بضعة دقائق، آن أوان الرحيل، مشيتُ باتجاه المدخل الرئيسي الذي دخلتُ منه، نظرتُ مرّة أخرى إلى الوراء، ألقيتُ النظرة الأخيرة، ثمّ أكملتُ سَيري نحو محطّة القطار، نظرتُ إلى السكّة الحديديّة الممتدّة بجانب جِدار المقبرة حيث يمرّ آلاف المُسافرين يوميّا، سألتُ نفسي: هل يعرف هؤلاء أنّ أحد أسماء فلسطين الحُسنى يبعدُ عنهم بضعة أمتار فقط؟ هل يعرفون شيئا عن ناجي، أو الشجرة، أو فلسطين؟

أسئلة كثيرة دارت في رأسي، لكنّها لم تستطع أن تصرف انتباهي عن أمر واحد: أنّي إلتقيتُ به، هناك، في لندن، بعيدا عن كل شيء، وقريبا من كل شيء.

التعليقات